ماذا وراء حملة معاداة النسوية والتعابير الجندرية غير المعيارية في المنطقة؟

في السنواتِ العشر الأخيرة، شَهِدْنا نهاياتٍ مُرّة لِثورة يناير في مِصر والثّورة السوريّة، وصولًا إلى انتفاضةِ 17 أكتوبر 2019 في لُبنان، ودخول السودان مُؤخّرًا في حربٍ عسكريّةٍ – أهليّةٍ، لُفِظ فيها النّفس الأخير لآمالٍ رَفعتْها هذه الثّورات. في خلال هذه النهايات المريرة، تصاعدت بشكلٍ متزايدٍ سرديّات مُناهضة للنّسويّة وحقوق الإنسان في المنطقة، إذ بات يسود فيها، وبشكلٍ واضحٍ، مناخٌ سياسي أكثر قمعًا وعدائيّة تجاه العمل الأهلي وحقوق الإنسان، وخصوصًا حقوق النّساء، مُستفيدًا ومُتأثّرًا بوصول "اليمين" إلى السُّلطة في الكثير من الدّول الغربيّة.  

وبالنّتيجة، تَأثّرت الحركات النّسويّة بشكلٍ سلبيٍّ بالسّياسات الأمنيّة التي أَغْلقت المساحات الجديدة والواسعة في العملِ الأهلي والسياسي، بعد أن فَتحتْها الثّورات والحركات الاجتماعيّة في المنطقة. كما تعرّضت لأضرارٍ جرّاء العُنف الأهلي والاقتصادي الذي دَمّر البُنى التحتيّة النّسويّة. في ثوانٍ، أُوقِف امتِداد لحظاتٍ مهمّةٍ من التّاريخ النّسويّ، كما هو الحال في السودان ولبنان مُؤخّرًا، والعِراق وسوريا قبلَهُما.

رافق نموّ الحركات النسويّة في المنطقة اهتمامٌ كبيرٌ من الصناديق العالميّة النّسويّة. سرَّع التّمويل الكثير من المراحل الّتي تختبِرُها عادةً الحركات الاجتماعيّة في نموّها. كما ساعدَ النّسويّات والحركات النّسويّة بأن تكونَ جُزءًا أساسيًا مؤثِّرًا في الكثير من تكتّلات المُجتمع المدني والحركات السّياسيّة المُعارِضة في مختلفِ بلدانِ المنطقة، وبالتالي الانتقال التاريخي من موقعٍ محايدٍ تاريخيًّا في علاقته مع النّظام إلى موقعٍ معادٍ ومعارضٍ للأنظمة.  

تَأثّرت الحركات النّسويّة بشكلٍ سلبيٍّ بالسّياسات الأمنيّة التي أَغْلقت المساحات الجديدة والواسعة في العملِ الأهلي والسياسي، بعد أن فَتحتْها الثّورات والحركات الاجتماعيّة في المنطقة

في خلال هذه السّنوات، جاءتْ النسويّات بأدواتٍ غير تقليديّةٍ في التّنظيم والحمَلات السياسيّة، والمحتوى النّسوي والسياسي الحسّاس المتعلِّق بالجندر، واستطاعتْ التأثير بشكلٍ عميقٍ في البيئات السياسيّة المتنوّعة ما بعدَ العام 2011. وعلى الرّغم من أنّ انتشار التّسمية أفقد العمل النّسوي العُمقَ في التحليل والاِستبصار الضّروري للسرديّات النّسويّة الحاليّة، إلّا أنّه نجح في جعل الكثير من الأسئلة النّسويّة عامّةً لا فئويّة، لاسيّما في ما يتعلّق بقضايا الأجور، والعنف الجنسي، والعنف الجسدي، والتمثيل السياسي، والتمييز القانوني، وفي الأحوال الشخصيّة، والعلاقة مع الجسد والجنسانيّة. وبناءً على ذلك، تصْطدم الجهات المعادية للنّسويّات والتحرّر حاليًا بخطاب نسويٍّ عام ومنتشر ضمن كتلة محلّية وإقليميّة وعالميّة، حاضرة في العالمين الرقمي والواقعي. وعلى الرغم من أنّ معاداة النسويّة والنّساء وفئات أخرى من مجتمعات منطقتِنا ظاهرةٌ وموجودةٌ منذُ ما قبل المُناخ الحاليّ، ثمّةَ تغييرٌ نوعيٌ في الهجوم على النّسويّات، وتقويض ما يمكن أن نُسميّه "بديهيّات نسويّة" (عن العنف، والتحرّش، والمحاسبة، والتمييز) تنتشرُ مثل النّار في الهشيم بين نساء وفتياتٍ وأفرادِ منطقتنا من المحيط إلى الخليج، يستفيدُ من صعودِ اليمين وسرديّاته المُعادية للحقوق ويتأثّر به.

