"الشرف" و"العرض" هُما أهمّ الأسلحة الفتّاكة التي طالما استخدمها النظام الأبويّ البطريركي لقمع المرأة.
تحرير مهى محمد
تصوير: عمر شاهين
الشخصيات المصورة: جود ومار
اخراج: خالد عبد الهادي
هذا الملف بالشراكة بين ماي كالي وموقع جيم – Jeem.me
يؤلمني أنّنا إلى يومنا هذا ما نزال نتكلّم عن هذا الالتباس بين الشرف والنوع الاجتماعي (الجندر) والجنس، ولكنه من الواضح أننا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم نتكلّم ولم نكتب ما يكفي عن هذا الموضوع بعد ولم نجد السُبل الفاعلة والمُجدية لفضّ هذا النزاع على جسد المرأة وهُويّتها وحرّيتها وكرامتها الإنسانيّة. أكتبُ هذا المقال إلى أصحاب العقول المُستنيرة ممّن عبَروا بالفكر والجسد من عصور الظلمات إلى عصر الحريّات والتكنولوجيا والسماوات المفتوحة، وأرجو من خلال مساهمتي هذه أن اقدّمَ الفائدة لمن لم يعبَر بعد من مُستنقعات السَّلف والتخاريف والمفاهيم الخاطئة وعلى قائمتها جرائم "الشرف" علّنا نصلُ معاً إلى سويّة مُشتركة من الوعي والإحساس بالمسؤوليّة تجاه الإنسان والإنسانيّة. وهنا سأعملُ على تعريف "الشرف" ثمّ تفكيك هذا المفهوم الشائك في محاولةٍ لفهم آليّة عمله وارتباطه بالجرائم في الثقافة الذكورية السائدة ولقد سبقتني إلى ذلك الكثيرات في العالم العربي والغربي من أمثال نوال السعداوي، رجاء بن سلامه، ألفة يوسف، جمانة حداد، ميري ولستون كرافت، فرجينيا ولف، سيمون دو بوفوار، كيت ميليت وأفتخرُ بهنّ جميعاً وبنضالهنّ المختلفة في وجه النظام البطريركي القمعيّ.
هل ثمّة شرفٌ بين الأفخاذ؟
"الشرف" و"العرض" هُما أهمّ الأسلحة الفتّاكة التي طالما استخدمها النظام الأبويّ البطريركي لقمع المرأة وحتى وأدها حيّة لأنّها برأيهم حاملة للعار والشرف معاً. هذا النظام القائم على الثنائيات المتعارضة (رجل/امرأة، فاعل/مفعول، إيجابي/سلبي، عقلاني/عاطفي وغيرها) سلبَ المرأة حقّها الطبيعي في النّسَب حيثُ أصبحَ النّسَب من حقوق وامتيازات الرجل وسلبَها أيضاً حقّها في منحِ جنسيتها لأطفالها. ليسَ هذا وحسب بل أصبحَ كيانها وجسدها وهُويّتها مُلكاً لهذا النظام الذي يترأسه الإله الذكر والحاكِم الذكر ورجل الدّين وربّ الأسرة.
إنّ هذه الهرميّة تشكّلُ ضماناً للرجل وتظهِرُ في نفس الوقت خوفه وذعرَه من تفعيل دور المرأة في المجتمع كشريكة ومواطنة. ولضمانِ سُلطة وهمينة الرجل على الدّين والدّولة وضعَ قوانينه الصّارمة على المرأة والأسرة، فأصبحت المرأة سجينة ثنائيات هذا النظام القاتلة فهي أمامَ خيارين لا ثالثَ لهما: إمّا أن تكون عذراء/ زوجة أو هي بمفهومهم عاهرة. فالرجل في النظام الأبوي هو الذي يحملُ ميزان "العدل" ويكيلُ بما يفيدُ مصالحَه ويقيسُ ويُحدّدُ صِحّة الحياة الخاصّة والعامّة، الدّينية والاجتماعيّة، الجنسيّة والسياسيّة. ولذا عندما استملكَ الأرضَ وتحوّلَ إلى القتال والدّفاع عن البيت والعرض والوطن واستباحَ أراضي الغير وجدَ نفسه في مرتبةٍ أعلى وعيّن نفسَه مُمثّلاً لله وراعي الحِمى، وهكذا خلطَ بينَ شرف الوطن وشرف المرأة وأصبحَ هو الأصل وهي الفرع (ضلعٌ من ضلوعه) وصارت له القوامة.
