كيف نواجه العنف ضد النساء في المغرب؟ مدخلٌ إلى مساءلة المقاربة الجنائية

كيف تتعامل العدالة بالمغرب مع واقع العنف المركب ضد النساء؟ وماهي حدود المقاربة الجنائية؟ وكيف أدت إلى ظهور أطروحاتٍ ناقدةٍ لما يسمى "النسوية السجنية" (carceral feminism)؟ وكيف يمكن مواجهة العنف ضد النساء خارج النسق السجني؟ في هذا المقال، تسائل آمنة تراس نظام العدالة الجنائية أولًا من حيث نجاعته، ثم من حيث وظيفته وطبيعته الأبوية.

تندرج مختلف أشكال العنف ضد النساء ضمن الخروقات البنيوية للحقوق الإنسانية الأكثر استفحالًا، كما أنها من أهم عوائق ازدهار المجتمعات الإنسانية عمومًا، وتشكل معطلًا أساسيًا لإحقاق العدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي المستدام في المغرب. وبحسب النتائج الأولية لتحقيق ’المندوبية السامية للتخطيط‘ المنشور في عام 2020، تعرّضت 82.6٪ من النساء اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 15 و74 عامًا خلال حياتهنّ إلى فعل عنفٍ واحدٍ على الأقل؛ مع تسجيل ارتفاعٍ عامٍ في الأوساط القروية والفضاءات الخاصة، لاسيما العنف الجنسي الذي ازداد خمسَ نقاط، والاقتصادي الذي ازداد سبعًا.

إن استمرار وتعقّد الأوضاع الاجتماعية المتّسمة بالعنف الذكوري تجاه النساء، الذي ما فتئ يتضاعف مع تداعيات جائحة كوفيد-19، يطرح إشكالية التعامل معها. فقد أجمعَت الجمعيات النسائية المناهضة للعنف في المغرب على ذلك ودقّت نواقيس الخطر بشأن تعمّق أزمة النساء المعنفات نتيجةً لحال الطوارئ وإجراءات حظر التجول وما رافقها من تسريحٍ جماعي للعاملات وتفقيرٍ للنساء العاملات في القطاع غير المُهيكل، لاسيما العاملات المنزليات والبائعات المتجوّلات منهن. فقد حذّرت ’فدرالية رابطة حقوق النساء‘ من تفاقم العنف المبني على النوع بنسبةٍ تفوق 31٪ في خلال فترة الحجر الصحي، إذ قامت 16947 ناجية/ضحية في حدود شتنبر/أيلول 2020 بالتبليغ عن حالاتٍ من العنف الجسدي والاقتصادي والنفسي. وما يزيد الوضع تعقيدًا هو أن معظم حالات العنف المبلغ عنها1 وقع في الفضاءات الخاصة التي لا يمكن لأنظار العموم الاطلاع عليها لأن المعنِّفين يتمتعون بوصايةٍ ذكوريةٍ على المعنيات في إطار علاقاتٍ اجتماعيةٍ مستديمة.

يدفعنا هذا السياق إلى مساءلة نظام العدالة الجنائية أولًا من حيث نجاعته، ثم من حيث وظيفته وطبيعته الأبوية. فكيف تتعامل العدالة بالمغرب مع واقع العنف المركب ضد النساء؟ وماهي حدود المقاربة الجنائية؟ وكيف أدت إلى ظهور أطروحاتٍ ناقدةٍ لما يسمى "النسوية السجنية" (carceral feminism)؟ وكيف يمكن مواجهة العنف ضد النساء خارج النسق السجني؟

وظيفة مؤسسات العقاب السالب للحرية بين الادعاء والنتائج الواقعية

في الوقت الذي تدعي فيه المؤسسة السجنية التحكم في الجريمة والحد منها، وضمان إعادة إدماج وتأهيل السجناء والسجينات، تبيّن تقارير ومذكرات المرصد المغربي للسجون طغيانَ المقاربة الأمنية وغياب أيّ مؤسساتٍ أو برامج متابعةٍ مختصةٍ في التأهيل كوظيفةٍ بيداغوجيةٍ ذات بعد اجتماعي؛ ما يعرّض شرائح عريضةً للتعود على الجريمة وإعادة إنتاجها بشكلٍ أكثر احترافية أو حدّة. فيصعب على السجن كفضاءٍ يعمل على إقصاء السجناء والسجينات من الوسط العائلي والتربوي والثقافي والمهني أن يقوم بوظيفة التأهيل، وهنا يكمن التناقض الكبير في المؤسسة السجنية الذي يحمل عناصر فشلها في ما تدعيه. هذا في ما يخص السجناء، بمن فيهم مرتكبو العنف المدانون والمعتقلون احتياطيًا (54٪ من المتابعين بجرائم عنف جنسي وخروقاتٍ أخرى سنة 2020 توبعوا في حالة اعتقال).

