أعمال ضخمة تُصّور النساء ألعوبة في يد الرجال، وصمٌ بالعار وقصص تخلقها مخيلات مُخرجين وكُتّاب لم تتصور النساء يومًا خارج بوتقة السلطة الذكوريّة.
عشرة مواسم استمر فيها مسلسل "باب الحارة" الذي صوّر لنا الحياة الشامية خلال فترة الاحتلال الفرنسي. قصص مختلفة تتمحور حول الحرب ضد المستعمر، والتنافس بين الحارات المتجاورة، وقصص نساء الحارة المهتمّات بأعمال المنزل، والجلسات النسائية، والمناوشات، وراحة الزوج الذي يهدد بيمين الطلاق عند كل حركة أو كلمة لا تعجبه. أعادنا "باب الحارة" إلى مفردات تكاد تكون انقرضت من منطقتنا مثل: "ابن عمي" و"حرمة"، وأظهر الدور النسائي في الحياة الاجتماعية محدودًا وسخيفًا.
هذا ليس حال باب الحارة وحده، فانطلاقًا من الثنائية الجندرية النمطية لا بدّ أن يتكون المسلسل من بطل وبطلة تدور حولهما حبكة العمل ككل، أو رجل واحد وحوله عدد من النساء مثل مسلسل المصري "الحاج متولي" الذي حقق انتشارًا واسعًا في معظم أنحاء المنطقة العربية. ذلك المسلسل الذي صوّر لنا الجوهرة التي تلتف حولها أربع نساء يتنافسن لنيل الرضا. ومع تغيّر خارطة الإنتاج الدراميّ في منطقتنا، وخاصّة بعد تدهور الإنتاج الفني السوري بسبب الحرب منذ سنة 2011، أصبحت أضخم الإنتاجات تضم باقة من النجوم في نفس الوقت ومن جنسيّات عربيّة مختلفة، بهدف جذب جمهور أكبر ورفع قيمة المسلسل بأسماء أبطاله. وبطبيعة الحال سيطرت الثنائية الجندرية بما تحمله من أسس ذكورية وأبويّة على معظم الأعمال.
عرضت لنا الأعمال التلفزيونية بمجملها قصص نساءٍ تماهت معهنّ الكثير من المشاهدات؛ السيدة الأولى، والسجينة المظلومة، والخادمة، وسيدة الأعمال، والزوجة المطيعة، والخائنة، والمتسلّطة، ورأينا المِعلّمة (زعيمة المنطقة أو الحي). حاولت هذه الأعمال وصم النساء بمختلف أنواع الفوبيا المنتشرة في مجتمعاتنا، أدوار تتنوّع ما بين السيدة المخادعة أو الخائنة التي قد تفعل أي شيء مقابل الحصول على المال والجاه، وأدوار لنساء مُستكينات وخاضعات لسلطة الأهل والمجتمع وفي أفضل الأدوار التي رأينا فيها النساء في مراكز القيادة والنفوذ تكون البطلة عادةً مرهقة، حائرة، ومُجبرة على الاختيار بين منصبها وعملها والرجل الذي أحبته. النهايات دائمًا ما تكون سعيدة حيث تختار الاصطفاف وراء البطل المغوار مُتخلّية عن حياتها المهنيّة.
سنحاول في هذا المقال رصد بعض الأعمال التلفزيونية التي تُعرض في رمضان 2019 أو ما بات يعرف بالسبق الرمضاني. أعمال ضخمة تُصّور النساء ألعوبة في يد الرجال، وصمٌ بالعار وقصص تخلقها مخيلات مُخرجين وكُتّاب لم تتصور النساء يومًا خارج بوتقة السلطة الذكوريّة.
مسلسل "عذراء"
يتمحور المسلسل الكويتي "عذراء" حول قضيّة الاغتصاب وحياة سجينات يحملن على أكتافهنّ أثقال الماضي. تتشابك الأحداث وتتطوّر وتقرّر البطلة التي تُدعى عذراء الانتقام من مُغتصبها. قد تبدو الفكرة جيّدة أو عاديّة ولكن ما يلفت الانتباه في هذا المسلسل هو سرد أحداث طفولة عذراء والتركيز على إهمال والديها لها خاصّة والدتها، تأكيدًا لثوابت النظام الأبوي الذي يفرض على النساء مهمة تربية الأبناء ورعايتهم دون أي حق في الاختيار.
