في مجتمعات تسقي عقول فتياتها بأسطورة "فارس الأحلام"، وتُصوِّر "ظلّه" كمصدر أكثر أمانًا عليهن من "أربع حيطان"، تكبر الفتاة لتصبح كمثيلاتها ممن اخترن "ظل راجل ولا ظل حيطة"، فما مصير تلك التي تمردت واختارت "الحيطة"؟
عندما تخوض الفتيات المصريات تجربة السكن بمفردهن سواء كنّ مغتربات من إحدى محافظات مصر أو قرّرن الاستقلال عن الأهل، يقعن فريسة لسطوة المجتمع الأبوي، وتتعدد الأطراف التي تمارس عليهن حق الوصاية، فيتعرّضن بدايةً لسيْلٍ من الأسئلة من قبل السمسار (الوسيط بين صاحب العقار والمستأجر) عن أسباب لجوئهن للسكن بمفردهن، وعندما تفلت من عقبة السمسار يفرض أصحاب البنايات السكنية قواعدًا تتنافى مع الحريات الفردية خاصّة لو كانت المستأجرة "بنت"! هذا الإقصاء المُمنهج والذي يُقلّل فرص حصول النساء على سكن آمن مقارنة بالرجال يُعدّ نوعًا من أنواع العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي.
"عشان انتِ بنت"
"وأنا بمضي العقد، صاحب الشقة قاللي مش هينفع عشان انتِ بنت"، بهذه الكلمات بدأت الصحفية إيناس كمال سرد حكايتها مع صعوبة البحث عن سكن مناسب خلال عشر سنوات مدة إقامتها في القاهرة، حيث تنقلت بين عشر بنايات سكنية في مناطق مختلفة للحصول على سكن آمن، وكان السمسار في أغلب المرّات هو الوسيط بين مالك البناية وبينها. وقد تعرضت إلى الرفض كثيرًا من قبل المالك رغم ملائمة السكن مع احتياجاتها، فلجأت إلى سمسار آخر وجلب لها سكنًا في منطقة وسط القاهرة، ورغم أن سعر الإيجار يفوق دخلها اضطرّت إلى الموافقة واللجوء إلى مساعدة أهلها.
وعن أصعب المواقف التي تعرّضت لها تقول: "أكثر موقف كان صعب بالنسبة لي وعمري ما هنساه لما بوّاب العمارة اتحرّش بيا". لم تتوقف إيناس عن ذكر المواقف التي تُهدد أمنها الشخصي، ففي أحد البنايات السكنية التي كانت تقيم بها في منطقة "السيدة زينب" قام ابن صاحبة المنزل بإزعاجها وتخويفها قائلة: "الولد وأصحابه رموا أزايز (زجاجات) بيرة قدام الشقة بتاعتي الساعة 2 بالليل وفِضِل يخبّط (يطرق) على الشقة"، ولم يكن أمامها خيار سوى الانتقال من المكان. لم يتوقف الولد عند هذا الحد، بل حصل على رقم هاتفها وحاصرها لمدة سنة، وعندما وجدت سكنًا آخر لم تسلم من العنف، "السمسار مشّاني من الشقة بالليل ومن غير ما يديني التأمين عشان واحدة زميلتي جات باتت معايا، وكان لازم ألاقي سكن فورًا عشان أبات فيه"، تقول إيناس، مواصلة: "مرّ عليّ أيام كتيرة أوي أعيّط (أبكي) وأنهار في الشارع"، ولكي تحصل على سكن في مكان آمن كانت تواصل العمل ليلاً نهارًا، فقالت "اللاب توب رفيقي وكنت بضطر أقعد على الرصيف (بدلًا من مقهى مثلًا) لأرسل مقالاتي، عشان أوفر فلوس للسكن".
