ترتبط بكارة المرأة بهالة من القداسة المفتعلة والتي لا هدف لها سوى السيطرة على الجسد الأنثويّ.
دائما ما نتكلّم عن الجسد "العورة"، "المحرّم" و"الهالك" في ما يتعلّق يالجسد الأنثويّ. نحن مجتمعات مسكونة بهاجس الجسد الذي نربطه بطريقة ميكانيكيّة بالدين والعرف والتقاليد. يحمل الجسد الأنثويّ شحنة رمزية في المخيال الذكوريّ، فهذا الجسد متوقّف على مفاهيم أو مجموعة من القيم الاجتماعية مثل "الشرف" والعرض" و"العفّة"، لذلك عمدت بعض المجتمعات إلى منع المتعة عن المرأة وإخماد شهوتها الجنسيّة بالخفض أو ما يعرف بالختان.
جسد المرأة هو جسد تابع للرجل فهي "الحرمة"، وتستقي هذه الفكرة مرجعيّتها من المؤسّسة الذكوريّة. وعليه فإنّ "الفعل الجنسي يصبح حقلا لممارسة التفوّق، التفوّق الذي يضمنه الجماع من حيث هو فعل وسيطرة وولوج"، كما يذكر الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في كتابه عن تاريخ الجنسانية "استعمال اللذّات". إن مصادرة الجنس ليست وليدة الحاضر الراهن بل تعود في جذورها إلى الحضارات الذكورية القديمة، وإلى النزعة الأبوية التي شكّلت نظاما أخلاقيا أضفى الشرعية على سلطة الذكر بعد أن تمكن من ضبط حركيّة جسد المرأة وتقنين فعلها الجنسي، وبالتالي تحديد حركتها ومصادرة حريتها. وهكذا نشأت منظومة من القيم والأعراف الاجتماعية والأخلاقية التي تعكس المباحات والمحرمات في المؤسسة الذكورية1 .
غشاء البكارة هو شهادة شرف المرأة وزينتها، ويذكر في هذا الصدد، محمد بن أحمد التيجاني في كتابه "تحفة العروس ومتعة النفوس" والذي تناول فيه موضوع الجنس والزواج من منظور دينيّ، أن الرسول محمد نهى عن الزواج بالثيب (أي المرأة مُفتضة البكارة) وحثّ على الزواج بالأبكار بقوله: "عليكم بالأبكار فإنّهن أعذب أفواها وأنتق أرحاما وأغرّ غرّة". نفهم من خلال هذا الحديث أنّ بكارة المرأة تكتسي نوعا من القدسيّة، نظرا لارتباطها بمنظومة أخلاقيّة ودينيّة، دفعت بعض مجتمعات شمال إفريقيا إلى الاستنجاد بالسحر من خلال تصفيح الفتيات حفاظا على بكارتهنّ/شرفهنّ.
ما هو التصفيح؟
التصفيح هو عمليّة لتحصين الجسد الأنثوي مازالت قائمة إلى اليوم في تونس والمغرب والجزائر، وقد استعمل محمد النفزاوي في كتابه "الروض العاطر في نزهة الخاطر" عبارة "مصفّحات" حيث قال: "مصفّحات لم يقدر على دخولهنّ ذكور".
تنقسم عمليّة التصفيح، وهي ممارسة سحريّة بالأساس، إلى مرحلتين، المرحلة الأولى قبل الزواج وتحديدا قبل سنّ رشد الفتاة وتُسمّى بـ"الغلق" أو التصفيح، والمرحلة الثانية ليلة زفافها وتُسمّى "حلّ التصفيح". وقد اختلفت وسائل وطرق هذه الممارسة التي تُسمّى في غرب الجزائر بـ"التغوار" وفي المغرب الأقصى بـ"الرّباط"، حسب خصوصيّات كلّ منطقة. وتذكر بعض المراجع التصفيح بالمنسج أو بالسيف أو بالقفل والذي يصير في الحمام، هذا المكان المحمّل برمزيّات كثيرة مرتبط في الذهنيّة الشعبيّة بالإثارة والجنس والطهارة أيضا.
