اكتشفت والدة أميرة الدسوقي عوالم الهواتف الذكية والإنترنت عام 2014. بعد فترة، كوّنَت صداقاتٍ جديدةً واستطاعت التغلّب على الوحدة التي أحسّت بها بعد وفاة زوجها وتقاعدها. لكن هذا العالم المُسلّي له جانبٌ مظلمٌ صدمَها وأتعبها، تحكيه لنا الكاتبة في هذا المقال.
تريد أمي الجنس لكنها تنكر احتياجها له أمامي. لم تعِش حياةً جنسيةً سعيدةً مع أبي، ليس فقط لضعف قدراته الجنسية، بل أيضًا لعدم انفتاحها الكافي على الجنس بفعل نشوئها في مجتمعٍ منغلق، إلى جانب الختان الذي تعرّضت له في صغرها وبتر جزءٍ كبيرٍ من متعتها الجسدية.
هذا الجسد بكلّ ما فيه من هرموناتٍ وعاطفةٍ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى رجلٍ يتولى رعايته، وأبي الذي لم تكن أمي تحيا معه علاقةً جنسيةً سعيدة، توفي وهي في سنٍ صغيرةٍ دون الخمسين. بعدها بسنوات، جرّبت أمي الزواج مرةً أخرى، لكنه أيضًا لم يكن مثمرًا جنسيًا وعاطفيًا. فتركت الأمر برمّته وانعزلَت عن الرجال، ثم جاء تقاعدها ليكمل دائرة الوحدة والوحشة النفسية والجسدية.
لم تستمر تلك الوحدة طويلًا، إذ اكتشفت أمي عام 2014 عوالم الهواتف الذكية والإنترنت، وساعدها إلمامها بقدرٍ من اللغة الإنجليزية في الدخول إلى هذا الفضاء الافتراضي المثير والمخيف بخطوات طفلٍ تعلّم المشي حديثًا. بعد فترة، كوّنَت صداقاتٍ جديدةً ولم تعد تحسّ بالوحدة، لكن هذا العالم المُسلّي له جانبٌ مظلمٌ صدمَها وأتعبها، أحكيه لكم/ن في هذا المقال.
تبلغ أمّي من العمر 67 عامًا، لكنّ الزمن لم يستطع أن يسرق منها رشاقتها وأنوثتها وجسدها المثير. كان جمالها هذا منعزلًا في المنزل، حتى نسيَت كلمات الغزل والحب ونظرات الإعجاب من الرجال، ثم التحقَت بعالم فيسبوك والمجموعات التي تجمع كبار السّن، فتغيّر كل شيء.
بدايةً من الاعتراف بالحب منذ المحادثة الأولى في الرسائل الخاصة، وصولًا إلى صُور قضبانٍ مُنتصبةٍ من حساباتٍ مجهولةٍ ودعواتٍ مفتوحةٍ لممارسة الجنس على الإنترنت، أخذت الصدمات تتوالى على أمي التي كانت تلجأ إليّ في كل مرةٍ لأنّني بالنسبة إليها "أدرى منها بقلّة الأدب" وأفوقها خبرةً جنسيةً وعاطفية.
تعرّضَت أمي لصدمةٍ نفسيةٍ قويةٍ دفعتها إلى زيارة طبيبٍ نفسي للمرة الأولى في حياتها. بدأت القصة بأن بعث لها رجلٌ خمسينيٌ مثيرٌ ووسيمٌ رسالةً اعتبرتها أمي رسالةً صادقة، جهلًا منها بما يدور في ذلك العالم. تأثّرَت ببوحه ومشاعره بعد سنواتٍ من الوحدة والحرمان الجنسي. لكن سرعان ما اكتشفَت أن الهدف من وراء تلك التصريحات العاطفية هو علاقةٌ جنسيةٌ خاليةٌ من أي عواطف أو التزامات، موضحًا لها أنه سيتكفّل بها ماديًا عندما تسافر إليه في المحافظة الساحلية التي يعيش فيها، شرط ألا يلتقيها في أي وقتٍ آخر وألا يكون مسؤولًا عنها ماديًا. كما تضمّنت شروطه ألا تتصل به أمي لأنّه متزوج.
وقع هذا العرض على أمي كصاعقةٍ عصفَت بكيانها، لاسيّما أنها قضت شهورًا تتحدّث إلى ذلك الرجل كان خلالها عاطفيًا ورومانسيًا، لكن لم يكن ذلك سوى استدراجٍ لجعل عرضه "المُهين" - كما وصفته - مقبولًا.
