من حوّاء إلى ليلى بن علي: حُكم المرأة وخراب الدول في الذهنيّة العربيّة الأبويّة

يبحث وليد نعمان في جذور تمثّل الصلة بين المرأة والنهايات الكبرى لكثير من الدول والدويلات في التاريخ العربي، وهي صلة تعززت بالأحكام الفقهية الذكورية وبالأحاديث التي تتنقّص من قيمة المرأة، بل تحذّر منها باعتبارها كائنًا شيطانيًا.

 

"لا يفلح قومٌ ولّوا أمرَهم امرأة".

- صحيح البخاري

يُعتبر هذا الحديث، بغضّ النظر عن الجدل بشأن صحّته أو بطلانه،1 حجرَ أساس في التصوّر الذكوريّ السلفي الذي يربط بين زعامة المرأة والخراب في مختلف وجوهه. وهذه الوثوقية في صيغته تستند إلى "رصيد" تاريخيّ وحضاريّ مُظلم للمرأة مخزونٍ في الذهنية العامة للشخصية القاعدية العربيّة، يمتدّ إلى قصّة الخلق الأوّل التي سوف تعزّزها الأحداث السياسية في مختلف حِقب الحضارة العربية الإسلامية، لاسيّما في مفاصلها الحرجة حين تقلّدت المرأة فيها مسؤولياتٍ في الحكم صريحةً أو خفية. ولمّا كان التعلّل والاتّكالية والتذرّع صفاتٍ أساسيةً في بنية العقل العربي الأبوي، ستكون المرأة مخرجًا للرجل ولحضارةٍ كاملةٍ من قفص الشعور بالمسؤولية والهزيمة القومية والحضارية المدوية.

 

قصّة الخلق وولادة أسطورة المرأة – الشيطان

يختلف النصّ القرآني عن النصّ التوراتي في تحديد المسؤول عن الخطيئة المتمثّلة في الأكل من الشجرة المحرّمة. فرواية التوراة في سِفْر التكوين [16: 3] تضع المرأة / حوّاء وسيطًا بين الحيّة وآدم؛ الحيّة أغوت حوّاء، وحوّاء أغوت آدم: "وعندما شاهدَت المرأةُ أنّ الشجرة لذيذةٌ لِلْمأكل وشهيةٌ للعيون ومثيرة للنظر قطفَت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضًا"، فكان عقابها: "وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ". أمّا القرآن، فيجعل الذنب مشتركًا بينهما بالتساوي أحيانًا وبالتشديد على آدم وحده أحيانًا أخرى: "فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ" [طه / 121].2 ويقابل الحيّةَ في الرواية القرآنية الشيطانُ: "فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ" [طه / 120].

لكن الرواية التوراتية هي التي غلبت على التفاسير الإسلامية لقصّة الخلق في القرآن، نظرًا لتأثّر المفسّرين بالإسرائيليات.3 لذا، نجد الطبري ينقل عن بعض المحدّثين التفسير التالي للآية السابقة: "فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدّمت حوّاء، فأكلت ثم قالت: يا آدم كُل، فإنّي قد أكلت، فلم يضرّني، فلمّا أكل آدم بدَت سوآتهما".4 وبعض الأحاديث تضع المرأة صراحةً عقبةً أمام دخول الرجل الجنّة، كحديث "لولا المرأة لدخل الرجل الجنّة"، الذي ذكره جلال الدين السيوطي مع عشرات الأحاديث التي يُشتبه في كونها موضوعة، أي مُختلقة.5 لكن جهود السيوطي وغيره من علماء الحديث لتبرئة الإسلام من التحيّز ضدّ المرأة بإبطال الأحاديث التي تنتقص منها، لم تحُل دون استقرار هذه الصورة الشيطانية عنها في الذهنية العربية التقليدية. وهي صورةٌ لم تكن قائمةً قبل الإسلام رغم ظاهرة وأد البنات التي ترجع أسبابها أساسًا إلى شدّة الفاقة وعدم القدرة على إعالتهنّ، بل كانت المرأة معادلًا رمزيًا أو حرفيًا للألوهة نفسها.

