في حيّنا مارلين مونرو

ماذا لو استبدلت مارلين خطابها الأخير بخطاب تُوثّق فيه زيارتها إلى حيّنا؟

اليوم نُتمّ عامين على انتقالنا إلى بیت جدید، وھذه مدّة لیست كافیة لأتعوّد على جدران لیست كجدران غرفتي القديمة المُغطّاة كليًّا بمُلصقاتي المفضّلة منذ طفولتي والتي كادت أن تنقطع في محاولة مني لاقتلاعھا قبل انتقالنا.

أجلس الآن مُسترخيةً في شرفة غرفتي الجديدة. أحمل كوبًا أھداه لي صدیق قدیم، كلما ارتشفت منه القھوة التي سوّتھا حرارة الصیف على مھل، أتذكّره، ھو ومارلین مونرو. تلك الجمیلة البائسة التي أحبّھا بشغف. أھداني يومًا ملصقًا لصورة من آخر جلسة تصویر لها وقال لي: "اتصوّرت وقتھا أكتر من خمسین صورة وكل صورة كانت ضحكتها فيها أجمل من اللي قبلها، لكن الغريب إن كل الصور كانت بنفس النظرة الحزينة المرعبة".

سمّاها صديقي "الحلم المزيّف"، فهو دائمًا ما يراها "نورماجين"، الفتاة ذات الشعر الأحمر التي تتلعثم في حديثها، لا الشقراء المطليّة ببريق أمريكا! أما أنا فلا أتعجّب من حب صدیقي وانتقاده لھا في آن واحد، فكل الرجال الذین أحبوھا أعانوها على جلد ذاتها.

أفكّر دائمًا لو أنّ مارلین انتظرت قلیلاً ووضعت خطّة بديلة للانتحار، كأن تشارك فيروز مثلاً في بيت صغير بكندا. أراهن أن فيروز ستكون الرفيق الأمثل لها. ستتخلّى مارلين عن قهوتها الأمريكية بمجرد أن تشمّ رائحة تحويجة قهوة فيروز.

بمناسبة الحديث عن القهوة لماذا لم تستبدل مارلين خطّة انتحارها بالهرب إلى منزلنا القديم لتجرّب قهوتي، لطالما كانت شهرتي "القهوجيّة"، ليس لأنّي أُعدّ أفضل فنجان قهوة في البيت وحسب، بل لأنّي كنت أول فتاة في العائلة –وربما في حيّنا- تتمرد وتمتهن مهنة "القهوجي". وماذا لو استبدلت مارلين خطابها الأخير بخطاب تُوثّق فيه زيارتها إلى حيّنا؟

عند وصول مارلين إلى بيتنا سأعدّ لها فنجانًا من القهوة العربية

كنت سأخشى حتما زيارتها لنا في أوّل يوم عمل لي كـ"قهوجيّة" أو كما تسمّى في الأحياء الراقية "باريستا". يومٌ لعين أغلقت فيه أمي باب شقّتنا بجميع الأقفال. حاولت إقناعها بأنّ ما تقوم به لن يحبط عزائمي ولن يثنيني عن قراري لكنّها لم تقتنع. أمّي امرأةٌ عنيدة وانفعاليّة ولا تفهم خطاب العقل، كُلّ ما يهمّها أن تحرسنا وتحمينا على طريقة الدجاجة والصيصان. لديّ ثلاث أخوات بنات، الكُبرى "عاقلة" وتساندُ أمّي في جميع قراراتها ومواقفها. تزوّجت وهي شابّة غضّة وكوّنت أسرة سعيدة بالمقاييس الاجتماعيّة السائدة. لا تصرخ في وجهي عادة ولكنّها في ذلك اليوم استشاطت غضبًا وقالت لي مُزمجرة: "ما تسمعي كلام ماما بقى". أختي المتوسّطة ليس لديها مواقف حاسمة في الحياة، تكتفي دائمًا بممازحة أمي لتهدئتها. أمّا الصُغرى فتحاول تقليدي في كلّ شيء وهذا ما يُثير غضب أمّي لأنّي مثال لا يُحتذى به. أتمنّى أن تصل مارلين بيتنا بعد حل نزاع ذلك اليوم الذي انتهى بخروجي من البيت وتسلّمي عملي كقهوجيّة.

عند وصول مارلين إلى بيتنا سأعدّ لها فنجانًا من القهوة العربية. وقبل أن آخذها في جولة داخل بيتنا، سأحدّثها عن الصراع التاريخيّ الأبديّ بين الأخوات، حتى لا تصدمها صرخات أختي الصغرى وهي تطالب أختي الوسطى بالرجوع حالا إلى البيت وإعادة قميصها الجديد الذي ارتدته من ورائها! أعلم أنها ستنسى أمر القميص وستقفز فرحًا لسماع خبر قدوم مارلين إلى بيتنا. وبعد تبادل الأحضان والقُبل الطائشة ستشدّها من يدها لتدخلها إلى غرفتنا المشتركة. سأطلب من مارلين أن تغمض عينيها لتفتحهما على"بوستر" كبير لھا بفستانھا الأبیض الھائم حول مفاتنها. ستضحك بصوت مرتفع ولن أقاطعها مثلما تفعل أمي معي دائمًا. وعندما تنهي ضحكتها العالية بابتسامة خفيفة، سألفِت انتباھھا لتجمّعٍ آخر من الصور لحسنوات السینما اللاتي قلّدن طلّتھا مثل الجميلة ھند رستم. وهذه المرة ستعجز جدران الغرفة عن احتواء ضحكتها، فتفضح خبر وصولها إلى بيتنا.

تدخل أمّي بزيّها الأسود الذي اعتدناه منذ وفاة أبي، تفتح عينيها بوِسع فنجان الشاي الذي تحمله دائمًا دون طبقه، وتتفحص فستان مارلين بدقّة، حتى تدرك ضيفتنا سؤال أمي -الذي لم تجتهد في ستره- : "كيف دخلت بذلك الفستان إلى حيّنا؟"، وقبل أن تجيبها ستقول: "ميصحّش الضحكة العالية دي الناس تاكل وشنا".

ستستغرب مارلين كلام أمّي الذّي لن أستطيع ترجمته. كيف يُمكنني ترجمة "يأكل الناس وشوشنا" إلى الإنجليزيّة؟ لذلك سأضطر إلى أن أحكي لها عن معاناتي مع جيران الحيّ وخاصّة مع نظرات الرّجال التي تلاحقني في كلّ مرّة أعود فيها من العمل ليلاً، أعتقد أنّهم كانوا يتساءلون في سرّهم "في أي ملهى يا ترى كانت هذه العاهرة الصغيرة تسكر وتعربد؟". سأحدّثها أيضًا عن نسوة الحي الشرّيرات ذوات الألسن السليطة، عن عواجيز الفرح المنحوسات والمُحبّات للنميمة، عن المُتحرّشين، عن المُغتصبين، وعن "الزومبيز" الجُدد.

في حيّنا يا مارلين "زومبيز" يأكلون وشوش الجميلات وسيقانهنَّ وضحكاتهنَّ العالية.