تعرّف/ي على ناهد طوبيا

في منتصف عام 1984، كانت الطبيبة ناهد طوبيا المرأة الوحيدة من بين 20 طبيبًا اعتقلهم رجال الأمن من منازلهم ومن المستشفيات التي كانوا يعملون فيها.

كان السودان عند مفترق طرق، وكان الوضع الاقتصادي ميؤوسًا منه. طالت طوابير الانتظار للحصول على الخبز وشحّت الكهرباء. باتت غرف العمليات مهجورة بسبب عدم قدرة الأطبّاء على إجراء العمليات، وبات موت الناس نتيجة أمراض لها علاج أمرًا عاديًا.

ومع فشل النظام الصحي، اضطُرّ الأطبّاء المُنخرطين ضمن نقابة الأطباء إلى إيجاد طريقة للاعتراض على ما اعتبروه أزمة في نظام الرعاية الصحية.

كانت ناهد طوبيا آنذاك أمينة سرّ نقابة الأطبّاء في الخرطوم، وكانت النقابة تنوي دفع جميع الأطبّاء في السودان إلى القيام باستقالة جماعية تعبيرا عن اعتراضهم. لعبت طوبيا، خلال تلك الفترة، دورًا بارزًا كعضوة في اللجنة المسؤولة عن جمع رسائل الاستقالة، وهذا جزء من نشاطها المدني للاحتجاج على الوضع الاقتصادي المتدهور والأزمة السياسية.

من مكتبها في الخرطوم في أكتوبر/تشرين الأوّل 2018، تستعيد طوبيا ذكرياتها عن تلك الفترة، قائلة: "كان الطاقم الطبي يضمّ 419 طبيبًا. وبعد ستّة أشهر على لقائنا بالأطبّاء في مستشفيات مختلفة ومحاولتنا إقناع فروع النقابة في الولايات المختلفة أن تباشر النشاط، نجحنا في إقناع الجميع، باستثناء 30 طبيبًا إسلاميًا. لم تكُن المهمّة سهلة، بسبب عدم ارتياح معظم الأطبّاء، خصوصًا النساء اللواتي شكّلن الأكثرية، إلى التورّط في السياسة".

قُدّمت الاستقالات في ملفّ واحد، واعتُقلت الرؤوس المدبّرة للمبادرة بسرعة.

وبما أنّ طوبيا كانت المحتجزة الوحيدة بين الرجال، لم يعرف الضبّاط إلى أين يأخذونها.

تقول: "اقتادوني إلى سجن كوبر، لكنّ حرّاس السجن قالوا إنّ لا مكان لديهم للنساء، ثمّ أخذوني برفقة الآخرين إلى سجن أمدرمان، حيث رفض الحرّاس استقبال الأطبّاء في زنزاناتهم".

في نهاية المطاف، أخذوها إلى مخفر الشرقي للشرطة، حيث لا كهرباء أو ماء، وكانت تنام على أرضية أحد المكاتب.

في اليوم الثاني من اعتقالها، نظّفت غرفة التخزين، ونقلت حاويات البترول والأغراض المخزّنة إلى جهة واحدة وخصّصت زاوية لفراشها على الأرض. كما وضعت زهرة أحضرها صديقها في قارورة بيبسي كولا وجلست تقرأ كتابًا من والدها.

تتابع، مبتسمةً، "حاولت بعث جوّ من الدفء في المكان، فأنا سريعة التكيّف".

في اليوم نفسه، وصلنا الخبر أنّ الأطبّاء سيُدانون بالخيانة العظمى، وهي جريمة عقابها الإعدام. يبدو أن مدّة حبسهم قد تطول.

في يوم الاحتجاز الثالث، أعلنت "منظمة الصحة العالمية" السودان بلدًا غير آمن بسبب عدم توفّر المنشآت والخدمات الصحية فيه، وهدّدت بإغلاق المطار واعتبار البلاد منطقة أزمة.

تضيف طوبيا: "أثار ذلك التصريح خوف الحكومة، فلم يعُد بوسعها سوى إطلاق سراحنا، وهذا ما حصل".

تأثّرت ناهد طوبيا بالفكر النسويّ في مصر وخاصّة بمحاضرات نوال السعداوي في الستينات

كان البلد بأسره يتابع أخبارهم عن كثب، وفور إطلاق سراحهم، نظّم طلّاب من جامعة الخرطوم مسيرة احتجاجية للاعتراض على الوضع المتدهور في البلاد، حاملين الأطبّاء المُحرّرين على الأكتاف. كانوا أبطالاً، وأصبحت ناهد طوبيا بطلة في مجال عملها.

نبذة عن حياتها

كان اسم ناهد طوبيا عند الولادة ناهد فريد طوبيا. وُلدت في الخرطوم بحري شمال الخرطوم عام 1951. ناهد هي الطفلة المتوسطة في عائلة من سبعة إخوة: أربع بنات وثلاثة صبيان. كان والدها موظفًا يعمل في مشروع الجزيرة الزراعي، ثمّ في شركة تسجيل النقد الوطنية التي أصبح مديرها العام.

