كلمة وحرف عطف، مقولة عامية، مُتداولة في كل المجتمعات السورية، تُستخدم عندما تمتدّ المصيبة فلا يكون لها حلّ في الأفق القريب.
كنّ كثيرات وجميلات. فاضت منهنّ سماحة الأمومة، وطغت على وجوههنّ ابتسامةٌ خلتْ من النفاق. لبسن ثيابًا جذّابة ومُثيرة، وتعطرّن بألق المحبة فكان الفرح أبًا روحيًا لجمعنا. حفلةٌ بإحدى النوادي الثقافيّة التركيّة جمعتني بأمّهات تركيّات من طبقات متنوعة لمستُ فيها بهجة ورحابة دائمًا ما كنت أفتقدها في معظم أفراحنا نحن السوريّات. نظّمت هذه الحفلة راقصة باليه تركية، في أواخر عقدها الثالث، بمناسبة مرور خمسة أعوام على تأسيسها مدرسة صغيرة ومتواضعة لتعليم رقص الباليه في أحد أحياء إسطنبول. شاءت الأقدار أن تكون ابنتي مُنتسبة جديدة للمدرسة، لذلك كنت من بين الأمّهات المدعوّات.
اختبرتُ عن قرب تسامحهنّ مع بعض وحبّهن لبعض، كأن تصرّ إحداهن وهي يافعة لا تتجاوز العشرين عامًا على إشراك جدّات الطالبات في الرقص على أنغام الدبكة الشعبية التركية، أما الأمهات فكن ينظرن لبعضهنّ بعطف ورأفة، فإذا أخطأت إحداهن في تصرّفٍ ما، أو بدا عليها إحراج لسبب ما (تمزّق الجورب على سبيل المثال/ أو صدور تصرف غير لائق من طفلها) أسرعن جميعهن لمساعدتها على تجاوز ارتباكها، وإذا بدا على وجه إحداهن ملامح الخجل، الحزن، أو عدم الاندماج، فيحاولن التقرّب منها وإدماجها في جو الرقص والحبور، حتى إذا شعرن أنها نست مُصابها وتآلفت مع الفرح، تركنها تستمتع بعيدًا عن الهمس.
كنت الأجنبيّة الوحيدة في المجموعة لكنّي لم أشعر كثيرًا بالغربة لأنّ أغلب النساء الموجودات كنّ داعمات لي. اعتنت بي سيدة خمسينية كانت تجلس إلى جانبي ولقّنتني الحركات الأساسية للرقصة التركية الشعبية التي جمعتنا نهاية الحفل، أمّا بقيّة الحاضرات فكنّ مُرحبّات وبشوشات معي، قبل أن يعرفن أيّة معلومات عن جنسيتي أو خلفيتي الثقافيّة. كنتُ سعيدة أثناء الحفلة وأحسست بخفّة لا متناهية. تحرّرت لساعات من ثقل الحكايات التي أسمعها بشكل دوريّ من نساء سوريّات مهاجرات مثلي. أعرف أنّ النساء التركيّات لديهنّ همومهنّ ومشاغلهنّ الخاصة ولا أعتقد أنّ النساء اللاتي قابلتهنّ في الحفلة سعيدات دائمًا وهادئات دائمًا وطيّبات دائمًا، ولكن ما يعنيني أنّني نسيت قليلا وضعي كمهاجرة وامرأة وأمّ قادمة من بلد عربيّ يعاني ويلات الحرب والدمار.
تنحدر رشا ذات الثماني عشر ربيعًا من أسرةٍ مُحافظة من غوطة دمشق.
تعرّفت على الكثير من النساء السوريّات في تركيا، من بينهنّ رشا (اسم مستعار) التي التقيت بها في مدينة غازي عنتاب التركية، صيفَ العام الماضي، بإحدى الحدائق العمومية، وصرنا نجتمع في الحديقة ذاتها بشكل متواتر لأنّها قريبة من منزلَيْنا. أسرّت لي بعد أن غمرها شعور بالارتياح نحوي "أواجهُ صعوبةً في التعرّف على صديقات لأنّ زوجي يجدُ مدخلاً للتحدّث معهن وخيانتي معهنّ. أفضّل أن أبقى وحيدة على أن يخونني زوجي". تواصل بوحها: "عائلةُ زوجي تعتقد أنني انطوائية، أما أنا فلا يهمّني سوى تفادي أيَّ فرصةٍ تسمح لزوجي بالحديث مع امرأة جميلة". لحظة صمت أعقبتها تنهيدات طويلة قطعَتها قائلةً: "متأكدة أنه يحبّني لكنه "نسونجي". حقيقة لقد أضعتُ بوصلتي معه لم أعد أعرف من أنا وماذا عليَّ أن أكون لأرضيه".
تنحدر رشا ذات الثماني عشر ربيعًا من أسرةٍ مُحافظة من غوطة دمشق. مُحجّبة وترتدي، تقريبًا مثل كلّ بنات جيلها المُحجّبات، سروالا أو تنورة على أن يغطي القميص من فوقهما الوركين والمؤخرة. يميل زوجها إلى النساء العصريّات غير التقليديّات اللائي يتابعن آخر صيحات الموضة ويتبرّجن في كل وقت وينتبهن إلى رشاقة أجسامهنّ. تُريد أن تكون مثل هؤلاء النساء وتتقولب وتطمس شخصيّتها الحقيقيّة لكنّها لا تستطيع ذلك لأنّها تعيش مع عائلة زوجها المتعصّبة.
استتر جمالها تحت حجابٍ آخر من الحيرةِ والضياع، خوفها من إمكانية تخلّي زوجها عنها واتهامها بالفشل. لم تتمكّن بعد من التعرّف على نفسها، ماذا تريد وتحبُّ، فهي دائما مشغولة بما يرضي زوجها، وبتطوير أدواتها النسائية للسيطرة عليه وإغوائه. تقضّي معظم وقتها وهي تتصفح المواقع المُختصّة في الموضة والأزياء واللانجري، إلى جانب المواقع التي تنشر مقالات سطحيّة عن كيفيّة "إشعال العلاقة الحميميّة" وخاصّة "الألعاب المثيرة لتجديد العلاقة". تقرأ بفضول واهتمام كبيرين هذه المقالات وتحاول جاهدة اتّباع ما جاء فيها، كأن تلعب معه لعبة الأيدي المكبلة أو ترتدي ملابس داخليّة مصنوعة من السكاكر. لا يهمنّي ما تقوم به إن كان فعلا نابعًا عن رغبة حقيقيّة منها وليس خوفًا من خسارة زوجها النسونجيّ.
تعرّفت على والدة رشا، وفي أوّل لقاء بيننا وبعد أن تكلّمنا مطوّلا وارتاحت لي حاولت أن أشرح لها بأنّ ابنتها ليست تعيسة فقط مع زوجها بل إن أهله يسيئون معاملتها ويستضعفونها. فكّرَت قليلاً وأجابتني بأنّ كلّ منزل لا يخلو من المشاكل، وأن ابنتها مسؤولة عن وضعها لأنّها لا تتقن إدارة بيتها وما زالت تتصرّف كطفلة. "لكن رشا فعلاً طفلة"، قاطعتُها وأردفتُ: "أنتِ المسؤولة عن زواجها المبكّر بعد اختفاء والدها في زملكا منذ ما يزيد عن ستّ سنوات". لماذا زوّجتِها وهي لم تتجاوز السادسة عشر؟! فأجابت: "لأصون شرفها وشرف إخوتها الشباب. نحن عائلة ملتزمة دينيا وزواج الفتاة ستر لها".
كنتُ قد عرفتُ بعضَ المعلومات عن أم رشا عن طريق ابنتها. بعد اختفاء زوجها وخروجها من سوريا إلى لبنان سنة 2012، تزوّجت من رجل أعمال ثري وسافرَت معه إلى تايوان، وبعد مرور أقل من عام انفصلت عنه، وانتقلت إلى تركيا، وهناك تزوجت مرة أخرى من شيخ تركي ثري يكبرها بـ 25 عامًا، وبعقدٍ اجتماعي أقرب إلى الصفقة منه إلى الزواج. تتمنّى أن يموت قريبًا وترثه كي تتزوّج من رجلٍ آخر تُحبّه. باحت لي بعلاقاتها المتعددة مع شبان تحادثهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي يصغرونها بأكثر من 20 عامًا لكنّهم ينبهرون بفتوّتها وجمالها على الرغم من أنها جاوزت الخمسين. تقول أمّ رشا: "أنا امرأة متحررة، لكن الدين بالنسبة لي خطٌّ أحمر". تسلّل إلى سمعي التتمة غير المصرّح بها: "المظهر والممارسات المُندرجة تحت غطاء الدين والتديّن تتيح زيجات جيدة من رجال (شيوخ) أثرياء وهو ما لا يمكن التفريط فيه".
أكدتُ لها أن زوج ابنتها يفضّل أن تكون شريكته غير محجّبة وفي تلك اللحظة بالذات تغيّرت ملامح وجهها وارتفعت نبرة صوتها وطردتني. نفس الأمّ التي كانت تحدّثني عن مغامراتها الافتراضيّة مع رجال أصغر منها تطردني لمجرّد الحديث عن حجاب ابنتها.
ذكّرني ردّ فعل أم رشا بأمّ سعاد. سيدة حلبية، وربة منزل في منتصف عقدها الرابع، دأبت على ممارسة طقوسها الدينيّة بشكل منتظم، فهي تعتزّ بتديّنها وتعتبره مزيّة تفوّقت بها على غيرها من النسوة اللائي يخرجن سافرات ومتبرّجات. هذه القيمة الوحيدة التي استطاعت أن تُشعرها بتفوقها، بالإضافة إلى براعتها في إعداد أطباق طعام شهية وصعبة. أخبرتني سعاد مرّة بأنّها غير قادرة هي وأختها على التلميح برغبتهما في نزع الحجاب الذي يعدّ خطًّا أحمر بالنسبة إلى أمّها.
وآخرتها!
كلمة وحرف عطف، مقولة عامية، مُتداولة في كل المجتمعات السورية، تُستخدم عندما تمتدّ المصيبة فلا يكون لها حلّ في الأفق القريب (وبعدين/ وآخرتها) قلتها لصديقة مشتركة بيني وبين سعاد كانت قد خلعت حجابها منذ عامين، عندما سمعتني أُشجّع سعاد على الاستقلال عن أمها والعمل ونزع الحجاب واختبار الحياة التي تريد فنهرتني وقالت "لا تتدخّلي في شؤون غيرك، اتركي الفتاة تتصالح مع ظروفها وعائلتها، ولا تحرّضيها على الفجور".
إضافة تعليق جديد