كويريات في رمضان: البحث عن "الابنة الضالة"

يأتي رمضان هذا العام مع الحجر الصحي. ومع تضييق المساحات وازدياد القيود، تُطرح أسئلة الحرية والحركة والتغييرات التي طرأت على أنماط الحياة، والتفكير بالهويات المستضعفة في ظلّ أشكال قمع سلطوية وأبوية مستمرة.

من هنا، حاولت جمع قصص نساء كويريات يعشن على وقع رمضان والحجر وقادني الحديث معهنّ إلى طرح تساؤلات عديدة. أنقل قصص محدّثاتي بأسماء مستعارة. قصص قد تبدو عادية وشخصية فقط لصاحباتها، ولكنّها من صميم واقعنا.

أثناء عملي على هذا التقرير، بحثت عبر الإنترنت عن نصوص ومقالات تسرد قصص كويريّات وكويريّين مع رمضان والحجر الصحي. عثرت على فيديو لشاب يُدعى صباح شودري يتحدث فيه عن الإسلام والكويرية وكيف أنّ الروحانيات لا تتعارض مع الهويات الجندرية غير النمطية، حيث يقول: "إن رحلة كل شخص في رمضان مختلفة. لكل منا رحلته الخاصة، وفي النهاية، هذا أمرٌ شخصي". تتقاطع هذه الجملة بعمق وببساطة مع فكرة الكويرية، لما تحمله من نهج حياة واختيارات وهويات لا تقبل القولبة، بعيدة عن الثنائية التي فرضتها معايير الأبوية، من أجل أن يحظى كلّ شخص بحريته في أن يكون ما يريد.

لكن للأسف، ليس هذا حال ما يعيشه البشر عمومًا، والكويريات/ون على وجه الخصوص، ضمن منظومات رأسمالية وأبوية سلطويّة، فالتقييدات على الحريات الفردية تزداد أثناء المناسبات الدينية، وتتفاقم أكثر في ظروف حياتية طارئة يعيشها العالم في ظلّ أزمة فيروس كورونا والحجر الصحي.

في مثل هذه الظروف القاهرة، اضطرت البعض إلى البقاء في البيت مع معنّفيهم مثلما حصل مع العديد من النساء اللاتي نسمع قصص معاناتهنّ اليومية مع أزواج أو أقارب استغلّوا الحجر الصحي العام للإفلات من العقاب والمحاسبة. كذلك اضطر كويريون وكويريات إلى العودة إلى بيت العائلة حيث التقييد والضغط. ليست كلّ البيوت آمنة وفي أحيان كثيرة تكون أشدّ قسوة وأشدّ قمعًا من الشارع والدوائر الموسعة. 

يأتي رمضان هذا العام مع الحجر الصحي. ومع تضييق المساحات وازدياد القيود، تُطرح أسئلة الحرية والحركة والتغييرات التي طرأت على أنماط الحياة، والتفكير بالهويات المستضعفة في ظلّ أشكال قمع سلطوية وأبوية مستمرة.

من هنا، حاولت جمع قصص نساء كويريات يعشن على وقع رمضان والحجر وقادني الحديث معهنّ إلى طرح تساؤلات عديدة. أنقل قصص محدّثاتي بأسماء مستعارة. قصص قد تبدو عادية وشخصية فقط لصاحباتها، ولكنّها من صميم واقعنا. 

البعد أرحم

كانت محطتي الأولى تونس، هذا البلد الذي تعمّق تواصلي معه منذ ثورة 2011 ضدّ نظام بن علي الاستبدادي، سواء بالتواصل الشخصي أو المعرفي من خلال قصص أصدقاء وصديقات، أو من خلال زيارات قليلة لم تتكرر فيما بعد. من ذكرياتي مع تونس العاصمة، كانت بداية شهر رمضان سنة 2012، وكيف يغيّر دخوله شكل المدينة وحيوات الناس، على الأقل في نهج الحياة العلني الذي يمارسه السكان، أو يتوقفون عن ممارسته لفترة مؤقتة.