ذهبت إلى المدرسة في الخرطوم التي انتقلت العائلة إليها عام 1966. بنى والدها منزل العائلة على الشارع 5 من حيّ العمارات، وهو عنوانها الحالي حيث تسكن وتعمل.

في عمر الـ16 عامًا، التحقت بجامعة الخرطوم لسنة قبل الانتقال إلى مصر لدراسة الطبّ.

تفسّر: "أعتقد أنّني كنت أحقّق حلم والدتي. تزوّجت بعد إنهاء دراستي الثانوية، وكنت أريد أن ألتحق بالجامعة. كان لدي أصدقاء أطبّاء مقرّبون، وأحببت أن أدرس الطبّ".

في القاهرة، انخرطت طوبيا في المجال الثقافي، وكانت تشتري الكتب فور تقاضيها راتبها من السفارة السودانية في القاهرة ومن والدها في السودان. كانت تطالع المسرحيات وترتاد المسرح.

وفي القاهرة أيضًا اكتشفت الفكر النسويّ.

تقول: "لطالما عرفت أنّني مختلفة، كانت لديّ ميول نسوية، ولكنّني لم أعرف كيف أعبّر عنها. أتذكّر حضور محاضرة لنوال السعداوي في الستينيات، وكانت تتناول مواضيعَ لم يكُن أحد يتحدّث عنها من قبل. أتذكّر أنّني بكيت لدى رؤيتها تتحدّث علنًا".

أصبح الخطاب النسوي أساسيًا لعمل طوبيا المستقبلي ولانخراطها في النشاط المناهض لختان البنات والداعم للحقوق الإنجابية.

لدى عودتها إلى السودان من مصر، بدأت دورتها التدريبية في مستشفى الخرطوم. في السنة نفسها، وُضع اختبار المجلس الطبيّ السودانيّ للسماح للأطبّاء بالتخصّص في الجراحة. قبل ذلك، كان الأطبّاء السودانيون يدرسون لتختبرهم لجنة من المجلس الطبي البريطانيّ.

تتذكّر: "تحمّست وقلت لنفسي وللآخرين إنّني سأتخصّص في الجراحة لأنّني قادرة على ذلك. تقدّمت بطلب إلى المجلس السوداني ورُفض. لقد سمعتُ رئيس المجلس الدكتور عمر بليل يُخبر الناس أنّه لا يمكن السماح لامرأة قبطية مسيحية أن تصبح جرّاحة".

ناضلت طوبيا، وعبّرت عن استيائها للدكتور أحمد عبد العزيز، جرّاح أعلى جابه لمنحها مكانًا ونجح في ذلك. لكن، على عكس زملائها الرجال الذين اختيروا في الدورة نفسها، كان عليها أن تدفع.

عندما أتمّت الفحص من جزئين، سجّلت أعلى نتيجة وحصلت على مرتبة الشرف.

تقول: "أقاموا حفلة للاحتفال بنجاحنا، لكنّني لم أحصل على شهادة الشرف حتى الآن".

قادها استياؤها بشكل عام والشعور بالتمييز ضدّها إلى المملكة المتحدة، حيث أكملت تدريبها الجراحي وأصبحت الجرّاحة الأولى في ويلز.

تقول: "عندما كنت جرّاحة في ويلز، لم يكُن هناك جرّاحات".

بقيت في المملكة المتحدة تعمل ساعات طويلة كجرّاحة إلى أن لفتها مقال عن الختان كتبته فران هوسكن.

تقول: "لم تعجبني مُقاربتها للموضوع، لكنّ المقال أثار فضولي. كنت أذهب إلى المكتبة، كلّ صباح، وأجري بحثًا حول الختان حتى أمّنت مكتبًا هناك فأصبحت أداوم كلّ صباح وأعمل في الليل في المستشفى فقط لتسديد فواتيري".

في تلك المكتبة، عملت طوبيا على بحثها حول ختان الإناث واكتشفت شغفًا في العمل على الصحة الإنجابية.

اشتاقت طوبيا إلى ديارها، وبعد تجربة عمل ثريّة في المملكة المتحدة، عادت إلى السودان لتعمل في قسم جراحة الأطفال في مستشفى الخرطوم، وأصبحت ناشطة في نقابة الأطبّاء عندما كانت الترتيبات جارية ليقدّم الأطبّاء استقالة جماعية.

تابعت عملها وأبحاثها حول ختان الإناث، واهتمّت محطة الـ"بي.بي.سي" يبحثها المنشور من بين عدد قليل من الأبحاث حول ختان الإناث. جاء فريق إلى السودان لإنتاج وثائقي حول الموضوع وأجرت معها مقابلة.

تقول: "نسيت أمر المقابلة بعد إجرائها، لكنها ظهرت في فيديوهات مقرصنة ومتوفّرة للتأجير في محلات تأجير الفيديو في الخرطوم، وسرعان ما انتشر الفيديو وبدأت أتلقّى اتصالات ودعوات لإعطاء محاضرات".

منذ ذلك الحين، تتنقّل طوبيا مع جهاز تشغيل الفيديو ومع الفيديو المقرصن في سيارتها الزرقاء من نوع "تويوتا" وتتكلّم عن ختان الإناث أمام الناس في السودان.