قرارها استخدام هذا العالم الافتراضي للصداقة فقط لم يوقف تلك الرسائل التي تندرج تحت بند التحرش الصريح
رفضَت أمي العرض واكتأبَت، لكنها استعادَت توازنها وعادَت بشجاعةٍ إلى مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن قرّرت ألاّ تعتبرها فضاءً للبحث عن الحب، بل لتكوين صداقاتٍ مع أشخاصٍ مُتنوّعين.
منذ ذلك الوقت، أصبحَت أمي تُدير مجموعة "قلوب" التي تجمع الآلاف من كبار السن رجالًا ونساءً وتهدف إلى خلق حياةٍ اجتماعيةٍ لهم/ن على أرض الواقع من خلال تنظيم الرحلات والمقابلات والسفر إلى الإسكندرية وبلطيم. لكن قرارها استخدام هذا العالم الافتراضي للصداقة فقط لم يوقف تلك الرسائل التي تندرج تحت بند التحرش الصريح، والتي تأتيها من دون مبالغة، يوميًا.
كلّ ما تريده أمي رغم إنكارها هو رجلٌ يؤنس وحدتها. ومع كل رسالةٍ تصِلها، أرى في عينيها غضبًا مغلّفًا بالأمل: "لعلّه صادقٌ هذه المرّة" أو "لماذا لا يحبّني، ألستُ امرأةً جميلة؟". ثم تأتي الصورة المعتادة للقضيب، أو العرض نفسه لممارسة الجنس عبر الكاميرا. وعندما ترفض أمي، يأتي العرض مرةً أخرى لكن لقاء مقابلٍ مالي.
أذكر جيدًا ذلك الرجل الذي وثقَت فيه أمي تمامًا. كانا يتحدّثان عبر الهاتف ليلًا نهارًا، ورأيتُ كيف بدأَت تقع في حبّه. أحاطها بكل الحب والرعاية النفسية والمادية التي تستحقّها، ثم عرض عليها الزواج العرفي.
شجعتُها وقتذاك على خوض تجربة الزواج العرفيّ بما أنّها مُقتنعةٌ بالأمر ولا تُريد الدخول في زواجٍ رسمي. لكن عندما حانت اللحظة الحاسمة، اكتشفَت أمي أن الزواج العرفيّ الذي يتحدث عنه الرجل هو اتفاقٌ في ما بينهما فقط من دون محامٍ وشهود، مؤكدًا لها أن ذلك زواجٌ شرعيٌ وأنه تزوّج بهذه الطريقة أكثر من مرّة. لم تقتنع أمي بكلامه، لتأتي صدمتها الثانية.
خرَجت من هذه الأزمة أسرع من المرة الأولى، كما لو أن شيئًا في داخلها يتوقع الأسوأ دائمًا فلا تنكسر بسهولة. لكن مهما أنكرَت وكابرَت، ما زالت أمي تبحث عن شريك، وإلّا لماذا كل تلك اللقاءات التي تبوء بالفشل بعد أن تكتشف عروضًا لعلاقاتٍ عاطفيةٍ وجنسيةٍ تصِفُها بالغرابة؟
بعد فترةٍ لم يعُد الرجال المُتحرّشون أزمة أمي الوحيدة على مواقع التواصل الاجتماعي. "يخرب بيت جسمك" هي أوّل رسالةٍ وصلتها من سيدةٍ على فيسبوك. دقّقتُ في حسابها فلم يبدُ لي مُزيفًا، لكني ظللتُ أشكّ بأن الحساب يعود إلى رجلٍ مُتحرّشٍ لا امرأة؛ فحظرناه.
أما الذين تحرّشوا بها من حساباتهم الحقيقية، فلم تجد أمي الجرأة لفضحهم بسبب قناعتها الراسخة بأن "السّت هي اللّي هتتفِضِح"
لم يمرّ شهرٌ حتى تعرّفَت أمي إلى سيدةٍ أخرى. كان حديثها عاديًا في البداية، وتأكدنا من هويتها لكونها تمتلك مركزًا للتجميل. لكن بعد وقتٍ قصير، لمّحَت السيدة لأمي بأنها تريد العمل معها، ثم تحوّل عرضُ العمل فجأةً إلى صفقاتٍ مشبوهةٍ تتضمّن ممارسة الجنس مع الرجال، وسألَتها: "يعني إنتي عمرِك ما جرّبتي الجنس الجماعي؟".