من تونس، تحدثت إلى سلوى، والتي ربطت نهج حياتها كامرأة كويرية بالعلاقة المتوترة مع أخيها، على الرغم من المحبة المتبادلة، إلا أنها لا تسلم من تعليقاته الساخرة والقاسية في أحيان كثيرة بسبب ميولها المثليّة. تقول سلوى: "أعاني من رهاب المثلية في الشارع والبيت، تعليقات أخي جارحة ولا يريد أن يفهمني أو يتقبلني بالرغم من أنّي لا أخفي شيئًا وجميع أفراد عائلتي على علم بميولي المثلية"، تسكت قليلًا وتضيف: "لا أرتاح في الحديث إلا مع أمي. أرغب في أحيانٍ كثيرةٍ أن أصرخ في وجه أخي وأقول له إمّا أن تقبلني دون تنمّر أو نقطع الصلة بيننا نهائيًا". 

تعيش سلوى مع والدتها ووالدها في تونس، ومنذ بداية الحجر الصحي لا يخرجون من البيت لأسباب متعلقة بصحة كل منهم، خاصة أن والديها كبيران في السن. أما الأخ، فيمرّ أحيانًا أمام المنزل ليلقي السلام على العائلة عبر الشبّاك. أجواء رمضان مختلفة هذه السنة ولها طعم آخر، لم تتجمّع العائلة كما في السابق وانعدمت الزيارات والسهرات الليلية. 

عن هذا تقول: "صحيح أني مشتاقة لأخي ولعائلته، لكن مع هذه الظروف أشعر بالراحة، لأنه في السابق، ومع كل زيارة له لبيتنا، كنت أصاب بقلق مستمر خوفًا من تعليقاته المناهضة للمثلية الجنسية". وتتابع: "يؤلمني عدم رؤيتهم، خاصة في هذه الأيام، لكني مرتاحة أكثر في بعدي عنهم، أشعر أني أحبهم أكثر عن بُعد، على رغم أني وأبي وأمي وحيدون هذه الأيام".

أُمثل أنني صائمة ليوم واحد في الأسبوع

خلال بحثي عن قصص، أردت أيضًا أن تكون الظروف التي تعيشها النساء متنوعة، على الأقل فيما يتعلق بالحياة اليومية مع الأهل أو بعيدًا عنهم. نهى من مصر، تعيش بعيدًا عن بيت أهلها. ومصر التي أعرفها في رمضان تختلف عن تونس كثيرًا. في تونس، تحوّلت حياتي مع الأصدقاء إلى داخل البيوت، وفي مصر كانت تحدث خارجها، خاصة بعد الإفطار وحتى السحور، ورمضان المصري في الحجر الصحي، يختلف تمامًا عمّا تألفه القاهرة.

تعيش نهى في القاهرة مع حبيبتها/شريكتها، وتزور أهلها مرة كل أسبوع، وعلى الرغم من أن تقضية يوم واحد في الأسبوع مع أهلها أسهل بكثير من العيش معهم، إلا أنه يمرّ بصعوبة. "يوم واحد ولكنه شاقّ لأنني أمثّل أمامهم بأنني صائمة. لا أريد أن أدخل في صراع معهم ولا أريد أن يحسّوا بأنني لا أصوم"، تقول نهى.

وتضيف: "رمضان بالنسبة لي شهر يعيق كل شيء، والدنيا دائمًا سريعة والأجواء في الشوارع مشحونة. رمضان مشهور بالأكل والزحمة وقضاء كل الوقت خارج البيت، إلا أنه في الحجر الصحي خانقٌ أكثر من أيّ وقتٍ مضى. والأهل أمام وجهك ويركزون معك طول الوقت، لذلك قررت أن أزورهم مرّة واحدة في الأسبوع، كي أتجنّب الملاحظات والمشاكل وأظلّ أحبّهم". 