الحركات المُعادية لِحُقوق الإنسان

في الاِصْطدام الحالي ضدّ النّسويّات في منطقتِنا، نرى معالمَ ما يُعرف بـ "الحركات المُناهضة للحُقوق" (anti-rights actors) العالميّة، والتي تُشكّل التيّارات المُعادية للنّسويّات (anti-feminist) أحد أوجُهِها. ونَشهد بوضوحٍ كيف تتقاطعُ سرديّات هذه الحركات مع حوادثِ التحريض على النّسويّات وحملات الكراهيّة ضدّهُنّ.

تُعرِّف مُنظمة النساء في التنمية (AWID) الجماعات المناهضة للحقوق بأنّها مؤسّساتٌ وجماعاتٌ ذات تأثيرٍ عامٍّ، تعمل على مُعارضة ومُحاربة تقدّم الحركات النّسويّة والكويريّة في العالم وتُحاربها. من خلال تنظيم نفسِها وتنظيم حملات مناصرة، تسعى هذه الجماعات لمواجهة ما يعتبرونه "شرًّا نسَويًا ومِثليًا". فهذا الأخير يهدُف بنظرهم إلى هدْم الأسرة وشكلِها التّقليدي، وإقامة تغيير جذري في الجندر والجنس، من أجل تقويض دور الرّجل البيولوجي والطبيعي، ودور المرأة الطبيعي والبيولوجي. كما تعمل هذه المؤسّسات والجماعات على تجريم العمليّات المؤكّدة للجندر، ومناهضة العابرات والعابرين بشكلِ خاصِ، وعدم الاعتراف بهنّ كنساء أو رجال.

المجموعات المناهضة للحقوق العالميّة نشأت من صُلْب الحركات الدّينيّة والأحزابِ اليمينيّة، لكنّها قُدِّمت تحت غطاءات مؤسّساتٍ تدّعي أنّها جزءٌ من المجتمع المدني العامل في مجال حقوق الإنسان

وتُشير منظمة النساء في التنمية إلى أن المجموعات المناهضة للحقوق العالميّة نشأت من صُلْب الحركات الدّينيّة والأحزابِ اليمينيّة، لكنّها قُدِّمت تحت غطاءات مؤسّساتٍ تدّعي أنّها جزءٌ من المجتمع المدني العامل في مجال حقوق الإنسان، وتُصدّر نفسها كمدافعة عن حقوقِ الأسرة الطبيعيّة لمُناهضة المؤامرة ضدّ الأسرة التقليدية. وتنشَط هذه المجموعات أيضًا في مجالسِ حقوقِ الإنسان في جنيف ونيويورك، حيث تُعقدُ اللِّقاءات الدوريّة للمجموعاتِ العاملةِ في الأمم المتحدة، وخصوصًا لجنة وضع المرأة (CSW) التابعَة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. فتحاول تغيير اللّغة المستخدمة في اتّفاقيّات الأمم المتحدة وقراراتها، لاسيّما في ما يتعلّق بقضايا العنف الجنسي، والإجهاض، والعبور، ومحاربة التطرّف الديني، وحقوقِ المثليين وغيرها.

تقاطُع اليمين العالمي مع الكراهية المحليّة

تتجلّى في منطقتِنا العديدُ من ردودِ الفِعلِ والسّرديّات والمصطلحات والمواقفِ السياسيّة – القوميّة، التي تتقاطع مع خِطاب المجموعاتِ المناهضةِ لحقوق النّساء والإنسان وطُرقِ عملِها. من الصعب تحديدُ تعاونٍ مباشرٍ وعلنيٍّ بين هذه المجموعات والمُناخ المصطدم والمحرّض على النّسويات في منطقتنا. لكن يمكن تسليط الضوءِ على قواسمٍ مشتركةٍ بينهم، لاسيّما طُرق التّنظيم والسّرديّات والمصطلحات المُستخدمة. كما يمكنُ تحديد كيف تقاطَع اليمين العالمي الصاعد مع الكراهيّة المحليّة ضد النساء، وتحديدًا النسويّات والمثليين/ات والعابرين/ات.