ركّز المخرج على إظهار إهمال الأم لـ"واجباتها" تجاه ابنتها ليقتنع المشاهدين/ات بحقيقة أن "فوزية الله شايل منها الأمومة" خاصّة وأنها رفضت إنجاب المزيد من الأطفال وقرّرت الإجهاض. في ذلك المشهد تُبرّر فوزية لزوجها إبراهيم عدم رغبتها في الإنجاب، فنفهم أنّها تريد المضيّ قدمًا في مشوارها المهنيّ وتحقيق أحلامها المؤجّلة وأنّها غير مجبرة على تربية الأطفال وحدها. أصبحت فوزيّة في مرمى نيران زوجها وأمها، وزملائها في العمل، والصحافة، وبلا شك المتابعين/ات خلف الشاشة. لتكتمل حبكة الحكاية مع انتقام عذراء لنفسها، لتُلام فوزية "الأم غير الصالحة للأمومة" بسبب ما فعلته ابنتها.
مسلسل "الزوجة 18"
اجتمع الكاتبان المصريّان محمد أبو السعد وخالد أبو بكر على ضرورة إنتاج مسلسل كوميديّ لهذا الموسم الرمضانيّ الحافل بالأعمال، فكان مسلسل "الزوجة 18" القائم على التهريج والرداءة واجترار الكليشيهات ثمرة هذا التعاون.
بطل المسلسل ذكر مفتول العضلات، عريض المنكبين، ممشوق الطول، "تذوب" السيدات لمجرّد ذكر اسمه، هو زير نساء يتزوّج أكثر من امرأة وبعد مدّة وجيزة يُطلّقها لأنّه قلوق ولا يُحبّ الرتابة والملل. يستمدّ المسلسل مواقفه "المضحكة" من تحقير النساء والاستهزاء بهنّ مقابل تثبيت الصورة النمطيّة للرجل الحرّ الذي يُمكن أن يقول ويفعل أي شيء دون ضوابط ومحاسبة أخلاقيّة. وصلت الأمور بمُخرج هذا العمل إلى تصعيد الأحداث وجعل البطل يعقد قرانه على امرأتين في نفس الوقت. واستكمالا لمسرحية تعنيف النساء والاستهزاء بهن يروّج المسلسل لمفهوم الاغتصاب كأداة أو وسيلة للتأديب، ثم إن النساء حسب بطل المسلسل "بتروح وبتيجي"، عملة سهلة يقتنيها متى يشاء.
مسلسل "سوبر ميرو"
على الرغم من أن مسلسل "سوبر ميرو" المصريّ قائم على الشخصية النسائية والتي تدور حولها بنية القصة وأحداثها إلّا أن هذه البطولة المطلقة لا تكفي للقطع مع المفاهيم والصور الذكورية وإن لم يكن ذلك بشكل فج كما في الأعمال الدراميّة الأخرى.
حاولت هذه الأعمال وصم النساء بمختلف أنواع الفوبيا المنتشرة في مجتمعاتنا
لم تعجبنا العديد من مشاهد هذا المسلسل لعلّ أهمّها مشهد تقدّم فتاة يابانيّة للزواج من هدهد مساعد ميرو وانبهاره بخطوتها، مشهد من ثلاث دقائق تقريبًا يجمع الأسس الذكورية والثنائية النمطية وتفوّق العرق الأبيض على باقي البشر حيث يهين هدهد المرأة المصرية في مقارنتها باليابانية، كما يقارن نفسه بالممثل براد بيت ساخرًا من شكله الأسمر وشعره المجعد منتصرًا للمعايير التجاريّة الترويجيّة للجمال والمتمثلة في البشرة البيضاء والعيون الملوّنة والشعر الأشقر الناعم.
مسلسل "خمسة ونص"
في إطار اجتماعي درامي يتناول مسلسل "خمسة ونص" حكاية رجل الأعمال "غمار" الذي يُريد الانتقام من والده السياسيّ المعروف "غانم الغانم". ليس هذا ما يهمّنا في المسلسل رغم أنّ العودة على هذه الأحداث والتفاصيل ضروريّة لفهم التركيبة النفسيّة للشخصيات وتفكيك عقدها. ما يهمّنا هو علاقته بزوجته "الدكتورة بيان". أوهمنا المُخرج منذ الحلقة الأولى أن غمار يُحبّ بيان لنكتشف فيما بعد أنّ كلّ ما فعله من أجلها يخدم خطّة انتقامه. فبيان هي الزوجة المثالية لرجل مهموم مُتعطّش للسلطة والدّم. وكل محاولاته للتقرب منها وإيهامها بالعشق ما هي إلاّ محاولات منه للاستحواذ عليها واستغلالها، ويظهر هذا الأمر جليًّا في إصراره على مرافقتها له لاجتماع التحضير لترشحه للانتخابات فقط لأنّ صورتها كطبيبة استثمرت جهدها ووقتها لتقديم الخدمات الصحيّة للمفقّرين تخدمه في البرلمانيّات. تتسلسل الأحداث وتتعقد الحبكة التي تخنق بيان يوما بعد يوم لتصل الأحداث لقصة جديدة تجمعها مع الحارس الشخصي لغمار في تمهيد لصراع مُرتقب بين الرجلين ضحيّته امرأة قد تشقّ طريق حياتها بعيدًا عنهما.
مسلسل "حكايتي"
على الرغم من كثرة المسلسلات المعادية للنساء، يحاول المسلسل المصري "حكايتي" الثورة على مفاهيم الذكوريّة من خلال تمرد بطلته داليدا.
يروي لنا المسلسل المصري "حكايتي" قصة فشل صوفيا في تحقيق حلمها في عالم الأزياء وتصميم الملابس بعد أن منعها زوجها من العمل، في تجسيد واقعيّ لتحكّم الرجال في حياة ومصير زوجاتهم. النساء المتزوّجات لا يُمكن لهنّ العمل بالخان. والخان في مسلسل "حكايتي" هو اسم مدينة صغيرة جدًا في إحدى نواحي الصعيد المصري تسيطر عليها عائلة واحدة من ثلاثة إخوة يمتلكون مصنعًا للملابس.
أخذت داليدا ابنة صوفيا على عاتقها تحقيق حلم والدتها في تصميم الملابس فواجهت الجميع وأسقطت وصاية والدها وأخيها برفضها الزواج من ابن عمّها وهو زواج مصلحة مُدبّر قائلة لوالدها: "أنا مش ثلاّجة عندك".
حاول المسلسل التركيز على ما تعانيه النساء من وصاية ذكوريّة وتحكّم في أجسادهنّ ومصائرهنّ، فهنّ الحلقة الأضعف داخل منظومة سلطويّة تريد ركنهنّ وتقزيمهنّ.
مسلسل "أجندة"
قد يكون المسلسل الكويتي "أجندة" الوحيد في هذا الموسم ومواسم عدة سبقته يدعم النساء بوضوح وجرأة. هاجر المطلقة التي تركت بيتها وزوجها تحاول أن تشق طريقها وحيدة مع ابنتها بعيدًا عن سلطة أخيها. رفضت هاجر ذُلّ زوجها وتعنيفه لها واختارت كرامتها ومستقبلها.
يُركّز المسلسل على العنف المسلًط ضدّ النساء إن كان ماديّا أو اقتصاديّا أو جنسيّا. حاربت بطلة المسلسل هاجر الجميع من أجل الانعتاق من السلطة المجتمعيّة والأبويّة وتحقيق استقلاليّتها الماديّة. وقد تصدّرت مشاهد المواجهة مع أهلها صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، حيث اعتبره الكثيرون نقلة نوعية في الدراما الخليجيّة.
في النهاية يُمكننا القول بأنّ الانتاجات الدرامية الرمضانيّة ما تزال تعيد إنتاج مفاهيم المنظومة الذكوريّة التي تحتقر النساء. تلك الأعمال التي يسيطر عليها الرجال بشكل تام تقريبًا، تتأثر بمدخلات النظام الذكوري التي تعيد توليد نفسها على شكل أعمال درامية ترسّخ الأفكار النمطية والكليشيهات وتساهم في رواجها. ورغم وجود أعمال دراميّة انتصرت للنساء مثل "ثورة الحريم" لنادر جلال (مصر)، و"ضد مجهول" لطارق رفعت (مصر)، و"جلسات نسائية" للمخرج المثنى صبح (سوريا) إلاّ أنّها محاولات قليلة عدديّا بالمقارنة مع الأعمال المعادية للنساء.
إضافة تعليق جديد