عملَت أمّي في الوظيفة العامة لأكثر من ثلاثين عامًا، وهي امرأةٌ مُنفتحةٌ تعاملَت مع عشرات الرجال في حياتها واعتادَت كلام الغزل ونظرات الإعجاب. لكن ما تختبره على فيسبوك مختلفٌ تمامًا، وهي تجده مُشينًا وغير مألوف.
تُحدّثني أمي عن الأمر قائلة: "عندما تتعامل المرأة مع الرجل وجهًا لوجه، يكون أكثر حذرًا وخوفًا من ردّ فعلها. لكن المحادثة من وراء حجابٍ ومن خلف ستار الرسائل الخاصة، منحت الرجال الشجاعة والجرأة لقول المزيد مما يدور في أذهانهم. فكلّ ما يتطلبه الأمر للهروب من الموقف هو ضغط زرٍ واحدٍ على الهاتف، ولن يكون عندها مضطرًا للتعامل مع العواقب، لاسيّما إن كان يتحدّث من حسابٍ مزيف، ما يعني أنّ فرصة فضحه غير متاحة".
أما الذين تحرّشوا بها من حساباتهم الحقيقية، فلم تجد أمي الجرأة لفضحهم بسبب قناعتها الراسخة بأن "السّت هي اللّي هتتفِضِح". حاولتُ كثيرًا إقناعها بأنّ المتحرّش هو الشخص المُذنب الواجب مُحاسبته، لكنها لم تنجح بعد في تحرير فكرها وعقليتها من قبضة إخوتها الخمسة الذين نشأَت بينهم، على الرغم من وفاتهم جميعًا ورحيل زوجها وغياب أي سلطةٍ ذكوريةٍ مُباشرةٍ عليها.
تلك السلطة الذكورية التي عاشت في داخلها؛ أسقطتها أمي بالكامل على أخي الأكبر، فكلما حثثتُها على فضح أولئك الرجال تجيبني: "أخوكي يقول عليّا إيه؟ لمّيت الرجالة عليّا". لكن في نهاية المطاف، أقنعتُها بمنحي الفرصة لأجيب أولئك المتحرّشين بدلًا منها.
لا تُزعجني محاولات بعض الرجال التقرّب من أمي ومغازلتها ما دام ذلك يمدّها بإحساسٍ بأنّها ما زالت مرغوبة. ورغم التقزّز والغضب اللذان يسيطران عليها كلما وصلَتها صورة قضيبٍ أو دعوةٌ جريئةٌ لممارسة الجنس السادي أو المازوخي الذي لم تكن تعرف عنه شيئًا، ما يقلقني حقًا هو الأمل الذي ما زالت تتمسّك به للعثور على شريك صالحٍ يسعى للاستقرار في السنوات المتبقية من العمر.
أشعر بوخزةٍ في قلبي في كلّ مرةٍ تستعدّ فيها لمقابلة "العريس" كما تُسمّيه، وكلّها أملٌ في أن يكون جديًّا وصادقًا. أراها تمرّ في كل ما مررتُ به أنا منذ افتتحتُ حياتي العاطفية في سنّ المراهقة: شغف البدايات، ثم الأمل الجامح بالحب والاستقرار، وما يليه من تحطّم الحلم على صخرة الواقع وعدم جدية الطرف الآخر، وهكذا دواليك. لذلك، أتعمّد في كل مرةٍ أن أكون برفقتها قبل خروجها إلى الموعد، وفي انتظارها عندما تعود لترويَ لي تفاصيل اللقاء. في البداية، كانت التجارب مبتلّةٌ بالبكاء والحسرة، لكن مع الوقت والتكرار استطعنا أن نحوّل تلك اللقاءات مع "العرسان" إلى خزّان ضحكٍ وسُخرية.
قد يظنّ بعض الرجال أن النساء المُتقدّمات في السنّ يمتلكن قدرةً أكبر على تحمّل الصدمات بسبب خبراتهنّ الطويلة في الحياة، لكن الواقع الذي عشتُه مع أمي يقول عكس ذلك. يجب أن يُدرك العالم بأنّ هؤلاء النساء قد يكنّ هشّاتٌ ومُرتبكاتٌ ومُتعطّشاتٌ للعاطفة والحب مثلنا جميعًا، وأعمارهنّ لا تعني أنهنّ غير مرغوباتٍ أو غير مثيراتٍ أو أنّ آمالهنّ بمستقبلٍ حلوٍ أصبحَت معدومة.
إضافة تعليق جديد