تُساعد هذه التقاطعيّة في مقاربة السّياق العالمي لعودة اليمين (بكلّ أشكاله) كمناخٍ حاضنٍ وأساسي عزّز التصادم ضدّ النسويّات في المنطقة العربية، وذلك بِدءًا من الصّعود الحادّ للخطاب المحافظ والمعادي للحرّيات مع وصول دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتّحدة، مرورًا بتُركيا وخروجِها من اتفاقية اسطنبول، وفوزِ اليمين في إيطاليا والسويد وبولندا، وتشريع قانونٍ يُعاقب المثليّين بالإعدام في أوغندا، وكراهية المثليّين والنسويّات في روسيا. كما تُبيّن معنى إمساكِ اليمين بالسياسة والتشريعات في أوروبا وأميركا، بعد سنين من الاشتباك والاصطدام مع الخلفيّة التي شكّلت النّقاشات العالميّة النّسويّة، وبرزت من خلال حركة "ME TOO" أو "أنا أيضًا". يضاف إلى ذلك فتْح صندوق باندورا بشأن العنف اليومي الذي تواجهه النساء في العالم، ووصولِ مظاهراتِ تشريع الإجهاض في بولندا  والأرجنتين إلى الرأي العام العالمي.

وصل صدى الخطاب اليميني المُعادي للحقوق في الغرب إلى المؤسّسات الرّسميّة والدينيّة والأحزاب القوميّة-الليبراليّة في منطقتنا، وألهمَها في تغيير طريقةِ هجومها والتّحريض على النّسويّات والقضايا النّسويّة. 

إن تحوّل التركيز من مجرّد اعتبار القضايا النسوية مُنتجًا غربيًا-استعماريَا هو تكتيك تاريخي يهدف إلى خلق رابط بين حقوق النساء و"خطر الغرب"، وإقصاء النسويات عن المشاركة والتأثير في الحركات السياسيّة الوطنيّة والمحلّية، وتغريبهن عن ارتباطهن بالمحلّي واليومي المُعاش، وبالتالي المحافظة على مواقع قوّة أبوية تاريخيّة. اعتبرت الجماعات الدينيّة أن التفكير بحقوق النساء هو نقد للدين والمؤسّسات الدينيّة التي لم يتبقَ لها سوى الأحوال الشخصية كمصدر لاستمداد الصلاحية. كما اعتبرت بعض الأحزاب اليساريّة التقليديّة أن النسوية منتجٌ استعماريٌ يهدف إلى المَس بالتحرّر الوطني-الطبقي، وربطت بين التحرّر الجندري-الجنسي وخيانة "الطبقة العاملة" أو القضية الوطنيّة وتحرّرها، كردّ فعل على التغييرات التي قد تطرأ على الممارسات والهيكليّات السياسيّة إذا لعبت النساء والأفراد غير النمطيين/ات أدوارًا جديدة، وكذلك المراجعات التي قد تطرأ على السرديّات التاريخيّة إذا بحثت النسويّات عن تاريخ النساء في هذه الحركات.  غير أن ذروة الحياة السياسيّة التي اختبرتها المنطقة منذ العام 2011 سمحت للحركات النسويّة بتجاوز هذا الخطاب، والاستمرار بالتنظيم في بلدان كثيرة، وإجبار الأحزاب اليساريّة التقليديّة على مراجعة تحريضهم على النسويّات، وأكثر من ذلك خلق أحزاب ومجموعات يساريّة بتوجّهات نسويّة. 

وصل صدى الخطاب اليميني المُعادي للحقوق في الغرب إلى المؤسّسات الرّسميّة والدينيّة والأحزاب القوميّة-الليبراليّة في منطقتنا، وألهمَها في تغيير طريقةِ هجومها والتّحريض على النّسويّات والقضايا النّسويّة

فشل التغريب وتحوّل إلى هجوم وتحريض على النّسويّات من منطلق مُؤامرتّي يهدُف إلى تفكيك الأسرة والدّين والمسّ بالطبيعة (المرأة والرجل). وبالتالي، أصبحت كراهية النّسويّات جزءًا من فكرٍ حِمائي يتعلّقُ بالأطفال والعائلة والوطن. وتحوّل الاطمئنانُ من محدوديّة التأثير النسوي في المجتمع أو السياسات الحكومية إلى قلق. واُسْتُعيرَت حجّة حماية الأسرة من الشرّ النّسوي للهجوم على النّسويّات والتّحريضِ ضِدّهُنّ، باعتبارِ أنّ النّسويّة تُؤجّجُ الصّراع بين الأزواجِ، وتُدمّر الأسرة، وتخِلُّ بالأدوار المختلفة التي يتحتّم على النّساء القيام بها، في تخاطرٍ مع أفكارِ ومَنطقِ اليمين العالمي. ويمكن بخُطواتٍ بسيطةٍ عبر الإنترنت مُعاينة عولمة الكراهية في السّياق المحلي، من خلال الكمّ الهائل من المُحتوى المُترجَم لحركات مناهضة الحقوق واليمين في أوروبا وتعريبها.

الاصطدام بالنّسويّات: دولةٌ ومؤسّساتٌ دينيّة ورجالٌ في أزمة

سمحت عالميّة النضالات النّسويّة للكثيرات برُؤية قُوّة النّضال المحلّي. والأهمّ من ذلك، ساهمت الصّور التي نراها من المظاهرات وانتشار محتوى كمحتوى "أنا أيضًا" في التأكيدِ على قُدرة النّضال النّسوي في تشكيل كتلةٍ مؤثّرةٍ، تتخطّى المجموعات الصغيرة أو المؤسّسات المحليّة. ونرى ذلك بشكلٍ واضحٍ في تأثير حركةِ وثورةِ "إمرأةٌ، حريّةٌ، حياةٌ" في إيران، على السّرديّات النّسويّة في منطقتنا. فقد عَزّزت أيضًا هذه اللّحظات الصّلة بين العدالة والمُساواة للنّساء، وبين العدالة والمُساواة للجميع.

يُمكِننا على سبيلِ المِثال النّظر في حملةِ التضامُن العفويّة والنّقاش العامّ وتفاعُلِ الناس على مقتل الشابة الفلسطينية إسراء غرّيب، على يدِ رجالٍ من عائلتِها في فلسطين. وقفَتْ خَلفَ هذه الحملةِ صديقاتٌ وقريباتٌ لإسراء لَسْنَ بالضّرورة نسويّات. وقد حرّكت هذه الحملة منطقتِنا اعتراضًا، وأَجبرتْ السُّلطة الفلسطينيّة على المباشرة بالتحقيق في جريمة القتْلِ، على الرّغم من انتفاءِ نيّةِ المحاسبة لاحقًا. كشفَتْ هذه الحادثة عن عشراتِ قصصِ قتلِ النّساء في فِلسطين، ولبنان، ومِصر، والعراق، من دونِ أي مُحاسبةٍ أو خوفٍ. وساهمتْ في بروز تنظيمِ طالعاتِ النسوي الفلسطينيّ، الذي اشتَبك مع الخطابات التي حاولت المُساواة بين الاعتراضِ على قتل النساءِ وخيانة القضيةِ الوطنيّةِ. وهي استراتيجيّة قديمة في منطقتنا، كانت وما زالتْ تبتّز النساء عند الاعتراض. ويُمكن فهمُ هذه اللحظة الجماعيّة النّسويّة المنتفضة لحقّ إسراء، كدليلٍ على وجود كتلةٍ نسويّةٍ كبيرةٍ فعّالة تسعى لمواجهة العنف، ولو بشكلٍ رقميٍّ على وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيّ. عدا عن مشاركةِ أحداثِ قتلٍ وتعذيبٍ وضربٍ تَستهدفُ النّساء لأنهنّ نساءٌ، وخلق نقاشاتٍ عامّةٍ أجبرت السُلطات أحيانًا على التحرّك، ونقلِ مناهضة العنف وفضحِه من عاتِقِ المجموعات النسويّة إلى عاتق نساءٍ وأفرادٍ ليسوا بالضّرورة نسويّات.