أصبح الخطاب النسوي أساسيًا لعمل طوبيا التي انخرطت في النشاط المناهض لختان البنات والداعم للحقوق الإنجابية

تضيف: "أتذكّر أنّي تلقيت دعوة من نادٍ ثقافي يعقد لقائاته وسط مدينة الخرطوم للتحدّث عن هذه المسألة وعرض الفيديو. لم أنَم ليلتها ورحت أسأل نفسي عن الرواية التي يمكن أن أشارك الجمهور بها. هل أخبرهم أنّ ختان الإناث في جوهره محاولة للسيطرة على النشاط الجنسي للنساء، أم أكتفي بإخبارهم أنّه تقليد ضارّ؟".

عندما حضرت طوبيا إلى شارع البلدية تلك الليلة، كانت مصمّمة وواثقة الخطى. طلبت منهم تحضير لوح وبدأت ترسم الأعضاء التناسلية للنساء، وتحدّثت عن أهمية البظر.

ختان الإناث في أمريكا

في عام 1985، وبعد بضعة أشهر على احتجازها، اندلعت انتفاضة أطاحت بالدكتاتور جعفر النميري.

تركت ناهد طوبيا السودان من جديد، متوجهة إلى مدينة نيويورك، حيث أسّست "منظمة البحث والإجراءات والمعلومات من أجل السلامة الجسمانية للمرأة" المعروفة بـ"راينبو" ودرّست في جامعة كولومبيا.

كانت منظمة "راينبو" رائدة لأنها شكّلت النواة الأولى في العمل على ختان الإناث تحديدًا وعلى الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية، بشكل عام، وكانت مبادرة من أجل النساء الإفريقيات وبقيادتهنّ.

من خلال هذه المنظمة، غيّرت طوبيا السرديّة عن ختان الإناث وحوّلت المسألة إلى قضية انتهاك لحقوق الإنسان، ليس فقط مسألة صحية.

تقول: "بعد 13 عامًا، شعرت أنّ "راينبو" أنجزت 80 بالمائة من أهدافها الأساسية، ولم أرغب أن تصبح آلة أخرى لصنع المال. أردت تفادي التركيز على إرضاء زخم المتبرّعين الجدُد فقط".

تتذكّر طوبيا كَم كانت مرهقة بعد إدارة المنظمة لأكثر من عقد ومحاولة تبنّي طفلة أخرى. قبل سنين، كانت قد تبنّت سمر التي تدرس الآن بإحدى كليّات المملكة المتحدة.

عندما دخلت سمر إلى حياتها، أصبحت أيضًا جزءً من المنظمة لأنّ طوبيا خلقت مساحة عمل ملائمة للأطفال، وكانت تحضر ابنتها معها.

لدى عودتها إلى السودان عام 2007، بعد سنوات عاشتها في مدينة نيويورك، أرادت أن تحقّق أمرين. "أردت أن أنام في منزل والدي وآخذ عطلة من العمل، كما أردت أن أنقذ ابنتي من النظام التعليمي البريطاني" تقول ناهد.

يحتاج المحارب أن يستريح بعد القتال، وهذا ما فعلته لبضعة أشهر حيث ركّزت كلّ طاقتها على ترميم منزل والدها. في ذلك الوقت وإلى اليوم، طوبيا هي الوحيدة في عائلتها من تعيش في السودان.

تتابع: "عندما قرّرت العودة إلى العمل، كنت أعلم أنني أريد التركيز على شغفي، أي الحقوق الإنجابية والجنسية. في ذلك الوقت، كان الموضوع من المحرّمات وممنوع الحديث عنه".

استثمرت طوبيا طاقتها في تأسيس تحالف الشريط الأبيض من أجل أمومة آمنة، فرع السودان، للتركيز على وفيات الأمهات وإطلاق منصة "تيد أكس" للنساء في السودان.

مع حلول عام 2014، حضّرت وقادت ثلاثة مؤتمرات "تيد أكس" ناجحة في البلاد، وفي السنة نفسها، تخرّجت ابنتها واضطُرّت إلى اتخاذ قرار بشأن المكان الذي تريد أن تقضي فيه الجزء الثالث من حياتها.

تقول: "لديّ الحرية لأعيش في أيّ مكان. يمكنني العودة إلى نيويورك أو لندن، لكنّني أردت أن أكون في السودان".

رمّمت ناهد طوبيا، الطابق الأوّل من منزل والدها، ومن هناك أطلقت مركز "الصحة الإنجابية والحقوق المتعلقة بها"، وهو المركز الأوّل الذي يتناول بالبحث الحقوق الإنجابية والجنسية في البلاد. يقود المركز أيضًا شبكة تركّز على الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية.

يبدو أنّ ما عاشته طيلة حياتها كان لا بدّ أن يُثمر هذا المركز. مازالت ناهد طوبيا تأمل أن تشارك معارفها حول الموضوع وتلهم حركة يمكنها أن تستمرّ في النضال الطويل من أجل الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية.