لن نجد قلمًا صادقًا يعبّر عن مشاكلنا إلا إذا كانت تحرّكه أصابعنا نحن، أصابع العابرين والعابرات جنسيًا.
خلال فترة مراهقتي في تسعينيات القرن الماضي، كنت لا أزال أعيش في حيرة من أمري، لا أملك تفسيرًا واضحًا لذلك التناقض المؤلم ما بين شعوري الداخلي تجاه نفسي وبين جسدي ودوري الذي يعاملني الناس بناءً عليه، وما زاد من الألم هي الحاجة لإخفاء ذلك الشعور عن عيون الآخرين لئلا أتعرّض للمشاكل فأجد نفسي في مواجهة تساؤلات لا قدرة لي على إجابتها. كانت الصحف والمجلات الورقية حينذاك متوفّرة بكثرة، وكما هو حال الصحافة الآن، كانت هناك فئة منها تستحق لقب "الصحافة الصفراء" عن جدارة. أذكر أنني خلال تلك الفترة صادفت بضعة مقالات تتحدث عن نساء عبرن جنسيًا، وكانت هذه المقالات على رداءتها، طرف الخيط الذي بدأ يقودني لحل اللغز الأكبر لديّ، من أنا.
كنت في تلك المرحلة كمن وقعت على كلمة السر لمغارة علي بابا، فعند دخولها عرفت أن ما أشعر به لا يعتريني وحدي، فهؤلاء النساء مثلي تمامًا وتُمثّلن بكلّ دقة ما أتمنى حصوله معي ذات يوم. احتفظت بقصاصات تلك المقالات في مكان سرّي إلى أن سافرت للدراسة خارج البلاد، ولعلّها ما تزال موجودة في منزل والديّ بين أغراضي القديمة المهملة في زاوية من زوايا غرفة المخزن، لا أدري، ولا أظن أنني سأعرف ذلك يومًا ما.
الآن وبعد مرور أكثر من 20 سنة، ما تزال عناوين تلك المقالات محفورة في ذاكرتي، فالعناوين المستخدمة هي أكثر ما يجذب الانتباه، "طالب الطب الأزهري يتحول إلى راقصة"، "رجل يتحول إلى أنثى ويصبح أمّا لطفلين"، وغيرها من العناوين الجاذبة لعيون القراء، كما كان هناك إصرارٌ من كاتب أو كاتبة المقال على صياغته بطريقةٍ تصوِّر بطلة القصة على أنها أشبه بالكائن الغريب الخفيّ الذي كُشفت حقيقته ومدى خداعه.
اليوم، ونحن نعيش عصر التكنولوجيا والإنترنت، تطورت الصحافة لتتخذ طريق المواقع الإلكترونية وتلغي بشكل كبير المطبوعات الورقية. وعلى الرغم من ذلك، لم تتطور الصحافة الصفراء كثيرًا، واستمرت بالإمعان في الجهل وانعدام الاهتمام الحقيقي بالقضايا، بل وبممارسة مختلف أشكال الكراهية والتمييز باختيار الموضوعات والعناوين التي لا هدف لها سوى جذب أكبر عدد ممكن من القراء. فإذا ما تصفحتم بعض هذه المواقع الصفراء ستجدون أنه هو نفسه ذلك الموضوع الدسم المثير للجدل، المتحولون جنسيًا، مخلوقات عجيبة موجودة بيننا، لها عالمها الخاص والسرّي والذي استطعنا أخيرًا اقتحامه والغوص في أعمق أسراره لنجد أنفسنا أمام الشذوذ والدعارة والجنس والمخدرات.
محاولة لتتبع الأخبار وفجوة زمنية
إن اهتمام الصحافة بأخبار العابرات والعابرين جنسيًا ليس بالأمر الحديث، ففي سنة 1947، نشرت "مجلة المصور" المصرية خبرًا يروي قصة فاطمة، الفتاة الريفية من قرية "ميت يعيش" والتي تبين بالفحوصات الطبية أنها في الأصل ذكر لتخضع لعملية تصحيح جنس وتكمل حياتها كرجل، وفي سنة 1954 قام الكاتب السينمائي جليل البنداري بتحويل الخبر إلى الفيلم الشهير "الآنسة حنفي". من الطريف أن ثلاثة من المشاهير آنذاك والذين يحملون اسم "حنفي" قاموا برفع دعوى قضائية على جليل البنداري يطالبونه بتغيير اسم الفيلم وتعويضهم عن الإحراج الذي حدث لهم.
أثناء بحثي عن المزيد، واجهتُ صعوبة في إيجاد أخبار قديمة أخرى متوفرة على مواقع الإنترنت، لأجد الخبر التالي زمنيًا يعود لسنة 1998، وتحديدًا ضمن المقالات المؤرشفة على موقع جريدة "الحياة"، وهو ما كتبه حمدي رزق بعنوان "50 حالة ’تحول جنسي‘ سنويا في مصر. التوأم إيمان وأنعام ... صبيان بعد 17 سنة أنوثة!". يسلط رزق في هذا المقال الضوء على عدة حالات من مصر من فترة السبعينيات وحتى تاريخ النشر، بالإضافة لبعض الحالات من دول أخرى أجنبية. ومن الملاحظ أن الكاتب تطرق للجوانب القانونية والطبية وأورد أقوال بعض الأطباء المختصين في حالات العبور الجنسي.