يمكن الاستنتاجُ أنّ الاصطدام الحالي وعُنفَهُ ضدّ النّسويّات والكويريّين/ات في منطقتنا، مرتبطٌ بالذعر من الكتلة نفسها ومن البديهيّات أيضًا، في محاولةٍ لتقويضِ أثرِ العمل النسوي على توقُّعاتِ النساءِ والأفرادِ غير النمطيّين وممارستهم في المنطقة

وبالإضافةِ إلى ذلكَ، يُمكنُ مُلاحظة انتشار مفاهيم بديهية نسوية عن العنف، والتحرّش، والمحاسبة، والتمييز أضحت تُشَكّل توقّعاتٍ اجتماعيّةٍ لثلاثةِ أو أربعةِ أجيالٍ من النساء والأفراد غير النمطيّين، من دونِ أن يكونَ ذلك متعلّقًا بنشاطيّةٍ ما. ويمكن الاستنتاجُ أنّ الاصطدام الحالي وعُنفَهُ ضدّ النّسويّات والكويريّين/ات في منطقتنا، مرتبطٌ بالذعر من الكتلة نفسها ومن البديهيّات أيضًا، في محاولةٍ لتقويضِ أثرِ العمل النسوي على توقُّعاتِ النساءِ والأفرادِ غير النمطيّين وممارستهم في المنطقة.

ويمكن أيضًا رسمُ ملامحٍ للجهات التي تحاوُل لجم الكتلة النسويّة وتقويض البديهيّات النسويّة المُنتشرة. أحيانًا، لا تتحالف هذه الجهات في ما بينها بشكلٍ تامّ، بل تستفيد من تقاطُع كراهيّتها للنسويّات. وتُشكّل الأنظمة الحاكمة لاعبًا أساسيًا في التحريض على النسويّات وترويج الكراهية ضدّهُنّ. ويمكن مثلًا الإشارة إلى الدّور التحريضي الذي لعبتهُ كلّ من السَّعوديّة، واليمن، وقطر، والكُويت، وغيرهُم من دول المنطقة خلال أعمال الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة، لعرقلة تبنّي القرار الخاص بالإعلان العالمي لحماية المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان، خصوصًا في ما يتعلّق بالأفعال الانتقاميّة والعنف الجنسيّ، تحت حجّة معارضتها للثقافة المحلّية. وهذا مثال على مدى التزام دولنا أحيانًا للحدّ من السياسات العالميّة التي تعترف بدور النّسويّات، وبطريقة غير مباشرة، منعها من التأثير في النّسويات محلّيًا.

تجريم المُمارسات النّسويّة

يمكن مقاربة سياسات السَّعوديْة في السنوات السِّتّ الأخيرة، من بين دُول أُخرى، كمثال على كيفيّة تحريض الدولة وكرهها للنّسويّات، من خلال تجريم العمل الأهلي والدّفاع كدرسٍ للأُخريات، ومحاولة تجريم الفكر النسوي باعتباره يهدّد أمن الدولة. كما تتجلّى هذه السّياسات من خلال مُصادرة النّضال، والعمل على إقرار إصلاحات معيّنة مثل تعديل نظام الولاية، من دون السّماح بتكوين مجتمعٍ مدنيّ، والاستمرار باعتِقال ناشطات مغرّدات، أو منع السّجينات السّابقات من السّفر، وسط رقابة شديدة على المحتوى الرّقمي. وفي المقابل، فُتِح المجال لإنتاج محتوى مُحرّض على النسويّات في الإعلام الرّسمي والرّقمي، يَستعمِل لُغة الجماعات المُناهضة للحقوق العالميّة. 

يمكن مقاربة سياسات السَّعوديْة في السنوات السِّتّ الأخيرة، من بين دُول أُخرى، كمثال على كيفيّة تحريض الدولة وكرهها للنّسويّات، من خلال تجريم العمل الأهلي والدّفاع كدرسٍ للأُخريات، ومحاولة تجريم الفكر النسوي باعتباره يهدّد أمن الدولة

وتبرُز مِصر كمثالٍ آخرٍ على تجريم مناهضة الممارسات النّسويّة من قبل الدّولة. في عام 2021،  سُجِن شهودٌ في قضية الفيرمونت المتعلّقة بقضايا اغتصاب وعوقبُوا بسبب تبليغهم والشّهادة في هذه القضيّة، التي شجّع المجلس القومي للمرأة المصريّة على تقديم بلاغاتٍ حولها. ونجح المخرج إسلام العزازي، المُتّهم بالاعتداء الجنسي والاغتصاب، في رفع دعوى تتّهم نسويّتين بالذّم والقدح وتَعمّد الإزعاج، بسبب مشاركتهنّ شهاداتِ ناجياتٍ. لم تُحقّق الدولة في أيٍ من هذه الشّهادات المنشورة. وفي نمطٍ مماثلٍ، استُدعِيَت الناشطة النسويّة في لبنان حياة مرشاد للخضوع لتحقيقٍ خاصٍ في شعبة الجرائم المعلوماتيّة، عِقب نشرها شهادات ضدّ متحرّش متسلسل. لكن لم تتحرّك النيابة للتحقيق معه، على الرّغم من الإخبارات الموجّهة ضدّه.

الجماعات والمؤسّسات الدّينيّة

في سياقٍ مُتّصلٍ، تعملُ المؤسّسات الدّينيّة، بغطاءٍ عشائريٍّ أو حزبيٍّ أحيانًا، على التّحريض المُمنهج ضدّ النسويّات. في خلال السنوات الأخيرة، شهدت منطقة الخليل في فِلسطين تحرّكات مناهضة لاتفاقية سيداو (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) من قبل عشائر، اعتراضًا على مطالبة النسويّات في فِلسطين بتحديد سنّ الزّواج بـ18 عامًا، ومنعِ الكوادر النسويّة من الدّخول إلى المدارس بهدفِ التوعية ضدّ العنف. وشَنّ حِزب التحرير الإسلامي حملات ضِدّ الناشطة النسويّة ساما عويضة، يتّهمُها فيها بالتحريض على الفسق والفجور بسبب مُناصرتِها لإقرار اتفاقيّة سيداو. في المقابل، لم تبادر المؤسّسات الأمنيّة التابعة للسّلطة الفلسطينيّة إلى التّحقيق بالتهديدات، أو أخذِها على محمل الجِدّ.

وفي لبنان، بلّغتْ دار الفتوى اللبنانية وزارة الدّاخلية في صيف 2022، بعزمِها إيقاف مسيرة ونشاط مثلّي وتصدّيها لهذه الظاهرة. وبالفعل نُظِّمت وقفةٌ ضدّ المِثليّة دعمًا لدار الفتوى، ودَعمَ شيخ عقل الدروز موقفَ دار الفتوى. بالإضافة إلى ذلك، ظهر ما يُعرف بجنود الرب، وهي مجموعة مسيحيّة تُناهضُ المِثليّة (والنسويّة بطبيعة الحال). وقد هدّدت محلات ومقاهي وضعتْ أعلامَ قوس قزح، وهاجمت مقهى كان يستضيف عرضًا لفن الجر (Drag Show) واعتدت على بعض روّاده، وذلك في اتحادٍ طائفيٍّ ودينيٍّ ضدّ المِثليّة والتعابير الجندرية غير المعيارية.

تعملُ المؤسّسات الدّينيّة، بغطاءٍ عشائريٍّ أو حزبيٍّ أحيانًا، على التّحريض المُمنهج ضدّ النسويّات

وفي الأردن، أصدر بعض الدّعاة الإسلاميين في تمّوز/يوليو 2023 دعوة لتكفير وتقييد الناشطة هالة عاهد، بسبب تنظيمها تدريبًا عن النسوية في عمان، في ظل صمتٍ تامٍ من المؤسّسات الرسمية الأردنية المعروفة بعدائِها لهالة. وقد كشفتْ عاهد عن اختراقِ هاتفها من قبل مؤسّساتٍ قد تكون رسميّة. هذا وتستمر حملةٌ أمنيةٌ تَطال المثليّين في الأردن.

