أكاد أجزم أن تحوّلًا ما يحصل في حياة كلّ امرأةٍ بعد المرّة الأولى التي تواجه فيها أبًا، أو أخًا، أو قريبًا، أو حبيبًا أو شريكًا، من خلال وصفها لأفعاله التي يعتقد هو أنها من ضمن "حقوقه"، فتنبِّهه إلى أنها ممارساتٌ سلطوية. لا يرتبط هذا التحوّل بالموقف نفسه، إنّما بلحظة الإدراك التي تنشأ بين الطرفَين بأنّ علاقتهما ليسَت متوافقة مع ما اعتقداه دائمًا، وأن الوئام بينهما كان في الواقع استحقاقًا لسلطةٍ في مقابل قناعةٍ بوجوب الخضوع.
في خلال مراهقتي أحببتُ أغنية "المُستبدّة"، من شعر نزار قباني وألحان وغناء كاظم الساهر، وينقل فيها عن حبيبته قولها لصديقاتها: "سيستدير كخاتمٍ في إصبعي، ويشبُّ نارًا لو رأى شخصًا معي. سترونه بيديَّ أضعف من ضعيفٍ، وترونه بين أقدامي كأوراق الخريف"... يتلقَّف الحبيب في هذه القصيدة الاستبداد كحالةٍ رومانسية. فمن أحقّ من التي أسماها "أميرَةً بين النساء" بممارسة هذا الطغيان؟ وللمفارقة، المستبد/ة هو المرادف العربي لكلمة ديكتاتور، أي الشخص أو الحزب الذي يتَّخذ الديكتاتورية نهجًا للحكم. ويبدو الحبيب في "المستبدّة" مُستمتعًا بالعيش في ظلّ ديكتاتورية محبوبته، وراضيًا بحجم الإهانة في كلامها عنه.
في كتابها "الحياة النفسية للسلطة: نظريّاتٌ في الإخضاع"، تقول الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر (Judith Butler): "تسيطر على المرء سلطةٌ برّانيةٌ، وهو شكلٌ مألوفٌ ومؤلمٌ تتَّخذه السلطة. لكن أن نجد ما يكون عليه المرء، تشكُّله الخاصّ بوصفه ذاتًا، فإنه يعتمد بمعنًى ما على تلك السلطة، وهو أمرٌ مختلفٌ تمامًا". تبعًا لتحليل بتلر، فإنّ نظرتنا للسلطة على أنها "تفرض نفسها علينا، وتُنهِكنا فنقبلها"، يغفل كوننا نحن الذين نقبل بتلك الأحكام، ونعتمد عليها في وجودنا. بالتالي، "يكمن الإخضاع في صورةٍ مُحدَّدةٍ من الاعتماد على خطابٍ لم نختره مطلقًا، إلّا أنه، على نحوٍ متناقض، يدشّن فعاليّتنا ويحفظها"، كما تشرح بتلر.1
في رحلة العلاج النفسي، يُسأل المرء عن دوره/ا في ما يتعرّض له، لا بهدف التأنيب وإنّما لاستعادة السيطرة على موقعه/ا ومشاعره/ا تجاه قضيةٍ ما، من خلال تجريد الديناميَّات التي أدَّت إلى تعرّضه/ا لتلك الأثواب المُلبِسة لموقفٍ مُعيّن، وبالتالي إتاحة المجال لأن يتعايش المرء مع المشاعر الفعلية المُتَّصلة بالمسألة، وأخيرًا التحرُّر من أثرها المؤذي. وأعود هنا إلى ما قالته بتلر؛ كيف يمكن للخلط بين "الحقّ" و"السلطة" في الخطاب المُهيمِن، أن يجعلنا قابلين/ات للإخضاع أو حتى معتمِدين/ات عليه؟
السّلطة متّصلة بالصلاحيَّات المُعطاة لشخصٍ عامّ، وهو يتحمّل المسؤوليّة عن التقصير أو الإهمال في القيام بها، أو التعسّف باستخدامها. أمّا الحقّ، فيرتبط بصاحبه أو صاحبته
أعود في هذا المقال إلى لحظة الصفر، يوم التفتُّ إلى أن الأشخاص، عندما يستخدمون مصطلح "حقّ" في سياق ممارستهم لسلطتهم، فإنَّهم فعليًا يمارسون تلاعبًا لمصلحتهم، ينقلهم من موقع المسؤوليّة إلى موقع الضحية في غالب الأحيان. كان ذلك قبل نحو عشر سنوات في خلال المرحلة الجامعية. يومها شدَّد أستاذ الدراسات العليا في مادة القانون الإداري على أهمّية استبعاد أي خلطٍ بين "السلطة" و"الحقّ"، موضحًا لنا محوريّة هذا التمييز. فالسّلطة متّصلة بالصلاحيَّات المُعطاة لشخصٍ عامّ، وهو يتحمّل المسؤوليّة عن التقصير أو الإهمال في القيام بها، أو التعسّف باستخدامها. أمّا الحقّ، فيرتبط بصاحبه أو صاحبته. وفي مجتمعٍ ديموقراطي، عادةً ما تتشكّل حدود السلطات تبعًا للحاجة المتّصلة بحماية حقوق الأفراد. ومن أجل إرساء هذه الحدود، ابتُكِرت آليّاتٌ عدّةٌ من ضمنها مبدأ توازن السلطات المُستقى من قناعةٍ مفادها أن "لا تحدُّ السلطةَ إلّا سلطةً مثلها".
على مرِّ السنوات العشر الماضية، تحوّلت هذه الملاحظة إلى ما يشبه العدسة التي ساعدَتني على الحدّ من إمكانيّة التلاعب بموقفي أو شعوري تجاه قضيةٍ أو مسألةٍ ما من خلال التلاعب بالمفاهيم والموازين المتّصلة بها. وتتفاقم أهمّية هذا التدقيق بالنسبة لي من موقعي كامرأةٍ تعيش في منظومةٍ لستُ وليّة أمر نفسي بالكامل فيها، ولا وليّة أمر أبنائي وبناتي، ولا منافِسةً فعليةً على مواقع السلطة مهما كان شكلها. ويعود سبب ذلك إلى اعتقادٍ مُتجذّرٍ بأنّ السلطة تقع ضمن حقوق الرجل، فيما الواقع مخالفٌ بالكامل، لأنّ سلطة الرجل هي التي تسلب المرأة حقّها بالمشاركة في اتخاذ القرار والتأثير فيه. ولا تبرز هذه السلطة حصرًا في الزعامات السياسية، لو ركّزنا المثال على النموذج اللبناني، وهي زعاماتٌ طائفية تحتمي بالمؤسّسات الدينية وتحميها، إنّما تظهر أيضاً في العائلة التي تخضع لقوانين أحوالٍ شخصيةٍ طائفيةٍ ونظامٍ مدني موزَّعٍ طائفيًا ومُنظّمٍ بطريركيًا، أي بالتبعية للأب.
يُعيد العالم الألماني في الاجتماع والاقتصاد السياسي ماكس فيبر (Max Weber) الانتقال من النظام الإقطاعي في أوروبا إلى مرحلة الدولة الأمّة بشكلها الديموقراطي إلى تجريد السلطة من طابعها الشخصيّ. والدولة الحديثة هي شكلٌ متطوّرٌ للسلطة العقلانية، ترسي سلطتها وفقًا للقانون - الدستور. ويميّز فيبر بين ثلاثة نماذج للسلطة في التاريخ: التقليديّة، والكاريزميّة والعقلانيّة/القانونيّة. والسلطة التقليدية هي السلطة/القوّة التي تحقّق مشروعيتّها من خلال احترام أنماطٍ ثقافيّةٍ ثابتةٍ وطويلة المدى. أمّا السلطة الكاريزمية، فتميل إلى تشويش الأشكال التقليديّة، وقد كانت مصدر ابتكارٍ وتغييرٍ عبر التاريخ، كما أنها تعتمد على الحبّ الشديد الذي يكنّه الخاضعون لقائدٍ ما بسبب صفاته الاستثنائيّة التي تلهمهم التفاني والإخلاص له.2
وتبعًا لذلك، تُحدَّد حداثة الدولة بكونها ترسم حدود السلطة من خلال القوانين والدساتير، وبهذا المعنى تفصل بين السلطة والحقوق، وتجعل الأولى في خدمة الثانية وليس العكس. لكن، لو كانت المسألة بهذه البساطة لما انشغلَت البشرية، ولا تزال، في إعادة فهم وتطوير مقاصد الديموقراطية من زاوية تعزيز الحقوق وضبط حدود السلطات.
تُحدَّد حداثة الدولة بكونها ترسم حدود السلطة من خلال القوانين والدساتير، وبهذا المعنى تفصل بين السلطة والحقوق، وتجعل الأولى في خدمة الثانية وليس العكس
من هنا، يأخذ بي فيبر للقول إنّ الخلط بين السلطة والحقّ هو فعليًا استخدامٌ للسلطة الكاريزمية من أجل التلاعب بالسلطة العقلانية، من خلال تحويل المفاهيم وتبديل مواقع القوّة؛ كأن يتحوّل الحكم إلى حقٍّ متوارثٍ ضمن عائلةٍ معيّنةٍ في ظل نظامٍ دستوري ديموقراطي، أو أن تُكرّس القوانين كون الأب ممثِّلًا لعائلته وحاميًا لها ووسيطًا بينها وبين الدولة في ظلّ دستورٍ يُكرِّس مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، أو أن تُمنح الطوائف "حقوقًا" سياسيةً تبعًا لكوتا مُتفقٍ عليها في دستور الدولة، فيما تُحرَم النساء من إقرار كوتا نسائية في القانون الانتخابي بحجّة أنّ لهنّ الحقّ بكامل المقاعد النيابية… فلماذا الكوتا؟ والفارق المحوريّ بين النساء والطوائف في هذه الحالة، هو أن النساء لسن أصلًا في السلطة ولا يملكن سلطة التلاعب بالمفاهيم كما تفعل الطوائف، وبما أنهنّ لم يُدِرن حربًا أهليةً على سبيل المثال، فهنّ لن يحتكرن السلطة وكأنها "حقٌ" لهن. في المقابل، خاضَت الطوائفُ الحربَ التي انتهَت بتقاسم السلطة بناءً على توازنٍ في القوة/السلطة، وتوافقَت على جعل هذا الاقتسام ضمن "حقوقها".
يتكلّم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (Pierre Bourdieu) عن مفهوم السلطة الرمزية من زاوية احتكار العنف المباشر والعنف الرمزيّ. بالنسبة لبورديو، السلطة الرمزيّة هي سلطةٌ لا مرئيّة، ولا يمكن أن تمارَس إلّا بتواطؤٍ من الذين يرفضون الاعتراف بأنّهم يخضعون لها، بل ويمارسونها". ويكون تأثير السلطة الرمزيّة أعمق وأخطر كونها تستهدف أساسًا البنية النفسيّة والذهنيّة للمتلقّين لها، وتمارس آليّاتها وأدواتها بطريقةٍ منظّمةٍ وبنائيّةٍ خلف قناع المألوف العاديّ، وأنظمة التقليد والقانون، والخطابات الشائعة بين الناس. كما أنها تُمارَس على الفاعلين الاجتماعيّين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك، فهم غالبًا لا يعترفون بها كعنفٍ، بل يتفاعلن معها كبديهيّاتٍ أو مسلّماتٍ من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعيّة.3
وليس من الصعب حقيقةً ملاحظة مدى توافق مقاربة بورديو مع المسألة الطائفية أعلاه. فلا يخفى على أحدٍ حجم الخوف الذي زرعَته الطوائف في نفوس أتباعها إثر الحرب الأهلية في لبنان بين عامَي 1975 و1990، والتي انتهَت باتفاقٍ بين أمراء الحرب، أعفوا بموجبه عن أنفسهم وتولّوا السلطة السياسية بوصفها تقاسمًا "مُحقًا" في ما بينهم. والأهمّ أن رواية الحرب الحقيقية لم تروَ بعد، فعاش المجتمع ولا يزال في إطار قصّةٍ غير واضحة المعالم عن حربٍ أهليةٍ مُخيفةٍ عليه أن يتوخّى الحذر من تكرارها، كما على كلّ فردٍ أن "يدافع عن طائفته" كي يبقى آمنًا.
الخلط بين السلطة والحقّ هو فعليًا استخدامٌ للسلطة الكاريزمية من أجل التلاعب بالسلطة العقلانية، من خلال تحويل المفاهيم وتبديل مواقع القوّة
لنفكِّر بالنساء هنا، لماذا قد يتجرّأن، خلافًا لكامل محيطهنّ، على المطالبة بإسقاط قوانين الأحوال الشخصيّة الطائفية وإرساء قانونٍ مدني بدلًا منها؟ أو لماذا قد يطالبن بدولةٍ أقلّ طائفية وأكثر عدالة إن كان "الآخر" هو مَن سوف يسيطر؟ وهل سيجازفن بإضعاف زعيم طائفتهنّ عبر منافسته على "حقّه" بالسلطة؟ من هذه الزاوية، يمكن فهم ميل فئةٍ واسعةٍ من النساء إلى الدفاع عن "حقوق" طوائفهنّ بالسلطة، في حين تحارب جميع هذه الطوائف حقوقهنّ كنساء.
ويستند هذا الدفاع في جزءٍ آخر منه إلى قناعةٍ لدى غالبية النساء، غير منفصلةٍ عن قناعةٍ اجتماعيةٍ أوسع، بوجوب الاحتماء بعائلاتهنّ ضمن طائفتهنّ في ظل الاحتقان الطائفي السائد، وبالحاجة إلى الحفاظ على سطوة هذه الطوائف وحماية قوانينها، بما فيها قوانين الأحوال الشخصية الطائفية. وضمن هذه الحلقة المغلقة، يبقى الزعيم صاحب الحقّ التلقائي بالسلطة، التي تقع تلقائيًا ضمن حدود الطائفة، والنساء ضمنها محمياتٌ طالما أنهنّ يدفعن جزية تلك الحماية خضوعًا، ويفين الرجال "حقوقهم" داخل العائلة النواة.
بهذا المعنى، وتبعًا لما يقترحه بورديو، تركِّز المؤسّسات الدينية والخطاب العام والمفاهيم الاجتماعية على تقديم الرجل بوصفه "صاحب حقوق" على النساء في عائلته، ما يبرِّر الكثير من أفعاله، لا سيما العنفية، بإعطائها طابع المقاومة وحماية الحقّ. ويطبّع المجتمع مع هذا الفهم من خلال إرساء قناعةٍ بأن أطراف العلاقة ضمن العائلة النواة يتبادلون الحقوق تجاه بعضهم البعض من خلال أدوارٍ مقولبةٍ ونمطية يرونها تكامليّة، فيما هم/ن في الواقع ليسوا/ن في حالة تبادلٍ أو توازن، وإنّما في حالةٍ من السلطة والخضوع.
تركِّز المؤسّسات الدينية والخطاب العام والمفاهيم الاجتماعية على تقديم الرجل بوصفه "صاحب حقوق" على النساء في عائلته، ما يبرِّر الكثير من أفعاله
لننظر مثلًا إلى مسألة التحرّش والاغتصاب. عادةً ما يُطالَب الرجل بأن يكون شديد التحكّم والسيطرة عند تعبيره عن شعوره بالحزن ولاسيّما البكاء، في حين لا يُطالَب بالتحكّم برغباته وشهواته الجنسية، فينقلب من رجلٍ صاحب سلطةٍ إلى ضحية إغراءات النساء ولباسهنّ وأصواتهنّ وتحرّكاتهن، وحتّى مجرّد وجودهنّ في الحيِّز العام الذي يحضر هو فيه. وبوصفه "ضحية"، يُعطى "حقّ" التفاعل مع كلّ ذلك، فيبادر إلى التحرّش أو اغتصاب النساء الغريبات، أو حبس النساء من أهل بيته في الحيِّز الخاص "لحمايتهنّ" من الرجال الآخرين. أيضًا عندما تتزوّج المرأة، يصبح لزوجها "حقوقًا زوجية" عليها. وهي تُسمّى "حقوقًا" على الرغم من أن نظام الزواج، في حالات الزواج الديني، يهيّء للزوج كلّ الأدوات لاستيفاء "الحقّ" بنفسه، أي يمنحه سلطة تحصيله. هكذا يصبح رفض الزوجة معاشرة زوجها انتقاصًا من حقوقه، فنجد المجتمع متفهِّمًا للاغتصاب الزوجي ولا يشعر تجاهه بأيّ مذمّة، كما نراه متعاطفًا مع "صاحب الحق"، أي الزوج، وغير قادرٍ على رؤية مكمن السلطة التي لديه. وعادةً ما تتراوح المواقف بين التبرير والدفاع الشّرس عن المُغتصِب، باعتبار أن الرجل صاحبُ حقٍّ بالانفعال وملاحقة شهواته والتنفيس عنها، فيما هو يملك هذه السلطة أساسًا بفعل التغطية الاجتماعية والحماية القانونية التي يتمتع بها.
في الخلاصة، ينظر المؤرِّخ الأميركي هنري أدامز (Henry Adams) إلى السلطة على أنها "نوع من أنواع الأورام، ينتهي به الحال إلى القضاء على تعاطف الضحايا مع بعضهم البعض".
يساهم الخلط بين مفهومَي السلطة والحقّ في تسهيل قبول الخاضعين/ات للسلطة بالتواطؤ، فلا يعترفون بتواطئهم/ن ضد مصالحهم/ن والتلاعب بها خدمةً للسلطة، وبالتالي يصبحون بمثابة أضحيةٍ كرمى لأصحاب "الحقوق" (الذين هم فعليًا "أصحاب السلطة"). ويمكن فهم الميل للتواطؤ مع عملية الإخضاع وتفضيله على مواجهة السلطة، من خلال ملاحظة عامل الخوف وتأثيره في إنتاج التبعيّة للسلطة. في هذا الصدد، يربط الفيلسوف وعالم الرياضيات والمنطق برتراند راسل (Bertrand Russell) بين السلطة والخوف ويراهما متكاملَين تمامًا. فقد تحوّل الخوف من دافعٍ للتماسك الاجتماعي بين أعضاء الجماعة ضدّ العدو في مجتمع قبَلي بدائي، إلى محفّزٍ للانتماء المبنيّ على الطاعة في مجتمعٍ مثل مصر القديمة. ويتجسّد هذا في الانتقال من حروب الإبادة الراغبة بإنهاء العدو لإزالة خطره، إلى حروب توسّعٍ يعمد في نهايتها المنتصرُ إلى استعباد المغلوبين الذين لا يصبحون مواطنين بل "أتباعًا يطيعون بدافع الخوف".4 وربّما يشكّل الانتقالُ من وأد البنات إلى حبسهنّ في الحيِّز الخاص تحت ولاية الرجل، مثالًا موازيًا على هذا التحوّل من الإبادة إلى الاستعباد.
يساهم الخلط بين مفهومَي السلطة والحقّ في تسهيل قبول الخاضعين/ات للسلطة بالتواطؤ، فلا يعترفون بتواطئهم/ن ضد مصالحهم/ن والتلاعب بها خدمةً للسلطة
وعلى الرغم من أنّ الخوف في مجتمعٍ أبويّ البنية يشكّل شعورًا محوريًا يصوغ مواقع نسائه والفئات الأكثر تهميشًا، غير أن فهم مصدره وكونه وقودًا أساسيًا لاستحكام السلطة بمصائر هؤلاء واستبعادهم/ن تحت عباءة ما بات شائعًا تسميته بـ"حقوق الرجال"، والمقصود به حماية السلطة الأبوية التي لا تعبأ سوى بنموذجٍ محدودٍ من الرجال، يدعو للتضامن في سبيل تفكيك مفهوم "الحقّ" ونزع القناع عمّا هو في الواقع "سلطة".
في أغنية "جوا بيتي" لمغنّيَي الراب السينابتك وميسا ضو، تردّ الأخيرة على انغماس شريكها في تعداد ما بذله من أجل حبّها، فتقول: "غطّيتني بالغيوم، ما عدت أشوف نجوم". يختصر المغنّيان كيفية قولبة علاقتهما الحميمة وتشويه معنى الحبّ بفعل الدور التقليديّ الحمائيّ الذي كان يؤدّيه الرجل، واضعًا للمرأة حدودًا تختزل رغباتها وقدراتها. ويبدو من السهل عبر هذه الأغنية فهم مدى قسوة التلاعب بمفهوم السلطة وإبرازه كحقّ، وجلوس الجاني في موقع الضحية، لما في ذلك من تماسٍّ مباشرٍ مع تجاربنا الحميمة التي نلتمس فيها انعدامًا للعدالة. لكن في الواقع، إنّ هذا التلاعب، في انعكاسه الحقيقيّ ضمن حدود السلطة المطبّقة على حيواتنا بمعناها الواسع، يجعلنا نكابد الكثير من الألم، ونخسر التضامن في ما بيننا، ونبقى عرضةً للعنف المستمرّ الذي يُهدِّد مصائرنا وقدرتنا على تغييره.
- 1جوديث بتلر، "الحياة النفسية للسلطة:نظريات في الإخضاع"، الطبعة الأولى، دمشق، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2021، ص 10.
- 2 علي شلهوب، "قراءة مقارنة في مفهوم السلطة بين ماكس فيبر و بيار بورديو"، مجلة أوراق ثقافية، 19 تموز/يوليو 2019، كما توفّرت على الموقع بتاريخ 25 آذار/مارس 2023.
- 3علي شلهوب، المرجع السابق.
- 4برتراند راسل، "السلطة والفرد"، بيروت، دار الطليعة، 1961، ص 21-39.
إضافة تعليق جديد