في بيتهما، تتعامل نهى وحبيبتها مع الحجر الصحي كإجازة طويلة من الشغل حيث تقضيان الوقت في الاسترخاء ولعب الرياضة وطبخ أكلات جديدة. إلا أن الحجر بالنسبة لكثيرين وكثيرات، ليس وقتًا للمتعة والتأمّل، فهو مأساة حقيقية بالنسبة لمن فقدوا وظائفهم أو منعتهن الظروف من مواصلة أشغالهن. كذلك هو مأساة بالنسبة إلى الكويريات والكويريين الذين لا يقبل أحد تشغيلهم في الأيام العادية فكم بالحري في زمن الأوبئة.

رمضان مرهق عاطفيًا وذهنيًا

على عكس تونس والقاهرة، لم أزر البحرين في حياتي، ولا أملك أدنى فكرة عن شكل رمضان في المنامة مثلًا، وكالعادة، تلبّي قصص الأصدقاء والصديقات عطش فضولي. أعرف إيمان من البحرين منذ فترة قصيرة، ومع طرحي لموضوع التقرير؛ الكويرية ورمضان والحجر الصحي، تحمّست جدًا وكشفت لي أن استعمال مصطلح "هوية كويرية" محدود في المجتمع البحريني وغير شائع.

عن هذه النقطة تضيف إيمان: "يوجد في البحرين 3 مجموعات كويرية مركزية، الأولى تضم أشخاصًا ينتمون إلى عائلات منفتحة فكريًا، وأشخاصًا يعبّرون عن هوياتهن ويواعدون فقط في الحفلات الخاصة أو البارات، وهي أكثر التجمعات التي يشعر من ينتمي إليها بالتحرر والانعتاق من النواميس والضغوطات المجتمعية".

وتواصل الشرح: "المجموعة الثانية تقع على القطب الآخر، حيث من الصعب على من تنتمي إليها أن تعبّر عن هويّتها بحرّية، كما يتعرّض للتنمّر في الشارع والتذنيب من قبل أهله. أما المجموعة الثالثة وأنا منها فتضم الأشخاص الذين يحبّون المواعدة والجلسات الخمرية والتجمعات ولكنهم لا يحببن الصخب وحذرات في تحركاتهن. فأنا مثلًا أخرج رفقة الأشخاص الذين أواعدهم ولكنني أتجنب الفضاءات العائلية. أشرب الكحول ولكن في البيت أو عند أصدقائي، أمارس الجنس ولكن في الفنادق".

تتابع قولها: "الطريقة الوحيدة للقاء كوريات أو كوريين تكون خلال حفلات أو تجمعات سرية أو أمسيات فنية. وفي رمضان، كل هذه المساحات مفقودة، خاصة مع الحجر الصحي، وبالتالي فإنّ الالتقاء بأشخاص مثليّي الجنس ولديهن اهتمامات مشابهة أمرٌ يكاد يكون مستحيلًا".

إيمان لا تصوم، ولديها أسباب عديدة لذلك، حسب تعبيرها، "أنا مثل نساء كثيرات، أختلف مع والديّ سياسيًا ودينيًا. احتجت إلى سنوات عديدة كي أتعلّم فنّ إتقان الكذب عليهما كي يتركاني وشأني، أعيش معهما بشخصية مختلفة عن حقيقتي"، مُضيفة: "لا أؤمن برمضان ولا بالفرائض الدينية وأعتبر أنّ النساء مقموعات أكثر على اعتبار أنهنّ عورة. لا تتعامل عائلتي مع أخي مثلما تتعامل معي. يكفي أنّه ذكر ولم يبزغ شعر لحيته وشواربه بعد حتى يحقّ له أن يأكل ولا يصوم. أما أنا رغم أنني صرت امرأةً ناضجةً مازالا يتحكّمان بي ويقيّدان حريّتي".

تتناول إيمان مضادّات للاكتئاب ولا تستطيع الصوم بسببها. تقول: "الصوم يزيد من التعب الذي يحفّز الاكتئاب، وقد حاولت الصيام من قبل ولم يتحسّن مزاجي ولم أحسّ بتواصل روحي مع الله. الأجواء مشحونة في البيت وأكره نفسي عندما أتسلل إلى المطبخ كي أشرب الماء أو أضع في فمي أيّ شيء أسدّ به الرمق. وحتى عندما تأتيني الدورة الشهرية لا أسلم من الملاحظات والنقد ومن سؤال، متى تنتهي الدورة؟".