السكن الآمن بداية الاستقلالية وربما نهايتها
استهلّت هادية محمد حديثها عن ختام رحلتها، التي استمرت ثمانية أشهر للحصول على سكن في منطقة "مصر الجديدة" المُصنّفة ضمن المناطق الراقية، بهذه الجملة: "أنا مسكنتش بكوني مستقلة، أنا سكنت مع أختي ولما بابا وماما جُم معانا". واجهت الفتاة تحديات كثيرة؛ فتارة تُرفَض لأنّها فتاة بمفردها، وتارةً أخرى تُرفض بسبب عدم ارتدائها الحجاب، وفي نهاية المطاف حصلت على شقة بخمسة آلاف جنيه، أي ما يوازي كامل دخلها الشهري. وعن معاناتها مع السماسرة خلال السنتين الماضيتين منذ أن أتت إلى القاهرة من مدينة دمياط، ذكرت على لسان أحدهم "أنا ما بتعاملش مع حريم، أنا عايز راجل، أنا ما بسكّنش ستات لوحدهم، أنا عارف هتعملوا إيه في الشقة"، كما تعرّضت إلى النصب والتحرّش اللفظي. وفيما يتعلق بمُلاّك المنازل، فقد فرضوا عليها العديد من الشروط التي تُقيّد حريتها فقط لأنها أنثى، منها: "انتِ بنت مينفعش ترجعى بعد الساعة 9 بالليل"، فكان البديل الأمثل أمامها التخلي عن كامل راتبها للحصول على سكن مناسب. "حلمي أنا آخذ شقة من غير ما حد يضايقني وأكتب اسمي في العقد"، وفي سبيل ذلك واجهت الضغط وكافة أشكال العنصرية، ففي إحدى المرّات تشاجرت مع صاحبة الشقة ووصل الأمر إلى حد التشابك بالأيدي. "لو انتِ مستريحة في السكن الدنيا كلها هتكون مظبوطة" هكذا عبرت الفتاة التي تعمل في مجال حقوق المرأة عن أهمية السكن في مشوار الفتيات نحو تحقيق استقلاليّتهن، واختتمت حديثها بهذه الكلمات "لو الدنيا مظبطتش معايا في سكن ملائم لدخلي خلال سنة هرجع محافظتي تاني".
فتيات كثيرات تعرّضن للتحرّش اللفظي والجنسي من قبل السمسار الذي يتدخّل في خصوصياتهن
أما مروة حسن، فتاة عشرينية أنهت تعليمها الجامعي في محافظة البحيرة (إحدى محافظات الوجه البحري)، وانتقلت إلى القاهرة لتستكمل مشوارها الذي بدأ منذ دراستها الجامعية بولع الرّسم، وعندما قررت الاستقرار في العاصمة، أصبح الحصول على سكن مناسب هاجسها الوحيد طيلة اليوم قائلة: "الإيجار غالي جدًا، والشروط بتبقى أسوأ من شروط الأهل، وفي وصاية وتسلّط، وأقل أوضة (غرفة) بـ1500 جنيه، وأنا مرتبي 2500 جنيه"، وبعد رحلة بحث شاقة لمدة أشهر اضطرت لاستثمار كل مرتّبها في السكن: "عشان ألاقي مكان أمشي وأعيش فيه براحتي من غير وصاية، هدفع في الأوضة مرتبي كله ومش هأكل ولا هأشرب"، وبهذا أصبحت مُحدّثتنا فريسة الصراع بين تحقيق أحلامها والعمل في أكثر من مهنة لتوفير المال اللازم لضمان استقلاليتها، وكانت النتيجة: "ركنت أحلامي مع أول شغلانة".
"السمسار" وسيط يلبّي وصايا المجتمع
قمتُ باستطلاع رأي 20 فتاة من "المغتربات-المستقلات"1 في مطلع شهر نوفمبر المنقضي، تتراوح أعمارهن بين 23 إلى 32 سنة، وتعملن في مجالات مختلفة منها الإعلام والتدريس وخدمة العملاء والقطاع الهندسي وغيرها، وذلك بهدف التعرّف على التمييز القائم على أساس النوع الاجتماعي الذي يتعرضن إليه من قبل السمسار وصاحب البناية السكنية والجيران، سواء في مناطق شعبية (شبرا مصر، بين السرايات، فيصل، غمرة، الجيزة، الإسعاف، أرض اللواء، الهرم)، أو أخرى تُعدّ متوسطة وراقية (الدقي، السادس من أكتوبر، وسط البلد، التجمع، العباسية، مصر الجديدة، العجوزة).