يصعب على السجن كفضاءٍ يعمل على إقصاء السجناء والسجينات من الوسط العائلي والتربوي والثقافي والمهني أن يقوم بوظيفة التأهيل، وهنا يكمن التناقض الكبير في المؤسسة السجنية

أمّا في ما يخص الضحايا/الناجيات، وبحسب دراسةٍ لبرنامج المصحّة القضائية الجامعية لمنظمة 'محامون بلا حدود' بالمغرب، فإن الضغوطات العائلية والعزل الاجتماعي للمشتكيات، وغياب الاستقلالية الاقتصادية والمالية للنساء، وتعقيد المساطر القانونية،2 بالإضافة إلى عائق اللغة بالنسبة للنساء الأمازيغيات، تشكّل معوقاتٍ تحول دون ولوج النساء إلى العدالة. أما بالنسبة إلى النساء المهاجرات غير المغربيات، فإن عدم تمتعهن بحق الإقامة الذي تترتب عنه كل الحقوق الأخرى بما فيها الولوج للعدالة، يجعلهن غير معنياتٍ بهذه المساطر، لاسيما في غياب أي آلياتٍ موازيةٍ تضمن حمايتهن من العنف. 

تعتمد العدالة الجنائية بالمغرب عمومًا في محاربتها للعنف ضد النساء على مساطر ومعايير يصعب على الأغلبية الساحقة من النساء المعنفات الولوج إليها؛ حيث أن سيناريو معاقبة المشتكيات رمزيًا واجتماعيًا وحتى جنائيًا يبقى واردًا، خاصةً إذا لم تكن المشتكيات في وضعية التماهي مع نصوص القانون الجنائي الميزوجينية،3 أو إذا كان يجمعهنّ بالمعتدي ميزان قوةٍ غير متكافئ، كأن يتمتع بموقعٍ اقتصادي مرموق، أو أن يكون بموقع سلطةٍ عليهن (علاقة تراتبية بالعمل أو الأسرة، إلخ). وحتى إذا ما أصرّت الناجيات/الضحايا على اختراق منظومة العدالة الأبوية ونجحن في الولوج إلى القضاء رغم حدوده البنيوية ومساطره البيروقراطية العقيمة، فسيواجهن تغييبًا واضحًا لاحتياجاتهن في المساطر الجنائية، ذلك أن جبر الضرر الناتج عن العنف غالبًا ما يُعتبر ثانويًا أمام هاجس عقاب المعتدين. فعادةً ما تجد الناجيات/الضحايا أنفسهنّ قد صودرَت منهن قضاياهن4 لتصبح شأنًا قضائيًا يُتداول فيه بمهنيةٍ وبلغةٍ مسطريةٍ مشفّرةٍ وغير مفهومة، فلا يتكلمن إلا تحت الطلب وفق بروتوكولٍ غريبٍ عنهن يخلص إلى قراراتٍ لا توافق عادةً مصالحهن وإرادتهن. بالإضافة إلى ذلك، فإن خيار الاقتصار على عقوباتٍ سالبةٍ للحرية لا ينصف الناجيات/الضحايا ولا يحميهن من معايشة الطروما ذاتها مرةً أخرى في ظل غياب تصحيح سلوكيات مرتكبي العنف، فسرعان ما تزول قوة الإخضاع القانوني بعد الخروج من الحبس، ويعود المعتدي للانتقام بشكلٍ أكثر دهاء.

المنظمات المناهضة للعنف ضد النساء بين مهمة التحرر النسوي والتعاون الأمني

اتخذت عقودٌ من العمل النسوي التي أعقبت اتفاقية مناهضة العنف ضد النساء، شكلَ برامج تهدف إلى معاقبة المعتدين لحماية الناجيات/الضحايا، وذلك من خلال الترافع القانوني. فسارعَت الجمعيات النسائية المغربية إلى إنشاء خلايا استماعٍ للنساء المعنفات تحمل على عاتقها مهمة توجيههنّ للقضاء ومتابعة معنفيهن. كما ضغطت تلك الجمعيات في اتجاه إصلاح المنظومة القضائية ليتم وضع أول استراتيجيةٍ وطنيةٍ لمواجهة ظاهرة العنف ضد النساء سنة 2002، وإنشاء بنيات استقبالٍ خاصةٍ بالنساء في المحاكم تعرف باسم "خلايا التكفل بالنساء ضحايا العنف"، بالإضافة إلى وضع آلياتٍ وطنيةٍ مثل إنشاء 'المرصد الوطني للعنف ضد النساء' بقرارٍ وزاري سنة 2014، وهو مؤسسةٌ ثلاثية التركيب تضم مسؤولين/ات حكوميّين/ات وباحثين/ات وموظفي جمعيات.

لن ينكر أحدٌ الدور الطليعي الذي أدته الجمعيات النسوية المغربية في رفع الصمت عن ظاهرة العنف ضد النساء، وإخراجها من بوتقة الخصوصية العائلية والأبوية والتابو الاجتماعي إلى فضاء النقاش والفعل السياسي. وبالإضافة إلى المرافقة القانونية، شكّلت خلايا الاستماع فضاءاتٍ لفك العزلة عن الناجيات/الضحايا، ومساحاتٍ لتكتل النساء وفتح الحوار بينهن بشأن قضاياهن. كما شكلت هذه المنظمات قوةً اقتراحيةً دفعت بمجموعةٍ من التوصيات المتعلقة بالمناهج الدراسية، وتحسين بنى استقبال النساء اللاجئات لمؤسسة القضاء و"أنسنة" عمل الشرطة في الرصد والتحقيق.

إن خيار الاقتصار على عقوباتٍ سالبةٍ للحرية لا ينصف الناجيات/الضحايا ولا يحميهن من معايشة الطروما ذاتها مرةً أخرى في ظل غياب تصحيح سلوكيات مرتكبي العنف

لكن ذلك لم يمنع ظهور طروحاتٍ بديلةٍ تنتقد عمل هذه البرامج، معتبرةً أن السلطة نجحت في استخدامها لتثبيت شرعية نسقٍ جنائي طبقي يوفر لأصحاب السلطة والمال آلياتٍ بنيويةً للإفلات من العقاب. وأحيل هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى قضية 'الضابطة وهيبة' واستفحال الانتقام الإباحي (revenge porn).5

وإذا ما حاولنا البحث في الثغرات التي تسمح باستخدام سوء النية (illintentioned instrumentalisation) للعدالة الجنائية والكيل بها بمكيالين، فيجب الانتباه لكون التحقيق يعتمد على هشاشة فضاء الجريمة:

  1. توفر عناصر التلبس؛
  2. توفر شهودٍ لم يتمكن المجرم من جعلهم/ن يعدل-و-ن عن الشهادة عبر تهديدهم/ن أو مقايضتهم/ن أو رشوتهم/ن أو التشهير بهم/ن، إلخ؛
  3. وجود آثار جريمةٍ يمكن ملاحظتها مباشرةً من طرف محلّفين قضائيّين أو رجال السلطة، إلخ؛
  4. اعتراف المتورطين أو تصريحات الطرفين من خلال استنطاق الأجهزة البوليسية "بوسائلها؛ مع العلم أن "وسائلها" هاته تتبدل بحسب الموقع الطبقي والاجتماعي لكل من المشتكي/ة والمشتكى به أو الموقف السياسي في حالاتٍ خاصة.6

عمومًا، يمكننا تصنيف اعتماد المنظمات النسوية المهيمنة على هذه المقاربة الجنائية ضمن الاستراتيجيات البراغماتية التي تستلهم مشروعيتها من كون التغيير لن يحصل إلا باختراق المؤسسات الأبوية وإجبارها على خدمة مصالح الفئات المستهدفة بالتغيير؛ أي النساء في هذه الحالة. فسرعان ما يتحول البراديغم النسوي من جذري أو قاعدي شعبي (grassroots) يهدف إلى تغييرٍ اجتماعي وسياسي موجهٍ من أسفل إلى أعلى (bottom-up)، إلى براديغمٍ تدخلي مهني متخصصٍ في تدبير الحالات الفردية للعنف ومراقبة الجريمة، متبنيًا مسار تغيير من أعلى إلى أسفل (top-down). وتبقى هذه المقاربة عاجزةً على التصدي لممارسات ركوب تلك القضايا واستخدامها في نسقٍ سياسي استثنائي يسخَّر فيه القضاء لتكريس السلطوية والانتقام، ما يهدد مصداقية الضحايا والناجيات من العنف لدى الرأي العام ويساهم في إخفات صوت المظلومات أمام صوت التشهير وماكينة البروباغندا الرقمية.

بدائل العدالة الجنائية السالبة للحرية

تسود في المجتمعات فكرةٌ تسلّم بأن العدالة العقابية هي النموذج الصحيح والوحيد لعلاج جرائم ناتجةٍ - أساسًا - عن اختلالاتٍ مجتمعيةٍ بنيوية. والحقيقة أن هناك مقارباتٌ أخرى من المهم الانفتاح عليها. في الفقرات التالية، سنحاول التعرف على ثلاثة نماذج بديلةٍ لمعالجة حالات العنف الذكوري، عبر مقارنتها بالبراديغم الجنائي الذي ناقشناه أعلاه.

  العدالة الإصلاحية بين النموذجين التصالحي والتعويضي

في الوقت الذي تهتم فيه العدالة الجنائية بموضوع الإدانة وفق مسطرةٍ مفروضةٍ على الطرفين لتخلص إلى عقاب المعتدي، تشتغل العدالة الإصلاحية على موضوع النزاع الناتج عن العنف الذكوري، مركزةً على طبيعة العلاقة الاجتماعية التي تربط الناجية/الضحية بمعنفها، والتي غالبًا ما تكون مشروطةً اجتماعيًا. وبذلك، فهي تعتمد على مساطر تنبثق من المفاوضات والمواجهات بين الطرفين للوصول إلى توافقاتٍ أو تسويات. لذلك تدمج العدالة الإصلاحية ميكانيزماتٍ عدة، من بينها دوائر المرافقة وإشراك طرفٍ مستقلٍ مختصٍ في تلك الإجراءات، بهدف مواجهة المعتدين بالجرم الذي ارتكبوه، وانتزاع اعترافهم به واستعدادهم للالتزام بما يقتضيه إنصاف الناجيات/الضحايا بحسب حاجاتهن. ينقسم هذا البراديغم بدوره لإلى توجّهَين مختلفين:

  • الأول، ينطلق من النموذج التصالحي "الوساطة الشاملة" (comprehensive mediation) ويهدف إلى علاج الوضعيات وإصلاح العلاقات الاجتماعية التي تربط المعنف بالناجية/الضحية (وهذه المقاربة التي يستخدمها قضاء الأسرة بالمغرب، خصوصًا لعلاج نزاعاتٍ ناتجةٍ عن العنف في العلاقات الأسرية والعائلية، كالعنف الزوجي، مثلًا).
  • والثاني تعويضي، وهو الذي يهمنا أكثر كنسويات، إذ يجعل من الناجية/الضحية محور الاهتمام، فيهدف إلى إنصافها وجبر الضرر المترتب عن الأذى الذي لحقها بحسب حاجتها. ويتم تحديد الضرر باستخدام آلياتٍ عدةٍ مثل الوساطة التعويضية التي تسهل على الضحية/الناجية مواجهة معنفها بالأفعال التي ارتكبها والنتائج التي ترتبت عنه، ودوائر المرافقة والمسؤولية التي تشتغل مع مرتكبي العنف الذكوري لوقايتهم من الوقوع في العود عبر مرافقتهم في تحمل مسؤولية الأفعال التي قاموا بها وتقبل الأحكام الناتجة عنها. غير أن استدماج هذا النموذج وفق البراديغم الإصلاحي يقتضي، إلى جانب التركيز على الناجية/الضحية ومصالحها، استحضار العلاقات الاجتماعية التي تربط الطرفين، وضرورة وضع حدٍ للنزاع الذي في حال استمر قد يُحدث الانتقام والعود. لذلك، تتشبث العدالة التعويضية الإصلاحية بالحوار والتفاوض في المساطر للوصول إلى تسويةٍ مستدامةٍ عبر إشراك المحيط الاجتماعي القريب الذي يحظى بثقة الطرفين في الندوات التعويضية. 

تدمج العدالة الإصلاحية ميكانيزماتٍ عدة، من بينها دوائر المرافقة وإشراك طرفٍ مستقلٍ مختصٍ في تلك الإجراءات

لكن العدالة الإصلاحية لا تخرج عن النمط السائد لمقاربة العنف ضد النساء، فهي تقترح معالجته في فضاءاتٍ مغلقة، ما يطرح إشكاليتَين على الأقل:

  1. إعادة إدخال العنف ضد النساء في بوتقة الخصوصية العائلية والقبلية باعتبارها نزاعات بيفردية (أي بين الأفراد)،  
  2. اعتماد المقاربة التجزيئية التي تُغيّب الطبقية والإشكالية الهوياتية والثقافية والتمييز المبني على أساس الجنس والجنسانية.

  من العلاج البيفردي للعنف الذكوري إلى علاج الاضطهادات المركّبة: أطروحة العدالة التحويلية

للإجابة على حدود البراديغم الإصلاحي، تأتي أطروحة العدالة التحويلية لتركز على الاضطهادات المركّبة، بالموازاة مع العلاج الفردي لحالات العنف ضد النساء. وتبرز أهميتها في تسهيل وصول النساء اللواتي ينتمين إلى أوساطٍ مهمشةٍ إلى منظومة العدالة أو مؤسسات محاربة العنف، كالنساء المهاجرات السود، والمثليّين والمثليات والعابرات والعابرين، والعاملات الزراعيات المعرّضات للعنف الجنسي والمادي والمعنوي في أوساط عملهن. وهنا، ننتقل من جبر الضرر الإصلاحي الذي يهدف إلى إرجاع الناجية لوضعية ما قبل تعرضها للعنف، إلى جبر الضرر التحويلي الذي يسعى إلى تحويل وضعيتها السابقة التي جعلتها عرضةً للتعنيف إلى وضعيةٍ أكثر قوةً وأمانًا7 من خلال إنشاء صناديق خاصةٍ بذلك، يتم اللجوء إليها في حال عجز الأطراف المسؤولة عن الانتهاك والعنف أو رفضها تنفيذ الأحكام (عادةً ما يحدث ذلك إذا كان الطرف المعني سلطة حكومية أو إدارية أو جهازًا بوليسيًا أو شركةً رأسماليةً مثلًا). كما أن العدالة التحويلية تعتبر الجريمة نوعًا من الإشكاليات والنزاعات المتجذرة في المجموعات الاجتماعية حيث تتورط فيها أطرافٌ ثلاثة (المجتمع والدولة وأرباب العمل) كأطراف اعتداءٍ جد محتملة8 بسبب عدم حمايتها للضحايا، أو توفيرها شروطًا ماديةً تعرضهن لانتهاك حقوقهن. لذلك، فهي تعتمد منهجيًا على تحييد سلطة المجتمع والدولة ورأس المال، إذا ما أمكن، في عملية التدخل، لتراهن على دور المجموعات الفاعلة التي تحظى باعترافٍ محلي، مثل المؤسسات غير الحكومية أوالنقابات أو الآليات المستقلة الأخرى، والتي يمكن أن ترفع دعوى قضائية ضد الهيئات الحكومية أو غيرها من الأطراف المسؤولة التي أخفقت في منع العنف عن النساء أو الأطفال أو المهاجرين/ات أو غيرهم/ن، وذلك من أجل تدخلٍ آمنٍ ومنصفٍ قادرٍ على تقديم ضمانات عدم التكرار (non-recurrence) .

خلاصة

يبقى الولوج للعدالة الجنائية حقًا مشروعًا للنساء اللواتي يرغبن في ذلك، وللمجموعات التي تتطلع إلى تحييد مرتكبي العنف ولو بشكلٍ مؤقتٍ وإبعادهم عن الناجيات/الضحايا. لكن الواقع يبيّن أن منظومة السجن، بتركيزها على العقاب، توفر إمكاناتٍ من ضئيلةٍ إلى منعدمةٍ لعلاج الناجيات/الضحايا من التروما وجبر الضرر. كما أنها تؤدي إلى نتائج عكسيةً على السلوكيات الفردية والجماعية، وتوفر أرضيةً خصبةً لاستغلال قضايا النساء لغاياتٍ أخرى. بالمقابل، تعترض العدالة الإصلاحية والعدالة التحويلية مجموعةٌ من التحديات والعقبات لانتزاع الاعتراف والمشروعية من لدن المجتمعات المحلية والرسمية؛ فعلاوةً على حاجتها الملحة لموارد بشريةٍ وماديةٍ مهمةٍ للقيام بتدخلاتٍ على مستوياتٍ مختلفة، فإن العدالة التحويلية لا يمكنها بأي حالٍ من الأحوال تحقيق فعاليتها على المستوى القريب. لكن هذا لا يعني أنه لا يجب الانخراط الجدي في بحوثٍ إجرائيةٍ تعتمد مقاربة التفكير والعمل السياسي (Thinking and Working Politically)، تليها عملية تجميعٍ وتحليلٍ بُعدي (collection and meta analysis) بهدف تحديد مدى قابلية تطبيق براديغم العدالة التحويلية بالمغرب والصيغة المؤسّسية الأنسب لذلك. ويستلزم هذا بالضرورة توفير الموارد اللازمة لتشخيص ودراسة احتياجات النساء والمجموعات المعنية بقضايا العنف ضد النساء؛ ذلك لأن محاربة العنف ضد النساء يجب أن تكون سياسةً اجتماعيةً تقاطعيةً لا خطةً قمعيةً وسجنية. 

 

 

  • 1. تعبّأت الجمعيات النسائية بشكل ملحوظ لمرافقة النساء ضحايا العنف والناجيات منه عبر فتح خطوط للاستماع واستقبال الشكاوى والمرافقة النفسية. للمزيد من المعلومات حول مختلف المبادرات، المرجو الاطلاع على هذا الرابط.
  • 2. يُطلق مفهوم المسطرة الجنائية على الإجراءات المتّبعة أمام النيابة العامة بالإضافة إلى المحاكم بمختلف أنواعها، ويسمى أيضًا قانون الإجراءات الجزائية.
  • 3. في القانون الجنائي المغربي، تجرّم الفصول 489 و490 و491 العلاقات المثلية والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والخيانة الزوجية على التوالي. وتجرّم الفصول من 449 إلى 458 الإجهاض والمشاركة فيه والمساعدة عليه والإرشاد إليه والتحريض عليه.
  • 4. Jacques Faget, “Médiation et violences conjugales”, Champ Pénal/Penal Field, VOL.1 (Varia), 2004, https://doi.org/10.4000/champpenal.50
  • 5. انتشرت شهادات 'الضابطة وهيبة' بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي خلال سنتي 2020-2021. فقد عانت هذه الأخيرة، حسب تصريحاتها، من التهديدات بالتصفية واستهداف طفلتها وحياتها الخاصة وحتى محاميها في ما بات يعرف بالانتقام الإباحي، وذلك بعد تقديمها شكاية تتهم فيها رجل سلطة نافذ بالتحرش بها، مما اضطرها إلى مغادرة التراب المغربي واللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
  • 6. نحيل هنا إلى حالة عمر راضي، صحفي التحقيق المغربي المعارض، الذي تحركت ضده مسطرة متابعة بتهمة الاغتصاب مع استعمال العنف في خضم سلسلة تحرشات وتحقيقات قضائية ذات طابع سلطوي متهمة إياه بالتجسس والقيام بأعمال من شأنها المس بأمن وسلامة الدولة الداخلية والخارجية؛ وذلك ارتباطًا بأعماله وتحقيقاته الصحفية. وقد أدانت كل من مجموعة 'هن' ومجموعة 'خميسة' ما أسمتاه "استخدام السلطة لقضايا نسوية للانتقام من المعارضين السياسيين وقمع حرية التعبير". كما عبرتا عن رفضهما لكل الهجومات والتشهير الممارس ضد كل من الصحفي المغربي سليمان الريسوني والمشتكي به لإضفاء طابع "الفضائحية" على هذه الملفات بشكل يتجاوز ثقافة الإلغاء (cancel culture) إلى توقّع التهم وتواريخ وسيناريوهات الاعتقال ونشر معطيات لا يمكن الاطلاع عليها إلا من قبل أجهزة نافذة، في قنوات عرفت بارتباطاتها بأجهزة البوليس السياسي المغربية.
  • 7. اللجنة الدولية للحقوقيين، ولوج المرأة للعدالة في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي، دليل الممارسين، رقم 12، جنيف، سويسرا، 2021.
  • 8. Judith Armatta, “Ending Sexual Violence Through Transformative Justice”, Interdisciplinary Journal of Partnership Studies, 5(1), Article 4, 2018, https://doi.org/10.24926/ijps.v5i1.915