ومن الطرق المستعملة كما تذكر ذلك الباحثة في التاريخ الإسلاميّ الوسيط صوفية السحيري بن حتيرة في كتابها "الجسد والمجتمع": "تقوم الأم بجرح صغير في ركبتي البنت ثم تنقع ثلاث زبيبات في دم الركبة اليسرى وأربع زبيبات باليمنى، وبعد أن تتناول البنت الزبيبات السبع تعيد سبع مرّات الجملة التالية "أنا كالحيط وولد الناس خيط". تترسخ هذه الجملة في ذهن الطفلة وتتسرّب إلى مخزونها اللاشعوريّ"2 . وحسب نفس الباحثة فإنّ مفعول هذا الطقس قد يحدث تأثيرا نفسيا على الطفلة فتصبح ليلة زفافها "حائطا"، إذ يؤثر ما هو نفسي على ما هو بيولوجي فيستعصى الولوج.
كما ينجح ذلك الطقس بتأثيره النفسي على الرجل أيضا. وهو ما يزيد في الاعتقاد بنجاعة هذه الممارسة السحريّة ولذلك يجب حلّ التصفيح وفكّ مفعوله، فتتعرض البنت إلى نفس ذلك الطقس ولكن تعيد الجملة بصفة عكسية وسبع مرّات: "أنا خيط وابن الناس حيط"3 .
الشائع والمجهول
يلفّ موضوع التصفيح، في تونس، الكثير من الغموض رغم أنّه ممارسة شائعة في العديد من المناطق خاصّة تلك القريبة من الحدود الجزائريّة. حاولت بعض الدراسات في علم الاجتماع والنفس تحليل هذه الممارسة وفكّ طلاسمها، ومع ذلك تظلّ الكتابات حول هذا الموضوع قليلة جدّا، إلى جانب انعدام إحصائيّات رسميّة عن عدد الفتيات المُصفّحات. في قرية ساقية سيدي يوسف وهي قرية صغيرة تقع بالشمال الغربي لتونس العاصمة، كنّا نتداول خلسة حكايات الفتيات المُصفّحات والنسوة اللاّتي لم يقدر أزواجهنّ على فضّ بكارتهنّ ليلة الدخلة أو اللاّتي حلّت بأجسادهنّ لعنة ما بسبب هذه الممارسة السحريّة والغامضة.
يلفّ موضوع التصفيح، في تونس، الكثير من الغموض رغم أنّه ممارسة شائعة
كانت كلّ واحدة فينا معرّضة إلى أن يتمّ تصفيحها من قبل نساء القرية الثقات. كنّا ونحن في سنّ صغيرة، نعلم كيف تصير عمليّة التصفيح رغم عدم استيعابنا لمفهوم العذريّة من وجهة نظر الأخلاق السائدة. في الحمّام، ونحن حفاة عراة، كنّا نجيد التفريق بين فتاة مُصفّحة وأخرى لا، إذ يكفي وجود سبعة جروح على فخذ الفتاة لمعرفة أنّها كعشرات الأخريات خضعت إلى "الشعيرة الحامية للعذرية" على حدّ عبارة الباحثة في علم الاجتماع ابتسام بن دريدي.
تقوم عملية التصفيح، وتختلف من منطقة إلى أخرى، على جرح فخذ الفتاة سبع مرّات ثمّ تُغمّس سبع ثمرات من الزبيب أو التمر في الدم الذي يخرج من الجرح، تتناولها وتردّد المرأة المسؤولة عن عمليّة التصفيح الجملة التالية وهي عبارة عن طلاسم سحريّة "بنتي حيط وولد الناس خيط". لا تختلف عمليّة "الحلّ"، والتي تكون قبل ساعات من ليلة الزفاف، عن "الغلق"، ولكن مع فارق ترديد الجملة بطريقة عكسية "ولد الناس حيط وبنتي خيط". المهمّ في هذه العمليّة هو أن المرأة التي قامت بعملية التصفيح أوّل مرّة هي نفسها التي تقوم بإزالته، وفي حال وفاتها تقوم خليفتها بذلك أو امرأة تحمل نفس اسمها.