أوضح استطلاع الرأي أنّ صاحب العقار كان في مقدّمة الأشخاص الذين يمارسون العنف بجميع أشكاله ضدّ الفتيات اللاتي أبدين رأيهن، يليه السمسار، وتساوت النسب بين الجيران في العمارة السكنية والجيران في المنطقة. أمّا عن السؤال المتعلق بأكثر المواقف السيئة التي تعرّضن إليها مع المالك، فتنوّعت الإجابات بين التحكّم في أوقات الدخول إلى المنزل، والتعرّض إلى التنمر والتحكم في المظهر الخارجي ومحاولات الاعتداء بالضرب. ويُظهر الاستطلاع أن أغلبهن تعرّضن للتحرّش اللفظي والجنسي من قبل السمسار الذي يتدخّل في خصوصياتهن، ويُحاصرهن بالأسئلة عن عملهن ومواعيده، وحتّى عن علاقاتهن سواء بالتلميح أو التصريح.
في هذا السياق، التقيتُ بمحمد أحمد (50 سنة) يعمل في مجال السمسرة بمنطقة وسط البلد منذ عشرين عامًا، وطرحتُ عليه المضايقات التي تعرّضت لها الفتيات داخل الاستطلاع، فأكد لي أنّ بعض المُلاّك يرفضون تأجير شققهم للنساء المُستقلاّت بحجج مختلفة من بينها مثلا طبيعة عملهن (المجال الفني أو الكافيهات) ويُفضّلون عليهنّ الطالبات، وأنّ بعضهم الآخر -وهم الأغلبيّة- يرفضون تأجير شققهم للنساء بشكل عام سواء كانت عاملة أو طالبة. وكشف لي محمد أنّ بعض السماسرة يرفضون البنات قبل الوصول إلى صاحب السكن: "مثلا لو بنات بيشتغلوا في كافيتيريا ويرجعوا الفجر مش هسكّنهم طبعًا، والسمسار له دور كبير في إقناع صاحب المنزل"، مُضيفًا قوله: "سبب واحد بس اللي أرفض فيه تسكين البنات لو كانت بنت من القاهرة والجيزة سايبة أهلها وجاية تسكن لوحدها ليه وعشان تعمل إيه".
المجتمع يفرض وصايته على الفتاة التي تقرر السكن بمفردها
وعن ارتفاع التكلفة الاقتصادية للسكن، صنف محمد المناطق السكنية2 إلى مناطق شعبية ذات أسعار منخفضة مثل بين السرايات، وبولاق، وفيصل، وأرض اللواء، ولكنها تمثل خطرًا على الفتيات، بينما المناطق المتوسطة والراقية مثل مصر الجديدة، ووسط البلد، والمعادي، والعجوزة والتجمع فهي أكثر أمانًا لهنّ لكنها مرتفعة التكلفة فأقل سعر شقة في وسط البلد يبدأ من أربعة آلاف جنيه، أما متوسط الأسعار فيبدأ من سبعة آلاف جنيه، وتصل الأسعار في منطقة جاردن سيتي إلى 15 ألف جنيه. وأكد محمد أنه في حالة التأجير للفتيات فإنّ السعر يرتفع مقارنة بالشباب نظرًا إلى صعوبة الحصول على سكن يلائمهن ويضمن لهن حريتهن ولو نسبيًا. أمّا عن المضايقات التي يتعرّضن لها من قبل السماسرة مثل التحرش الجنسي، كشف مُحدّثنا أنّه يوجد العديد من السماسرة المُتحرّشين قائلا: "كل مهنة فيها الحلو والوحش ومهنتنا فيها سماسرة وحشين كتير".
التقيتُ بسمسار آخر بمنطقة بين السرايات (الحي المقابل لجامعة القاهرة)، والذي يضم أكبر نسبة سكن للمغتربات والمستقلات، وتظاهرت بأنّني أبحث عن سكن فنزل عليّ بسيل من الأسئلة من قبيل ما عملك؟ ومتى تعودين منه؟ وهل معكِ كارنيه يثبت هوية المكان الذي تعملين به؟ فاستوقفته قائلة: "هل تطرح هذه الأسئلة لو كان المستأجر ذكرًا؟"، فرد بنبرة حادة: "لا طبعًا يا آنسة، دا ولد هسأله الأسئلة ديه ليه؟"، وبعد نقاش لم يدم طويلا قال لي: "أنا هسكّنك وهجرّبك، لو لقيتك ملتزمة بكل القواعد هتكمّلي، مش ملتزمة مش هتكمّلي".