وتتابع: "لا أعرف لماذا أنا وغيري مطالباتٌ بوضع شال فوق رؤوسنا خلال رمضان، ولماذا نحن مطالباتٌ بإظهار دليلٍ على تديّننا. أنا مجبرةٌ على تلبية دعوات ختم القرآن ضمن حلقات عائلية خانقة ومجبرة على كل الممارسات الدينية الرمضانية ولا أحد يحسّ بضيقي أو يفهمني. رمضان يُرهقني عاطفيًا وذهنيًا وأعتقد أنّ الكويريات والكويريين يُعاملون على أنهم أقل تدينًا من المغايرين والمغايرات، وبالتالي علينا مواصلة إثبات أنّنا يُمكن أن نكون متديّناتٍ أيضًا".

أحب ديانتي وزوجتي كثيرًا

في خضم البحث عن قصص وشهادات، أردت أيضًا أن يُسلط التقرير الضوء على المهاجرين والمهاجرات العرب في أوروبا. تحدثت إلى لطيفة، وهي طبيبة نفسية وعاملة اجتماعية تعيش بأمستردام وقد ترعرعت على يد جدّيها في المغرب.

أوّل شيء قالته لطيفة في بداية حديثنا أنها تحبّ شهر رمضان وتحب الصوم، "يربطني هذا مع نفسي ومع الحياة. أصوم كل سنة. هل أنا جائعة؟ كلا. هل أشعر بسلام؟ نعم"، مؤكّدة قولها: "رمضان مثل اليوغا يجعلني أكثر هدوءًا وسلامًا. بدأت بالصوم وأنا في الرابعة عشر من عمري، وبالطبع، كانت هناك سنوات لم أفهمه، لكنني درّبت نفسي". 

فيما يتعلق برمضان والحجر الصحي، تقول لطيفة: "صراحة، لا أشعر بالفرق عن سنوات سابقة، أمي تحتضر بسبب سرطان في الرأس، وبالتالي، أصوم وأعتني بها. لا أشعر بالحجر الصحي، صدقًا". وتضيف: "لا أعرف لماذا ينظر إليّ البعض باستغراب لأنني مثليّة وأصوم. كل شخص يمكنه أن يصوم بغض النظر عن ميولاته الجنسية. أعيش حياة صادقة، لا أؤذي أحدًا، أحب ديانتي وأحب زوجتي كثيرًا. يستطيع الناس أن يكون لهن آراء مختلفة، لكني صدقًا لا أهتم، لأن الله وحده في النهاية من سيقرر إن عشت حياةً جيدةً أم لا". 

لا ترى لطيفة أنّ هناك تناقضًا بين مثليّتها وإسلامها، "كل شخص حرّ في أن تفعل ما تريد ولا أرى أيّ تناقض بين الدين والحياة اليومية. الإسلام يجب أن يمنحك سلامًا، ولا أن يشعرك بأنك مختلفة وإذا حصل العكس فهذا أمر محزن حقًا. عمري 35 سنة وبالتالي أخذت وقتًا طويلًا كي أستوعب أنه عليّ خلق طريقي وحدي في الحياة، وأفعل ما هو مناسب بالنسبة لي فقط".

جاء رمضان هذه السنة بحلّة "جديدة"، وفي ظل ظروف أثّرت على هيكلية معظم طقوسه وعاداته كما أثّرت في العلاقات الأسريّة. سلّطت هذه الظروف الضوء على مواضيع محورية تدور في فلك الحريات الفردية. صرنا نفكر أكثر ونتساءل أكثر حول هوياتنا ومساحاتنا الخاصة وحميميتنا. كانت هذه رحلتي القصيرة مع شهادات نساء كويريات كنّ وما زلن يبحثن عن "الابنة الضالة"؛ عن حرّيتهنّ.

 

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.