هي إذاً معركة على السّيادة بين الرجل والمرأة وكانَ النصرُ حليفه فولَدَ البطريركيّة بكل ميثولوجياتها ورموزها لتعزيز دوره وفرضِ سيطرَته. ونحنُ إلى يومِنا هذا نرزَحُ تحتَ نيرانِ عروشِها ونقتتلُ باسمها إلى أن نُعيدَ تعريفَ كل مفاهيمها المغلوطة ومن بينها الجنس والعفّة، الرجل والمرأة، الأسرة والمجتمع.
التصقَ الشرف وفقَ النظام البطريركي بحالة المرأة الجنسيّة وأصبحَ مُرادِفاً لعدم فاعليّتها جنسيّاً خارجَ إطار الزواج، أي أنه ارتبطَ بالعفّة والبتوليّة والبكارة. المُضحك في الأمر أنّ شرفَ الرجل يتعيّن ويتحدّد بعفّة المرأة بينما شرف المرأة لا يتحدّد بعفّة الرجل وهكذا فرضَ الرجل العفّة على المرأة وحدها وأباحَ لنفسه التعدّد وحتى العلاقات الجنسيّة الحُرّة تحتَ أسماء مختلفة ووضعَ قوانين دينيّة ومدنيّة تناسبه هو، فأصبحت هي الدُّمية في هذه اللعبة السياسيّة. فله حريّة المُمارسة الجنسيّة متى شاء حيثُ يبقى عضوَه خارج التغطية الدينيّة، بعيداً عن الأعراف والأحكام الاجتماعية وحُرّاً طليقاً باسم القانون.
إنَّ الهدفَ من هذه المعايير المزدوجة التي طالت حُريّة اللباس، التنقّل والسّفر، الاستقلال، العزوف عن الزواج، اختيار المُمارسة الجنسيّة هو الحدّ من نشاط المرأة الجنسي وضبطه وتقنينه ومنعه خارج المؤسسة الزوجيّة. تمَّ ذلكَ بالفعل من خلال الترهيب، أسطورة الشرف (ما يُعرف بجرائم "الشرف")، القوانين الذكورية القروسطية التي لا تعترف إلى يومنا هذا بالاغتصاب الزوجي وتُبيح تزويج المُغتصِب بالضحيّة وتمنحُ لقبَ البطولة لمَنْ قتلَ أخته أو ابنته أو زوجته باسم "الشرف". إنّه لمنَ المؤسِف أن يكونَ لهذه المُمارسات البربريّة إطاراً قانونياً يُضفي عليها شرعيّة ما. وما يُثيرُ العجب فعلاً هو كيف للرجل أن يقتنع بهذه الأسطورة المشوِّهة لإنسانيّتنا جميعاً حيثُ قد تفقد المرأة غشاءها من خلالِ حركةٍ خاطئةٍ أو عن طريقِ ممارستها لرياضة ما أو حتى باستخدامِ التامبون أو قد لا تنزفُ أصلاً.
فماذا يحدث حينها لشرف الرجل بحسب هذه المنظومة الذكوريّة المُهترئة؟ وهل يُعقل أن يتبخّر شرفُ الرجل بسبب هذه المُمارسات أي بسبب غشاء لا حول له ولا قوّة؟ ماذا يحدث لشرف الزوج عندما يُمارس الجنس مع زوجته وتفقد "الغشاء" المزعوم، أين يُصبح شرفه؟ هل يذهب إلى حاوية القمامة؟ كيفَ للشرف أن يتوضّع في هذه الأمكنة الحميميّة الخاصّة؟ أينَ هو شرف الرجل عندما يتمّ رمي الأطفال حديثي الولادة في الحاويات؟ وأينَ هو شرفه المزعوم عندما يُدعى طفله/ته لقيطاً/ةً هذا إذا لم يتمَّ قتله/ها قبلَ ذلك؟ وأينَ هو شرفه عندما تتعرّض الأم العازبة لشتّى أنواع العنف والاستغلال وتواجه خطر الموت لأنّها تخاطر بحياتها وقد جُرّدت من كافّة حقوقها - حقّها في الإجهاض، حقّها بالوجود والعيش الكريم كإنسانة اختارت الممارسة الجنسيّة قبل الزواج، حقّها كأمّ عازبة في طلب المُساعدة المادّية والقانونيّة والرّعاية الصحيّة والنفسيّة؟ وهل يُمكن لشرفه هذا أن يُرمَّم ويُسترجع بعدَ زواله بقطبة أو قطبتين على يد قابلة قانونية أو طبيب/ة؟
وهكذا اختزَلت البطريركيّة كلاً من الرجل والمرأة في أعضائهما فأصبحَ السّائد علاقة قضيب بفرج بدلاً من علاقة زوج وزوجة أو أب وابنة أو حبيب وحبيبة، وما خرج عن هذه القاعدة شاذ. إنَّ هذا القصور العاطفي والنفسي والجنسي والفكري مطلوب ومقصود ومُمنهج والغاية منه فرض الهيمنة الذكوريّة وتحديد النسل لصالح الرجل بحيث يصبح جسد المرأة مجرّدَ دفتر تخطُّ عليه المؤسسات البطريركيّة أجنداتها المُختلفة. ظاهرياً يمكنُ وصف الرجل بالفاعل أو هكذا يرى نفسَه إلا أنه قد تحوّلَ بسبب مجموعة الأكاذيب التي صنعها إلى مَطيّة في يد هذا النظام فلم يفقد شرفه وحسب بل أصبحَ شرفه بيد المرأة تفعلُ به ما تشاء.
وفي هذا السياق نرى أنَّ الفعل الجنسي ارتبط بالرجل فكانت البطولة والفتوحات الجنسيّة من نصيبه وأما إرتكاب الإثم الجنسي ارتبط بالمرأة فكانت الفضيحة والعار والإثم والموت من نصيبها. وهذا بدوره يوضّح الفهم السائد للجنس في النظام البطريركي - حيثُ السيادة والحكم للرجل والرضوخ والتبعيّة للمرأة - كما لو كان الفعل الجنسي من طرفٍ واحد بين الرجل ونفسه، وهذا الفهم طفولي لا يرتقي لمستوى الفردانيّة ولا لمستوى الشراكة ويعوزه الوعي والنضج والمسؤوليّة التي هي أساس الحُبّ والجنس.
حلول وبدائل عن أسطورة "الشرف"
يهمّني بعد أن نظرنا في جذور "الشرف" المزعوم وفكّكنا آليّة عمله أن نجدَ حلولاً لهذه الأزمة - أزمة التمييز والعنف الجندري - التي لم تعد محصورة بالأسرة بل تفشّت لتصبحَ أسلوبَ حياةٍ يفتكُ بمؤسساتنا أيضاً. أمامَ واقع هذه الأسطورة التي تقدّس وتُضخّم القضيب وتحطّ من إنسانيّة المرأة جاعلةً منها "الشيء" الجنسي الذي يُحقق متعة الرجل، يتوجّب علينا العمل على تفعيل دور الأفراد خارج إطار الهيمنة والازدواجية البطريركية بحيث يصبحُ الرجل شريكاً بدلاً من تحميله أعباء الوصي والحامي والقائم بأعمال المرأة التي لم يعد يقوى أصلاً على احتمالها ولم تعد تتماشى مع ضغوطات ومتطلّبات هذا العصر.
إنّ الواقع العربي مؤلم جداً وبعيد كل البُعد عن الحلول التي سأقترحها هنا ولكنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة. وبعدَ توجيه أصابع الاتهام إلى النظام الذكوري، ينبغي علينا الاعتراف أننا كأفراد شركاء هذا النظام في الجريمة حيثُ نساهمُ من خلال صمتنا وأداء أدوارنا الجندريّة التقليدية المُصطنعة بمدّ هذا النظام بالحياة. لذا أدعو من خلال هذا المنبر جميعَ المؤسسات التعليميّة والإعلاميّة والقضائيّة إلى ضرورة إحداث لغة جديدة تتناسب وروح القرن الواحد والعشرين. اليوم أكثر من أي يوم مضى يتعيّن علينا الاقتراب أكثر فأكثر من احتياجات الشباب والشابّات من خلال إحداث ندوات ومؤتمرات وبرامج علميّة حول المحاور التالية: الجنس والأزمة الجنسيّة والتطرّف، العنف الأسري/الجندري وأسطورة "الشرف"، التربية والصحّة الجنسيّة، النوع الجندري والهُويّة الجندريّة.
لقد آن الأوان أن نُخرجَ رؤوسنا من رمال الصحراء ونتنشّق هواءً يليقُ بإنسانيتنا من خلال تحديث القوانين المدنيّة، تحديث المناهج الدراسيّة ووضع مقرّر ل"التربية الجنسيّة" يتناسب مع كل فئة عُمريّة وإعداد وتأهيل كوادر مُختصّة لتدريس هذا المُقرّر، تحديث وتطوير التفاسير الدينيّة السّائدة، وفصل الدّين عن الدّولة بدلاً من تبنّي الخطاب الدّيني القروسطي بشأن العفّة القصريّة. لن تكونَ هناك ولادة لمجتمع مدني في الشرق الأوسط ما دمنا جميعنا نرتدي العمامة ونردّد الخطاب الديني نفسه القائم على شطب وشيطنة المرأة، تهميشها وحجبها والتشويه المقصود لهُويّتها.
لن تكونَ هناك ولادة لمجتمع مدني ما دامت المرأة تعاني تحتَ الوصاية الذكوريّة (مبدأ القوامة للرجل). إذا أردنا اليوم التحدّث عن الشرف والاعتراف بالمرأة كفرد كامل ومستقل، فالأجدر بنا كأفراد ومؤسسات أن نقوم معاً بإيجاد قوانين تحمي الأم العازبة ونعترف بوجودها من خلال تقديم دعم مادي ونفسي وصحّي لها ولطفلها/تها، الاعتراف بالإجهاض كحق شرعي من حقوق المرأة وكحلّ قد تلجأ إليه المرأة في حال لم ترغب بالاحتفاظ بجنينها، توعية الشباب والشابّات بضرورة استخدام الكوندوم (الواقي الذكري) عند اختيارهم للممارسة الجنسيّة، إيجاد مراكز للصّحة الجنسيّة والفحص الجنسي، إحلال أقصى العقوبات بمرتكبي جرائم "الشرف" بدلاً من جعلهم أبطالاً.
وكذلك الأمر عندما نُقرّ ونعترف بشرعيّة جميع الأطفال من خلال إعطاء الأم العازبة الحق بمنح نسبها لطفلها/تها، حينها فقط يمكننا التكلّم عن الشرف بمعناه الحقيقي الحداثوي الإنسانوي لا القروسطي. لن يحدثَ هذا التغيير في يوم وليلة لكنه يحدث وسيحدث وإن كانَ بخطوات بطيئة حيث بدأ كلٌّ من لبنان وتونس باتخاذ إجراءات فعليّة لتفكيك الأسطورة السّابقة من خلال البرامج الإعلاميّة والصحيّة والمؤتمرات العلميّة والأكاديميّة التي أصبحت تشكّل ضغطاً على السلطة القضائيّة والسياسيّة بغية إقامة وخلق مجتمع بديل يقدّس الإنسان والإنسانية.
أرجو أن تعمَّ هذه المقترحات والتغييرات الآنفة الذكر لتشملَ أرجاء الشرق الأوسط حينها فقط يمكننا التكلّم عن نهضة فكريّة عربيّة حقيقيّة. لم يَعُد بإمكاننا الاختباء وراء أصابعنا أو الانغلاق على أنفسنا لأنّ العالم يتبدّل ويتغيّر من حولنا خاصةً بوجود الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا يمكننا فصل النضال النسوي عن الدراسات الجندريّة لأنّ هدفهما الإنسان أولاً وأخيراً. وسيكون لظهور المجلات الالكترونية – أكاديميّة كانت أم غير أكاديميّة – التي تُعنى بقضايا المرأة ومسائل الجندر، المثليّة الجنسيّة، والترانس جندر الدور الكبير في تغيير خارطة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا وولادة مجتمعات مدنيّة تُخرجنا من حظائر الثنائيات المتناقضة وتُحرّرنا من القوامة والتهميش والتبعيّة.
إضافة تعليق جديد