 

المرأة – الإلهة في عصر ما قبل الإسلام

إنّ أغلبية الآلهة المعظّمة لدى عرب الجاهلية مؤنّثةٌ وتحمل أسماءً مؤنّثةً أيضًا، كاللّات والعزّى ومناة، "فيزداد فيك الشعور بقداسة الأنثى ربّة كانت أو امرأة".6 ويذكر ابن الكلبي في كتابه عن الأصنام أنّ العرب "كانوا يقولون بنات الله [...] وهنّ يشفعن إليه".7 ويبدو أنّ القرآن قد أنكر على من يعبدونها – إضافة إلى كونه شركًا بالله – أنّهم اتّخذوا الإناث آلهةً باعتبارهنّ بنات الله بدلًا من الذكور، فكان ذلك مدعاة لسخطٍ مضاعفٍ عليهم: ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى﴾ ﴿ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ ﴿تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ [النجم: 19-22]. وجاء في تفسير ابن عاشور: "أيْ: أجَعَلْتُمْ لِلَّهِ بَناتٍ خاصَّةً وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ لَكم أوْلادًا ذُكُورًا وإناثًا وأنَّكم تُفَضِّلُونَ الذُّكُورَ وتَكْرَهُونَ الإناثَ وقَدْ خَصَصْتُمُ اللَّهَ بِالإناثِ دُونَ الذُّكُورِ واللَّهُ أوْلى بِالفَضْلِ والكَمالِ".8 وهذا الاحتجاج المقدّس على تنصيب الأنثى إلهةً سوف يمتدّ في صدر الإسلام ليرفض المرأة – النبيّة.

 

المرأة – النبيّة في صدر الإسلام

تضرب جذور الزعامة السياسية والدينية والروحية للمرأة عميقًا في تاريخ شبه الجزيرة، كبلقيس في سبأ، وزنوبيا في تدمر ودلوكة بنت زنوبيا في مصر. وتُعتبر الكهانة أخطر وأهمّ المناصب التي تبوّأتها المرأة في التاريخ العربي قبل الإسلام وفي صدره، إذ كان المستقبل في التصوّر الشعبي بيدها، فتحذّر قومها ليكونوا على أهبةٍ كي لا يؤخذوا على حين غِرّة. ومن الكاهنات اللواتي اشتهَرن علاوةً على سجاح التي قادت حربًا على الإسلام، نجد الزبراء كاهنة بني رئام التي حذّرت قومها من هجومٍ مفاجئ تكهّنت به، لكنّهم خالفوها وحقّروا أمرها فخسروا، وطريفة كاهنة اليمن التي تنسب إليها الذاكرة الشعبية تكهّنًا صادقًا بسيل العرم.9 هذه الخطورة جعلَت محمدًا يضع الكهّان في أعلى قائمة أعدائه مع وثنيّي قريش واليهود: "قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" [النمل:65]. وجاء في حديث: "من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبةً من السحر، زاد ما زاد"،10 كما اشتهر على لسان الناس المثل القائل "كذب المنجّمون ولو صدقوا".

تُعتبر الكهانة أخطر وأهمّ المناصب التي تبوّأتها المرأة في التاريخ العربي قبل الإسلام وفي صدره، إذ كان المستقبل في التصوّر الشعبي بيدها

أمّا سجاح، فتُعتبر أخطر الكاهنات التي قُرن بينها وبين نهاية قومها، في دليلٍ صريحٍ على ما تجلبه المرأة من خرابٍ إذا تزعّمت، وفقًا للذهنية الأبوية. ويُذكر أنّها حاربَت مُسيلمة مدّعي النبوّة حتّى تتفرّد وحدها برئاسة الجزيرة وتتفرّغ لحرب قريش، وفي أثناء تفاوضٍ غريبٍ بين الطرفين، يحدث أن تذعن سجاح لمُسيلمة وتسلم له قيادها وقياد قومها، رغم رجحان كفّتها عليه. ويتدخّل هنا المؤرّخون لقصّ سرديّةٍ عجيبةٍ تتمثّل في إغراء مُسيلمة لها وتهييج شبقها للذكر.

جاء في تاريخ الطبري بعد أن دخلَت عليه في قبّته المجمّرة عمدًا ببخورٍ مثيرٍ للشهوة، وبعد أن سألته عمّا أوحي إليه، قال: "إنّ الله خلق النساء أفراجًا، وجعل الرجال لهن أزواجًا، فنولج فيهن قعسًا إيلاجًا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجُا، فيُنتجن لنا سخالًا إنتاجًا". قالت: "أشهد أنك نبي". قال: "هل لكِ أن أتزوّجكِ فآكل بقومي وقومك العرب!" قالت: "نعم". قال:

ألا قومي إلى النَيْكِ   ***   فقد هُيّئْ لك المضجعْ

وإن شئتِ ففي البيت  ***   وإن شئتِ ففي المخدعْ

وإن شئت سلقناك  ***   وإن شئت على أربعْ

وإن شئتِ بثُلثيه  ***   وإن شئتِ به أجمعْ

قالت: "بل به أجمع، قال بذلك أوحى إليّ".11

هكذا، تستجيب القصّة - رغم تهافتها وتناقضاتها - إلى المخيال الذكوري الذي يرى في القدرة الجنسية آلةً ناجعةً دائمًا "لإخضاع المرأة الناشز [...] ولأنّ الصورة التي يريدون تكريسها عنها هي تلك المقترنة بالخدور والجماع".12 وبهذا تنتهي قصّة أشهر كاهنةٍ جرّت بحسب المؤرّخين على قومها أوبالَ الهزيمة أمام جيش خالد بن الوليد بعد أن سلّمتهم إلى مُسيلمة ليقاتلوا معه. 

وأغلق الإسلام باب النبوّة أمام المرأة باعتبارها غير مؤهّلة له: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى" [يوسف:109]. لكن المرأة سوف تشقّ طريقها إلى الزعامة مرّاتٍ أخرى في الإسلام قائدةً للجيش في ميدان الحرب، ونذكر هنا ثلاث قائداتٍ فارقات: عائشة زوجة محمّد، ودهيا ملكة البربر وشجرة الدرّ.

 

المرأة قائدةٌ في معترك الحروب: عائشة ودهيا وشجرة الدرّ

يستغلّ المؤرّخون المتحيّزون هزائم الحروب التي قادتها نساءٌ لترسيخ التلازم بينها وبين الخراب الأكيد، بينما لا يرون في هزائم القادة الرجال ما يوحي بذلك. فقد مثّلت هزيمة عائشة التي خرَجت على جملِها تقود جيشًا لمحاربة علي بن أبي طالب "تاريخًا لضرب دور المرأة في السياسة، فقد ارتبطَت عائشة في الضمير الجماعي باستحالة العمل السياسي للمرأة، ورسّخ الفقهاء خاصّة منهم الشيعة هذه الفكرة على مرّ العصور"،13 لاسيّما أنّ مصطلح الفتنة الكبرى التي يؤرّخ بها لأوّل حربٍ دمويةٍ بين المسلمين بعضهم ضدّ بعض يرتبط في الأذهان بمسؤولية عائشة المباشرة أكثر من مسؤولية غيرها. 

يستغلّ المؤرّخون المتحيّزون هزائم الحروب التي قادتها نساءٌ لترسيخ التلازم بينها وبين الخراب الأكيد، بينما لا يرون في هزائم القادة الرجال ما يوحي بذلك

وإن كانت عائشة أحرَجت المؤرّخين والفقهاء "لأنّهم ثبتوا على إدانة زعامة المرأة مع ثباتهم على إعلاء شأن هذه الشخصيّة"14 لذا تحفّظوا كثيرًا في اتّهامها، فإنّهم أباحوا لأنفسهم إذلال دهيا، ملكة البربر التي دوّخَت الغزاة العرب، وحمّلوها مسؤولية "الخراب الأوّل لإفريقيا" باتّباعها ما يُسمّى سياسة الأرض المحروقة. إذ ينقل المؤرّخ ابن عذاري قولها لأتباعها: "إنّ العرب إنّما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضّة، ونحن إنّما نريد منها المزارع والمراعي، فلا نرى لكم إلا خراب إفريقية كلّها، حتّى ييأس منها العرب" ونفّذَت ذلك، ففرّ أهلُ المدن واستنجدوا بحسّان بن النعمان الذي لم يستطع الظفر بها إلّا بعد أن أتاه المددُ من المشرق. وتريد هذه الرواية أن تظهر التقابل بين "ما تقتضيه الزعامة من الحكمة وتحقيق المصلحة من ناحية، وزعامة هذه المرأة التي أوصلَت إلى خراب العمران من ناحية ثانية".15

هكذا يتعامل العقل الذكوري مع حروب الزعيمات من النساء: يضخّم الهزيمة، يطمس الانتصارات، وينتهي إلى تأكيد القاعدة الجاهزة في الأذهان بأنّ المرأة لا تصلح للحكم. أمّا الانتصارات التي لا يستطيع إنكارها، فيتعامل معها على نحوٍ مختلف: ببساطةٍ، يتدخّل لإنهائها. هذا كان الحال مع شجرة الدرّ، زوجة نجم الدين أيّوب، الملك السابع من الأسرة الأيوبية في مصر. ففي سنة 648ه/1250م، فاجأ الموتُ الملكَ في حربه ضدّ الصليبيّين التي كانت مفتوحةً على ثلاثة محاور، فواصلَت شجرة الدرّ نيابةً عنه و"فرضَت نفسها كأيّ قائدٍ عسكري بحسّها الاستراتيجيّ، وحملت للمسلمين نصرًا مؤزّرًا يتذكّره الفرنسيّون جيّدًا لأنّها دمّرَت جيشهم وأسَرَت ملكهم لويس التاسع".16 لكن هذه الانتصارات لم تشفع للمرأة لتكون قائدةً للمسلمين، إذ أرسل الخليفة المُستعصم كتابه الشهير الذي قال فيه: "إِن كَانَت الرِّجَال قد عدمَت عنْدكُمْ فأعلمونا حَتَّى نُسَيَّرَ إِلَيْكُم رجلًا". وهكذا انتهَت فترة حكم شجرة الدرّ التي لم تدُم أكثر من ثلاثة أشهر. أمّا المُستعصم، فهو الذي جلب الخراب المدوي للدولة العباسية بأسرِها بسقوط عاصمتها بغداد على يد هولاكو عام 1280م، "وكان في حالة إفلاسٍ رمزيّ مقابل شجرة الدرّ".17

ولعلّ المرأة في تاريخ الحضارة العربية وعَت جيّدًا بأنّ ساحة الحرب غير "مناسبةٍ" لها، لاسيّما بعد ما حصل لعائشة، لذا اتّخذَت من حجرات القصور ودهاليزها موقعًا تكتيكيًا لكي تحكم وتمارس السلطة. وكَثُرَ عدد النساء اللواتي تحكّمن بالعرش في مختلف عصور الخلافة الإسلامية، إلى حدّ أنّ الباحثة فاطمة المرنيسي تساءلَت بحيرةٍ وخجل "كيف نجحَت نساءُ الأزمنة القديمة اللواتي يفترض فيهنّ أنّهنّ أقلّ تأهيلًا منّا، في حين فشلنا، نحن العصريّات، بشكلٍ مثيرٍ للشفقة؟".18 لكنّ لازمة الفتنة والخراب ستلاحق السلطانات أيضًا.

 

نساءٌ في بلاطات الخلفاء: نفوذ، اغتيالاتٌ وفتنة

المدهش في تاريخ زعامة النساء في دول الخلافة الإسلامية أنّ أغلبهنّ كنّ من الجواري، لاسيّما في العهد العبّاسي. أمّا في العهد الأمويّ الذي سبقه، فكان فالأمر مختلفًا، إذ كان الأمويّون محافظين على المُثُل العربيّة البدوية في تقاليد الزواج من تحقيق النّسب ودرجته في العلوّ والتسفّل من جهة الفرع القَبَلي خاصة. لكن في العهد العبّاسي، تجرّد الخلفاء من هذا العُرف فكان أغلبهم بني إماء، كهارون الرشيد، والمأمون، والمعتصم والواثق.19 وبلوغ الجارية السلطةَ كان موقوفًا على أمرَين: ثقافتها – حيث تُنعت الجارية غير المتعلّمة بالساذجة - وشخصيّة الخليفة. وقد اعتبر الجاحظ أنّ تدخّل الجواري كان يزداد أو يقلّ تبعًا لشخصيّة خليفة الوقت، وحسب ميله للهو والمرح أو ابتعاده عنه.20 وهذا ما يفسّر انعدام الجواري في قصر أبي العبّاس السفّاح الذي تزوّج من أمّ سلمة ولم يتزوّج عليها، في حين مثّل عهد المهدي عهد انفلاتٍ لدخولهنّ السلطة، حتّى أسمَت فاطمة المرنيسي تلك الحقبة بـ "ثورة الجواري"، وقارنَتها بـ "ثورة الزنج" المسلّحة ضدّ الخليفة المعتمد سنة 270ه/883م التي انتهَت مهزومةً بحمّام دم. أمّا ثورة الجواري، فكانت "عميقة ومستمرّة، لأنّها عزفت على الوتر العاطفي والجنسي، الغرامي والشهواني، فالنساء الإماء لم يعلنّ الحرب على أسيادهنّ، بل غمرنهم بالحبّ! ونحن نعلم كم نكون بلا دفاعاتٍ في حالةٍ كهذه".21 ونذكر في هذا السياق ثلاثة نماذج من نساءٍ اتُّهمت إحداهنّ بالفتنة، والثانية والثالثة بالقتل والنفوذ المطلق في الدولة، هنّ حبّابة، والخيزران وشَغَف.

لعلّ المرأة في تاريخ الحضارة العربية وعَت جيّدًا بأنّ ساحة الحرب غير "مناسبةٍ" لها، لذا اتّخذَت من حجرات القصور ودهاليزها موقعًا تكتيكيًا لكي تحكم وتمارس السلطة

أمّا حبّابة، فقصّتها مع يزيد بن عبد الملك أظهرَت مدى إمكان اختراق الخلافة عبر قلب الخليفة. فهذه القينة شغفَته حتّى قال في طربه من غنائها "أريد أن أطير"، وكان موتها – باختناقها بحبّة رمّانٍ بين أغنيتَين – فاجعةً لم يقدر على تجاوزها. "رفض دفنها، وبقي يندب ويبكي على جثّتها مهملًا الصلاة والدولة والجوامع وطقوس يوم الجمعة، وبعد بضعة أسابيع شيّع المؤمنون أوّل وربّما آخر خليفة مات حزنًا وألمًا على جارية عبدة"،22 حسب ما أوردت فاطمة المرنيسي في كتابها "السلطانات المنسيات، نساء رئيسات في الإسلام". وبموته، أحيا المؤرّخون مرّةً أخرى أسطورة المرأة - الشيطان، إذ اعتبرها الطبري والمسعودي ضالّةً مُضِلِّةً لأنّها "لعبت دور المعطّلة لسير شؤون الدولة بما أنّها وجّهت اهتمام الخليفة إلى الطرب واللهو والتمتّع باللذّات".23 لكن الأصفهاني في كتابه الذائع "الأغاني" أنصفها مع يزيد فاعتبرها "موسيقيّةً عبقرية، واعتبر يزيد ذوّاقًا للجمال مهيّئًا لتلقّيه".24

أمّا الخيزران، فلا مبالغة في اعتبارها دولةً داخل دولة الخلافة. هذه المرأة التي فرضَت سيطرتها على كلٍّ من الخليفة الأب المهدي، وابنَيه الهادي والرشيد اللذين قرّرَت لهما ولاية العهد، فكان ما أرادت. ولمّا حكما، حاولَت السيطرة عليهما، فصدّها الهادي وأراد تحجيم موقعها بعد أن بلغَت حدَّ استقبال رجال الدولة وقادة الجند في قصرها قصر السلامة، ونهرها قائلًا: "ما هذه المواكب التي تغدو وتروح على بابك؟ أَمَا لَكِ مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إيّاك! وإيّاك!".25 ثمّ حاول تسميمها ولم ينجح، فتحيّنت الخيزران مرضَه وأمرَت جواريها أن يقتلنه بالجلوس على وجهه، فمات من ذلك.26 واعتبرَت المرنيسي أنّ النساء في السياسة "كالرجال، يمضين في استعمال وسيلة الاغتيال السياسي عندما يكون ضروريًا، لكن ربّما بطرقٍ أكثر نعومة، مثل الخنق والتسميم".27 

لكن ذاكرة التاريخ لم تستطع طمس إنجازات الخيزران بمجرّد اغتيالها الهادي، لاسيّما في تقرّبها من الناس. فحين حجّت سنة 186ه/802م ورأت ما يعانيه أهل مكّة من مشاقّ في الوصول إلى الماء، استدعَت خازن أموالها وأمرَته بأن يستقدم رئيس العمّال وقالت له "اعمل ولو كلّفتك ضربة الفأس دينارًا". حينذاك، وصلوا بين منابع الماء في الجبال، واعتمدوا على عين حنين فأرسلوا منها الماء إلى مكّة، ولا يزال هذا الماء يجري إلى مكّة حتّى اليوم.28

وكان يوم وفاة الخيزران في عهد الرشيد مَهيبًا، إذ شيّعتها الدولة بمسؤوليها جميعًا، حتّى أنّ الرشيد مشى حافيًا في تشييعها آخذًا بقوائم النعش. يومذاك، "لمسَت بغداد عظمة الأمّ في حزن الابن عند وفاتها [...] حتّى في موتها تحدّت الخيزران الإمبراطورية وتقاليدها".29

أمّا شغف، أمّ الخليفة المقتدر (مات في 321ه/ 933م)، فكانت مع نفوذها تؤمن بمفهومٍ "نسويّ" جدًّا بالنظر إلى عصرها، هو أنّ شؤون الأمّة، لاسيما العدالة، تُدار بصورةٍ أفضل إذا ما توّلتها امرأة. ونفّذت شغف ذلك بأن فرضَت مساعدتها "تومال" مسؤولةً عن ديوان المظالم الذي يعادل وزارة العدل اليوم. واعتُبِر ذلك تحديًا صارخًا لسلطة القضاة الذين كانوا (وما زالوا) يعتبرون شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، فكيف بأن توّلى عليهم جميعًا امرأة! لكنهم انصاعوا في النهاية لقرار شغف، رهبةً من المصير الذي لاقاه قاضي القضاة أحمد يعقوب لمّا اعترض على فرضها ابنها المقتدر خليفةً رغم عدم تجاوزه 13 سنة. وبحسب المرنيسي، ذكر الطبري بموضوعيةٍ أنّ تومال أقامت العدل، فأحبّها الناس بعد أن تذمّروا منها.30

لكن الغريب أنّ مؤرّخًا معاصرًا، هو علي إبراهيم حسن، أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، في كتابه عن النساء اللواتي شاركن في تاريخ الإسلام، اعتبر شغف مثالًا على "الانحطاط المتربّص بالأسر الحاكمة، الذي يدع النساء يتدخّلن في شؤون الدولة".31

والحقيقة أنّ رأيه هو الرأي المستقرّ في الذهنية العربيّة التقليدية كما نجده في رواياتٍ كثيرةٍ في مختلف العصور الإسلامية.

 

"رأي النساء" بين التاريخ القديم والمعاصر

تمثّل عبارة "رأي النساء" معادلًا حرفيًا للرأي الفاسد في الثقافة العربية، وقد وصف بها عليّ عائشةً حين قال "أمّا فلانة [أي عائشة] فأَدْرَكَها رأيُ النساء".32 وكان هذا التصوّر راسخًا في أذهان النساء أيضًا، إذ يُذكر أنّ أمّ سلمة، إحدى زوجات محمّد، أجابت عائشة لمّا طلبت إليها الخروج معها لدرء الفتنة "إنّ عماد الدين لا يقام بالنساء [...] إنّ الله وضع عنّي وعنكِ هذا".33 

لا تخلو الأحداث السياسية في التاريخ المعاصر من استدعاء تصوّر المرأة – الشيطان كلّما كان للمرأة جزءٌ من مشهد الأزمة

ولمّا كان الفقهاءُ أعمدةَ دولة الخلافة لأنّ بيدهم التشريع للحلال والحرام والمباح والمكروه، فقد أفردوا الكتب والأبواب لتحديد موقع المرأة ومنعها تمامًا عن أيّ طموحٍ سياسي قد تسوّله لها نفسها. ويُعتبر أكثر من تطرّف في ذلك الغزالي في كتابه "التِبر المسبوك في نصيحة الملوك"، وفيه ينطلق من مسلّمةٍ راسخةٍ لديه هي أنّ المرأة ناقصة، وأنّ نقصها تكويني بيولوجي، فهي "أسيرة الرجل، ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهنّ، وبسبب عقولهنّ لا يجوز لأحدٍ أن يتدبّر بآرائهنّ ولا يلتفت إلى أقوالهنّ، ومن اعتمد على آرائهنّ ودبّر نفسه بمشورتهنّ خسر". ويضرب الغزالي في ذلك قصصًا كثيرةً يخلص منها إلى القاعدة التالية: "وعلى الحقيقة كلّ ما ينال الرجل من البلاء والهلاك فبسبب النساء"،34 جاعلًا لازمة البلاء والمرأة قاعدةً عامةً لا تقتصر على السياسة فحسب. وبلغ به الأمر أن أنشد في ذلك شعرًا:

كلّ البلا منهنّ يأتي والوفا   ***   منهنّ لا يأتي مدى الأزمان

وكان الخليفة المنصور قد أوصى المهدي على فراش موته قائلًا "إيّاك والاستماع لمشورة النساء، وأظنّك ستفعل".35 لكننا نسمع أيضًا ردًّا نادرًا تواجه به المرأة من استضعف رأيها، هو ردّ أمّ البنين، زوجة الوليد بن عبد الملك، على الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي كان قد حذّر الخليفة من الاستماع إلى رأي النساء قائلًا "يا أمير المؤمنين، إنّما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة (محاسبة مالية) [...] وإيّاك ومشاورتهنّ في الأمور، فإنّ رأيهنّ إلى أَفَنْ (فساد)". فلمّا بلغ أمَّ البنين كلامُه، بعثَت في طلبه فجاءها، وذلّته بأن حملَته على انتظارها طويلًا، ثمّ خرجَت له فأسمعَته ما يكره وذكّرته بفضل النساء عليه. وممّا قالت له: "وطالما نفضَت نساءُ أمير المؤمنين المسكَ من غدائرهنّ وبِعنه في الأسواق في أرزاق البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذلّ من النَقَدِ (القطعة الصغيرة من النقود)".36 

ولا تخلو الأحداث السياسية في التاريخ المعاصر من استدعاء تصوّر المرأة – الشيطان كلّما كان للمرأة جزءٌ من مشهد الأزمة. من ذلك أنّ كثيرًا من التونسيّين يعتقدون أنّ ليلى بن علي، زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، هي التي كانت وراء نهاية عهده بعد أن مارسَت نفوذًا مطلقًا أدّى إلى تخريب الدولة وإفقار الشعب، لاسيّما لجهة حمايتها عائلتها التي عاثت في البلاد فسادًا. وفي هذا السياق، يوجّه كتاب "حاكمة قرطاج: الاستيلاء على تونس" لنيكولا بو وكاترين غراسييه، التهمة إليها مباشرةً في تقويض أُسُس الدولة التونسية، وهو كلامٌ يشبه ما قيل قبلها في وسيلة بورقيبة،37 ويُقال اليوم في الشيخة موزة أيضًا.

لكن لمّا كان منطق العقل العربيّ الذكوريّ متهافتًا تتنازعه التناقضات الغريبة، فإنّك إن سألت أصحابه عن أنجيلا ميركل (Angela Merkel)، أو كوليندا غرابار كيتاروفيتش (Kolinda Grabar-Kitarović)، أو جاسيندا أردرن (Jacinda Arden)، أو مارغريت تاتشر (Margaret Thatcher) أو كثيراتٍ غيرهنّ، سيعدّهنّ جميعًا "استثناءً" لقاعدته المقدّسة. وربّما بدأَت بعض الأصوات ترتفع وسط صخب الضجيج الذكوريّ مناديةً بضرورة تقلّد امرأةٍ مسؤولية الحكم لأنّ الحاكم العربيّ الرجل فاسدٌ بالضرورة، وهو ما يؤكّده استبشار الكثير من التونسيّين بتعيين نجلاء بودن، أول امرأةٍ تتسلّم رئاسة الحكومة في تونس بعد فشل جميع الرجال الذين تقلّدوها منذ الثورة. لكن كلا الرأيَين محدودٌ وعاجزٌ عن رؤية الواقع بتجرّدٍ تامٍ من أيّ تحيّزٍ جنسي. إلا أنّ هذا التحيّز الذي مورس عنفيًا على المرأة في العصور القديمة باعتبار الحكم حقًا مقصورًا على الرجل، لم يحُل دون تسلّلها إلى مراكز السلطة، لتظهر اقتدارًا إعجازيًا أحيانًا على تسيير شؤون أمّةٍ بأسرها. ولعلّ التاريخ الفائض بأسماء نساءٍ لامعاتٍ يُلهم نساء اليوم ليتقلّدن المسؤوليات الجسيمة التي يحاول الرجال احتكارها. أمّا أسطورة المرأة – الشيطان فيبدو أنّها لن تنتهي قريبًا، لأنّها ببساطةٍ أفيونُ العقل الذكوريّ المهزوم الذي به يشفي كبرياءه الوهمي.

 

 

  • 1. هو الحديث رقم 6686 في صحيح البخاري. يمكن الاطلاع على  الأحكام حوله في موقع إسلام ويب.
  • 2. درست الباحثة آمال سليمان هذا الموضوع في رسالة بحثية قصيرة عنوانها: "المؤتلف والمختلف بين التوراة والقرآن من خلال قصّة الخلق"، وهي في أرشيف كلية الآداب بصفاقس – تونس.
  • 3. الإسرائيليات هي القصص ذات الأصل التوراتي اليهودي التي تأثّر بها واعتمدها كثير من المفسّرين الأوائل مثل عبد الله بن عبّاس وكعب الأحبار. يمكن الاطلاع على كتاب الإسرائيليات في التفاسير والأحاديث لمحمد حسين الذهبي.
  • 4. الرجاء مراجعة تفسير الطبري للآية 121 من سورة طه.
  • 5. يمكن الاطلاع على باب النكاح من كتابه اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، بيروت، دار المعرفة، 1975، 2/159.
  • 6. ناجية الوريمي، زعامة المرأة في الإسلام المبكّر بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي، دار الجنوب، 2016، نقلًا عن كتاب القربان في الجاهلية والإسلام لوحيد السعفي، ص 21.
  • 7. كتاب الأصنام للكلبي، تحقيق أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية، ط 3، 1995، ص 19.
  • 8. تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، سورة النجم، 19-22.
  • 9. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 21-22.
  • 10. صحيح ابن داود، الحديث رقم 3905.
  • 11. تاريخ الرسل والملوك للطبري، بيروت، دار الكتب العلمية، الجزء الثاني، 1987، ص 270.
  • 12. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 41.
  • 13. بثينة بن حسين، نساء الخلفاء الأمويّين، بيروت، منشورات الجمل، ط 1، 2014، ص 113-114.
  • 14. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 52.
  • 15. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 88.
  • 16. فاطمة المرنيسي، السلطانات المنسيات، نساء رئيسات في الإسلام، ترجمة عبد الهادي عبّاس وجميل معلّى، دار الحصاد، ط 1، 1994، ص 29. للمزيد عن هذه القائدة الفذّة، يمكن الاطلاع على مقال محمود خالد على موقع الجزيرة: شجر الدُّر.. ماذا تعرف عن أول سلطانة في تاريخ الإسلام؟
  • 17. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 55-56.
  • 18. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 16.
  • 19. سولاف فيض الله حسن، دور الجواري والقهرمانات في دار الخلافة العبّاسية، دار صفحات دمشق ودار عدنان بغداد، ط 1، 2013، ص 48.
  • 20. منقول عن سولاف فيض الله، المصدر السابق، ص 18.
  • 21. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 70.
  • 22. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 70-71.
  • 23. بثينة بن حسين، المصدر السابق، ص 132.
  • 24. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص71.
  • 25. ابن الأثير، الكامل، بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، 1965، ج 6، ص 100.
  • 26. ابن الأثير، نفسه.
  • 27. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 76.
  • 28. عبد المنعم الهاشمي، الخيزران بنت عطاء، دار ومكتبة الهلال، 2003، ص 7.
  • 29. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 92.
  • 30. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 87.
  • 31. فاطمة المرنيسي، المصدر السابق، ص 77-78.
  • 32. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 84، نقلًا عن المجلسي في كتابه بحار الأنوار.
  • 33. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 71، نقلًا عن تاريخ اليعقوبي.
  • 34. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 173، نقلًا عن الغزالي.
  • 35. سولاف فيض الله حسن، المصدر السابق، ص 64.
  • 36. ناجية الوريمي، المصدر السابق، ص 121-122.
  • 37. يمكن الاطلاع على كتاب الهادي البكوش، بكل صراحة، الصادر في 2021 عن دار الجنوب، والكتاب الآتي: Noureddine Dougui, Wassila Bourguiba, La main invisible, Sud Editions, 2020