الذهنية السحريّة
جرح الفتاة غير البالغة سبع مرّات في فخذها مقصود، فرقم سبعة ذو خصائص سحريّة، مثل الرقم خمسة الذي يكتسب قيمته السحرية عند الحديث عن العين "الحاسدة" أو العين "الشريرة" وبمجرّد أن نقول "خمسة في عين الحسّاد" نُبعد عنّا كل أذى. أمّا بالنسبة إلى الرقم سبعة فهو مرتبط في المخيال الشعبيّ بموروث دينيّ وأسطوريّ محمّل بالرموز: السماوات السبع في الإسلام، العوالم العليا والسفلى السبع في الهندوسية، خطوات بوذا السبع وقبائل الجنّ السبع.
ويسود في الاعتقاد أنه بعد عمليّة التصفيح يسكن جنيّ رحم الفتاة ليحرس عذريّتها. وللجنّ حضور بارز في الثقافة الشعبيّة وشكّل موضوعا مهمّا للبحث الأنثروبولوجي. يمثل الاعتقاد في الجان، حسب ما يذكره الباحث في الأنثروبولوجيا طواهري ميلود في كتابه "المقدّس الشعبي"، أساس المعتقدات السحرية، حيث يكون الجن غالبا هو الرابط الخفي بين الساحر والمسحور، وربما تتميز هذه الذهنية عن غيرها من باقي الشعوب العربية والإسلامية بما عرف من تشخيص بعض كائنات الخفاء الشريرة أو الحامية ومنحها صفات وأسماء (كعيشة قنديشة مثلا) وهي من أكثر شخصيات الجان شعبية تدعى أيضا "عيشة مولاة المرجة" أي سيدة المستنقعات توجد بشتوان بأحواز تلمسان4 .
يسود في الاعتقاد أنه بعد عمليّة التصفيح يسكن جنيّ رحم الفتاة ليحرس عذريّتها
اشتغل العديد من الباحثين والباحثات على الذهنيّة السحريّة وحاولوا/ن تفكيكها وفهمها، مثل مارسيل موس وهنري هوبير في كتابهما "النظريّة العامّة للسحر" وكلود ليفي ستروس في "السحر وسحره" و"الفعالية الرمزيّة"، كما تناول دوركهايم في كتابه "الأشكال الأوليّة للحياة الدينية" موضوع السحر وارتباطه الوثيق بالدين. يلاحظ لفي ستروس، حسب تحليل طواهري ميلود، أن البنية الفكرية للأسطورة تتناسب مع البنية العضوية للجسد الذي يراد تخفيف آلامه على سبيل المثال، وعليه فالوظيفة الرمزية ما هي إلاّ ذلك التناسب بين بنيات من طبيعة مختلفة يفترض أنها تعكس الطابع البنائي للعقل والعالم، لذا فالرمزي وسيط بين الانفعالي والعقلي، بين بنية الجسد وبنية اللغة، بين الفردي والاجتماعي. والقول بأن السحر رمزي، لا يعني نفي فعاليته، بل بالعكس تفسيرها بدون اللجوء إلى فرضية النفسية الفاعلة مباشرة على الجسد: إنها إدراج لمجموع البنيات (اجتماعية، لغوية، كسمولوجية، وبكلمة واحدة رمزية) بين نفسية الساحر وجسد من يعالج، ومحتوى العلاقة بينهما5 .
التصفيح في التاريخ
تعود عملية التصفيح تاريخيّا إلى العهد الحفصيّ، حيث كانت إحدى أهمّ الممارسات الشائعة في المجتمع الحفصي الذي كانت تطغى عليه الذهنية السحريّة. تذكر صوفية السحيري في كتابها السالف ذكره "الجسد والمجتمع" أن المرأة مخلوق ذو رأسين: حورية وأفعى. والوجه الأفعوي الذي بدت عليه المرأة في أغلب الأقصوصات الواردة بكتب الأدب الجنسي الحفصية، تتمثل في أنّها المخلوقة المتآمرة المحتالة، الشبقة المتحايلة على القانون والأعراف وعلى البعل.