"فيمي هاب" قشّة تتعلق بها المستقلاّت
تضمّ مجموعة فيمي هاب Femi-Hub على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ألف امرأة، وهي مجموعة لدعم المستقلاّت والساعيات إلى تحقيق استقلاليّتهن، ويعدُّ موضوع الحصول على سكن آمن من أكثر الموضوعات الشائكة التي يدور حولها نقاش عام من قبل عُضوات هذه المجموعة. ولمعرفة مزيد من التفاصيل حول التمييز الذي يتعرّضن إليه خلال البحث على سكن تواصلت مع مؤسسة المبادرة سهيلة محمد، فأكدت لي أن المجتمع يفرض وصايته على الفتاة التي تقرر السكن بمفردها، ويأتي دور المجموعة لمعالجة الانتهاكات الكثيرة مثل الطرد من السكن في أي لحظة والمشاجرة مع السماسرة ومُلاك العقار، وتقول "البنات في الجروب (المجموعة) بيقدموا الدعم لبعض، وفيه دليل لأماكن الاستضافة الآمنة والرخيصة الموجودة في وسط البلد، محفوظ على الجروب، وممكن البنات يجمعوا من بعض عشان يدفعوا الإيجار لإحدى العضوات".
وانتقلت الناشطة النسوية للحديث عن العوامل التي تُهدد حصول الفتيات على سكن آمن، من بينها تخلّف بعض المُلاّك وتعاملهم مع النساء المستقلاّت بمنطق ذكوري سُلطوي إلى جانب الوضع الاقتصادي المتردي والذي انعكس على أسعار العقارات وبالتالي على المستقلات حيث وصل سعر الغرفة إلى 2500 جنيه، قائلة: "لقد تضاعفت الأسعار خلال سنة فقط بينما الأجور ثابتة. العبء يزداد على النساء في ظلّ فجوة الأجور المتفاقمة بين الجنسين في مصر"، مُضيفة قولها: "يحول السكن دون تحقيق استقلاليّة الفتيات، فعددٌ كثير منهنّ يصرفن نصف دخلهن أو حتّى أكثر على الإيجار".
تتعرّض الفتيات إذن، المُغتربات منهن والمستقلات، إلى ضغوط مجتمعية ومضايقات مستمرة في رحلة البحث عن سكن آمن، وهذه الضغوط تجعلهنّ في حيرة دائمة بين الدفاع عن اختيار الاستقلالية، ومواجهة الوصاية المجتمعية متعددة الأوجه حفاظًا على مساحتهن الآمنة، أو الانشغال الدائم لتوفير الموارد المالية اللازمة لخلق عالم مواز يُمكنهن من تحقيق أحلامهن بعيدًا عن التمييز الذي يُمارس ضدهن. أمام هذا المشهد القاتم يظلّ السؤال الأهم: متى تتساوى فرص الإناث والذكور في الحصول على سكن آمن؟!
- 1المُغتربات هن الوافدات من المحافظات بغرض الدراسة أو العمل، ويسكنّ في محل غير محل إقامتهن الدائمة ولا ينفصلن عن أسرهن، أما الفتيات المستقلات هن المنفصلات اقتصاديًا ومكانيّا عن أسرهن بعد بلوغهن السن القانوني والذي يبدأ من سن 18 إلى سن 21. وتتعدد تفسيرات مفهوم الاستقلال، والتي تشمل الاستقلال الفكري أو الحركي أو المادي أو المكاني. ويتناول الموضوع الحالي "الاستقلال المكاني" والذي يعني أن تتخذ الفتيات مسكنًا آخر غير منزل الأسرة للإقامة فيه، سواء في نفس المدينة أو في مدينة أخرى.
- 2صنف السماسرة الذين تواصلت معهم لإجراء الموضوع المناطق السكنية وفقًا لمستوى أسعار الإيجار وموقع المنطقة، وصُنفت الأماكن إلى شعبية مثل بين السرايات، الحي المقابل لجامعة القاهرة، حي بولاق، فيصل، أرض اللواء، بعض مناطق من محافظة الجيزة وبعض المناطق في السيدة زينب، وأما المناطق المتوسطة والراقية فهي الدقي، المهندسين، حي الزمالك، جاردن سيتي، مصر الجديدة، شارع التسعين بالتجمع الخامس، محافظة أكتوبر والشيخ زايد والمعادي.
إضافة تعليق جديد