احذروا العابرين والعابرات جنسيًا: الوجوه المتعددة لرهاب العبور الجنسي
تتوالى الأخبار الصحفية بعد ذلك والتي تتحدث عن العابرات والعابرين جنسيًا، ساعية للإساءة لأصحاب القصص، فمثلا، يُصوّرالعابرون والعابرات على أنهم خطرٌ على المجتمع، كما حصل مع تلك المسافرة فائقة الجمال التي أثارت أزمة في مطار القاهرة، فقد وضعت في الحجر الصحي ومن ثم مُنعت من دخول البلاد وأعيدت إلى بلدها على متن أول طائرة.
من الشائع أيضًا وصف العابرين والعابرات جنسيًا بأنهم/ن أشخاص مخادعون يوقعون بضحاياهم المساكين، فذلك الرجل الذي اكتشف أن زوجته "رجل" ليس إلا ضحية، ويشعر بأنه تعرض للاعتداء، وتقول محاميته: "هذا الشخص مارس عملية غش وخداع ضد موكلي خلال سنوات".
كذلك، فكثيرًا ما يجري التأكيد على أن الهدف من إجراء عمليات العبور الجنسي هو التشبه بالفنانات والشهرة والدعارة والمال، فتُوصف الحالات بأنهم قلبوا جنسهم وشكلهم لتحقيق الشهرة، ويقومون باستغلال الموضوع كمشروع استثماري من خلال ممارسة الدعارة.
ولا يتوانى الكتّاب والكاتبات عن استباحة خصوصية أجساد العابرين والعابرات جنسيًا، فهو أيضًا موضوع مثير للقراء الذين يقدّسون الأعضاء الجنسية ولديهم الفضول لمعرفة كيف كانت وكيف أصبحت عند هؤلاء، فيستغل كاتب المقال ذلك الفضول ويختار عنوانًا مثيرًا كهذا: "فنانات متحولات جنسيًا .. ومفاجأة في أعضاء إحداهن".
من الملاحظ دائمًا الإصرار على وصف المرأة العابرة جنسيًا بالرجل، سواء في العنوان أو في داخل النص، فالمرأة العابرة جنسيًا ومهما وصلت إليه من نجاح أو حتى قبول على مستوى الدول الأكثر انفتاحًا ما تزال في نظر الكاتب مجرد رجل يحاول بكل ما أوتي من جهد إلصاق نفسه بالنساء، ولم تسلم "آنجيلا بونس" من ذلك على الرغم من فوزها بلقب ملكة جمال إسبانيا سنة 2018 وتمثيلها لبلدها في مسابقة ملكة جمال الكون لتلك السنة. مُنحت لقب ملكة من قبل بلدها والعالم أجمع إلا أن الكاتب له رأي آخر، والذي يظهر جليًا في العنوان المرافق للخبر: "«رجل» متحول جنسيا بين حسناوات مسابقة ملكة جمال الكون".
بطولات صحفية
يصوّر بعض الكتاب العابرات والعابرين جنسيًا على أنهم يعيشون في عالم سرّي قائم على البزنس ولا يحق لأحد دخول هذا العالم، ليقوم كاتب ما بتقمّص شخصية البطل واستعمال حنكته ومهاراته لاقتحام واختراق هذا العالم وكشف خباياه المريبة ومن ثم يضعها بين يدي القارئ "الغافل" عما يجري من حوله. في إحدى الحالات سنة 2015، انتحلت هبة جعفر من صحيفة "صوت الأمة" شخصية امرأة عابرة جنسيًا على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ومن خلال التقرب من بعض الفتيات العابرات ومصادقتهن واكتساب ثقتهن، تمكنت من سرقة صورهن ونشرها فيما اعتبرته سبقًا صحفيًا ضاربة بعرض الحائط أخلاقيات مهنة الصحافة ومتجاهلة الضرر الذي سيلحق بتلك الفتيات، كما أرفقت بالصور قصصهن التي عرفتها بعد عدة أشهر من مصادقتهن والتحدث معهن.
وقبل "بطولة" هبة جعفر، وتحديدًا سنة 2014، انتحل عبد الوهاب عليوة من صحيفة "الوطن" شخصية عابر جنسي وانضم إلى مجموعة لدعم العابرين والعابرات جنسيًا على الفيسبوك، وبدأ بطرح الأسئلة متذرّعًا بحاجته للمساعدة في اتخاذ الخطوات اللازمة لإجراء عمليات العبور الجنسي بطرق غير قانونية، وقام بنشر المعلومات ووصفها بالبزنس والسوق السوداء، صفة التصقت بمجتمع العابرين والعابرات جنسيًا رغم أنها ليست سوى ممارسات أطباء بلا أخلاق قاموا بإنشاء هذا البزنس واستغلال حاجة هؤلاء في ظلّ الرفض والصعوبات التي يواجهونها في بلدانهم.
كنت بنفسي شاهدة على واقعتي صوت الأمة والوطن، وعلى واقعة أخرى قامت بها مروة كمال من صحيفة "صدى البلد" سنة 2015 والتي ادعت حينها أنها عابرة جنسيًا تسعى للجوء، لتكتب مقالا تدّعي فيه وجود منظمات تستغل العابرين والعابرات جنسيًا وتمارس ألاعيب اللجوء للدول الأجنبية، ولكن وكما تعوّدنا، أخبار زائفة لا تمت للواقع بصلة، لا تنقل ما يعانيه اللاجئون واللاجئات العابرات جنسيًا، فلا ألاعيب ولا استغلال، وإنما غربة وتعب وقلق وانتظار على أمل الحصول على فرصة عادلة في دولة تراعي حقوقهن واحتياجاتهن.
آخر خبر: قضية ملك الكاشف
في السادس من آذار/مارس 2019، استيقظنا نحن مجتمع العابرات والعابرين جنسيًا على خبر اعتقال الناشطة المصرية العابرة ملك الكاشف، حيث وجهّت لها النيابة العامة اتهامات بمشاركة جماعات ارهابية والإخلال بالنظام العام، وما تزال ملك معتقلة على ذمة التحقيق منذ ذلك اليوم حتى تاريخ نشر هذا المقال.
وصف موقع "العربية نيوز" بأن "الحكاية فيها سر" لفتاة "ببطاقة رجل". وقرر موقع "المصريون" أن ملك ما تزال معتقلة بسبب تحولها الجنسي، ناهيك عن استخدام صيغة المذكر في العنوان "تجديد حبس ملك الكاشف بسبب تحوله جنسيًا".
لم يُلق القبض على ملك لأنها عابرة جنسيًا، وإنما لكونها - مثلها مثل العديد من المعتقلين والمعتقلات - عبرت عن رأيها في أمر يتعلق بالسياسة الداخلية لبلدها، ورغم ذلك، تجاهلت غالبية المواقع الإخبارية التطرق لسبب اعتقالها وركزت على هويتها الجندرية، هل هي رجل أم امرأة؟ هل ستسجن في سجن الرجال أم النساء؟ وغيرها من التساؤلات التي لا تمت بصلة لنشاطها الذي أدى إلى توقيفها.
محاولات منصفة
برغم كل ما سبق، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور منصات صحفية تحترم في خطابها هويات العابرات والعابرين جنسيًا وتؤكد على حقهم بالاعتراف بوجودهم ونشر الوعي بقضيتهم واحتياجاتهم والمعوقات التي يواجهونها في بلدانهم. من الأمثلة على ذلك التقرير الذي أعدته هبة أبو طه لموقع "الميدان" بالتعاون مع مجلة "ماي كالي" في 2018 بعنوان "عابرون جنسياً يشقون طريقهم نحو حقوقهم غير المُصانة"، والذي حاز على المركز الثاني في مسابقة "صحفيون من أجل حقوق الإنسان" لعام 2018.
كذلك، قدّمت إيمان عادل، الكاتبة في موقع "درج"، مادة منصفة وموضوعية عن قضية ملك الكاشف في مقال بعنوان “ملك الكاشف” العابرة جنسياً سجينة سياسية، حيث روت قصتها الشخصية مع ملك منذ بداية تعرفها إليها قبل عامين وحتى واقعة اعتقالها.
وعلى موقع "رصيف 22"، تطرقت إيمان منير إلى العوائق القانونية التي تواجه العابرين والعابرات جنسيًا، مؤكدة على ضرورة فتح نقاش مجتمعي حول قضية العبور الجنسي. هذا بالإضافة لمواقع صحفية مستقلة أخرى حول المنطقة الناطقة بالعربية، والتي تحاول تغيير الخطاب المستخدم في إعداد الأخبار والتقارير حول أفراد مجتمع الميم والعابرات والعابرين جنسيًا.
أقلامنا أم أقلامهم
قد يرى البعض بأن أغلب الأخبار المنشورة عن العابرات والعابرين جنسيًا في الصحافة العربية ليست زائفة بحجة أنها تنقل أحداثًا وقعت بالفعل، ولكن لا يجب إنكار أن نقل الخبر وعنونته وصياغته بهدف إثارة الجدل وتنحية الحقائق العلمية والطبية وتجنب الخوض فيها هو زيفٌ قائم بحد ذاته، فإخفاء الحقائق وتضخيم ما يجذب القارئ فقط هو تلاعب بالحقيقة.
كانت هذه عيّنة من المقالات والأخبار المتناثرة في أروقة الصحافة العربية، صحافة تفتقر غالبيتها للاحترافية والموضوعية، ومرتزقة يستعملون أقلامهم بهدف المال والشهرة ثم يتهموننا بها، يقابلهم قلائل حتى الآن يسعون إلى الكتابة عن الحقيقة والحقوق. من هنا جاء حرصي على اقتحام عالمهم، فلن نجد قلمًا صادقًا يعبّر عن مشاكلنا إلا إذا كانت تحرّكه أصابعنا نحن، أصابع العابرين والعابرات جنسيًا.
إضافة تعليق جديد