إن الكثير من هذه الأفكار والمفاهيم السائدة في ذهنية الرجل الحفصي عن المرأة هي عبارة عن ترسّبات وتراكمات تاريخية طويلة تمتد من عصور ماقبل الإسلام6 . وعليه فإنّ المعايير الجسديّة والأخلاقيّة في المجتمع الحفصي تتجسّد في بكارة العروس التي كانت تتعرّض إلى فحص تقوم به الأمينة على النساء أو امرأتان شاهدتان وتسمى هذه العمليّة العُقر.
كانت القابلة تكشف على العروس إذا ادّعي أنّها ثيّبٌ، ويكلّف القاضي امرأتان للقيام بهذا الكشف، ويجب أن تكونا من "ثقات النساء" أو من "أهل الفضل من النساء"7 . كانت عملية فحص بكارة العروس قبل الزفاف تتمّ ببيضة العقر، والتي لا نجد تحديدا واضحا لطبيعتها، فبعضهم يقول بأنّها بيضة الدّيك التي يبيضها مرّة في السنة أو مرّة في عمره وآخرون يقولون بأنّها آخر بيضة تبيضها الدجاجة إذا هرمت.
كانت عملية فحص بكارة العروس من الممارسات السائدة في العديد من مناطق تونس، حيث كان يقوم بها الرجال بخنصرهم، لذلك كانوا يحنّونه قبل الزواج. إدراك مفهوم البكارة بشحناته الرمزيّة يختلف من شعب إلى آخر، وفي هذا الصدد تقول سيمون دي بوفوار إن "بعض الشعوب اعتقدت أن في فرج المرأة ثعبانا يمكن أن يعضّ الرجل في ذكره إذا ما أولجه فيها لافتضاض البكارة. ولذلك كانت بعض الشعوب تسلّم بناتها إلى غرباء يمرون بالقرية ليفتضوا بكارة بناتهنّ أو يقدمهنّ للسحرة لكي لا يمسّ ذكور القبيلة أي أذى يتأتى من ذلك"8 .
وعموما ترتبط بكارة المرأة بهالة من القداسة المفتعلة والتي لا هدف لها سوى السيطرة على الجسد الأنثويّ بمجموعة من التقاليد المتكلّسة تستمدّ شرعيّتها من الدين، وبممارسات رجعيّة تستمدّ خصوصيّتها من قوّة الخرافة ومن الذهنية السحريّة مثل التصفيح وهو عبارة عن طمأنة وهمية لعائلة الفتاة أو للفتاة نفسها بأنّ غشاء بكارتها محميّ ومحصّن.
- 1 الحيدري، إبراهيم. "النظام الأبوي وإشكاليّة الجنس عند العرب"، دار الساقي، بيروت، 2003، ص 274
- 2 السحيري بن حتيرة، صوفية. "الجسد والمجتمع: دراسة أنتروبولوجية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد"، دار محمد علي للنشر، تونس، 2008، ص 56
- 3 نفس المصدر، ص 56
- 4 طواهري، ميلود. "المقدّس الشعبي: تمثّلات، مرجعيّات وممارسات"، دار الروافد الثقافية، الجزائر، 2016، ص 116 و117
- 5 نفس المصدر، ص 31
- 6 السحيري بن حتيرة، صوفية. "الجسد والمجتمع: دراسة أنتروبولوجية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد"، دار محمد علي للنشر، تونس، 2008، ص 43
- 7 نفس المصدر، ص 51 و52
- 8 السحيري بن حتيرة، صوفية. "الجسد والمجتمع: دراسة أنتروبولوجية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد"، دار محمد علي للنشر، تونس، 2008، ص 60
إضافة تعليق جديد