إلى ذلك، تشهَد المِنطقة حملاتٍ جديدةٍ تتمتّع بغطاءٍ دينيٍّ يهدفُ إلى المحافظة على الأسرة والأدوار "الطّبيعية فيها"، مبنيةً على مبادئ التّسويق الإعلاميّ، مثل فطرة في مصر، ومش طبيعي في لبنان. ويمكنُ أيضًا الوقوف عند خطاب حسن نصرالله في لبنان ضدّ المثليّين،1 ودعوة مقتدى الصدر في العراق  لمناهضة المثليّة من "دون عنف"، وصولًا إلى العمل على إقرار قانون في العراق يُجرِّم المثليةّ.

تعمل هذه الجهات على إنشاء جمعيات تهدف إلى إقرار قوانين وأنشطة ترفع الوعي عن مخاطر النسوية والمثلية. على سبيل المثال، أُنشئت في لبنان جمعية تحت اسم التجمّع اللبناني للحفاظ على الأسرة، تهدف إلى التوعية بمخاطر الشذوذ الجنسي. وأُنشِئت حملةٌ أخرى لحماية الأسرة والمجتمع تابعة لهيئة العلماء المسلمين. كما برزت  المئات من صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل ريد بيل أربيك (Red Pill Arabic)، تنشر محتوى معرّبًا يركّز على خطر النسوية على العائلة.

يؤدّي الرجال المأزومون في منطقتنا دورًا هامًّا في هذا الاصطدام، لاسيّما من ناحية تعريب وترجمة مُحتوى ينطوي على كراهية النّسويّات والنّساء، نقلًا عن نجوم اليمين المتطرّف والمحافظين

ويؤدّي الرجال المأزومون في منطقتنا دورًا هامًّا في هذا الاصطدام، لاسيّما من ناحية تعريب وترجمة مُحتوى ينطوي على كراهية النّسويّات والنّساء، نقلًا عن نجوم اليمين المتطرّف والمحافظين، مثل ملاكم الكيك بوكسينغ الأميركي-البريطاني أندرو تايت الذي أعلن إسلامه من فترة وجيزة، أو عالم النفس الكندي جوردن بيترسون. ينتشر هذا المحتوى وهذا المنطق الطّبيعي المُناهض للنّسويّات، ويؤثّر في النّساء بشكلٍ عام. ومن المُفارقات، وجود كمًّا هائلًا من الحِسابات لناشطين يساريّين يعيدون نشر محتوى جوردن بيترسون، الذي يحاول الرّبط بين النسويّة والمَرض النّفسي عند النّساء. تنطوي أدوار هؤلاء الرّجال أيضًا على مساعدة ضِمنيّة للسّلطات الأمنيّة. على سبيل المثال، سَجنت الشرطة المصرية إنْفلُونْسِرعلى تيك توك بتُهمة "الإساءة لقِيم الأسرة المصريّة"، بالاستناد إلى بلاغات قُدِّمت من رجالٍ ووإنْفلُوَنْسرز مصريّين ذكور، اتّهموا الفتيات بالدّعارة، والاتجار بالبشر، وخدش الحياء العام.

الاصطدامُ بالبديهيّات النّسويّة: استراتيجيّات النّضال والاستمرار

ترسم التّنظيمات والحركات النّسويّة خريطةً دقيقةً لمدى ارتباط منطقتِنا ببعضها البعض، وفي الوقت نفسه مدى ابتعادها في المقاربات ولحظاتها الخاصّة، مثل تنظيمات المُهاجرات العاملات في المنازل في لبنان، ونضالات بائعات الشّاي في السّودان. يُنتِج تقاطُع القضايا النسويّة سرديّة تعكسُ أيضًا تقاطُع الأنظُمة والجماعات المُناهضة لحقوق الإنسان في منطقتنا، لاسيّما مع بروز سرديّات مثل حماية "قِيَم الأسرة المصريّة"، ومحاولات تجريم النسويّة في القانون السَّعودي، وتصويرها على أنّها جُزءٌ من التطرّف، قبل التراجع عن هذا الإجراء. كما يبرز هذا التقاطع في التحريض على المؤسّسات النّسويّة في فِلسطين، وإحالة قانون يُجرّم المِثليّة في العراق إلى اللجان النيابيّة. بمتابعة مسارات هذه الحركات، يُمكننا فهْم مدى التّغييرات، خصوصًا في السّنوات الأخيرة، وفهم تأثير النّسويّات في منطقتنا على الإنترنت والتأثير المعاكس أيضًا.

على سبيل المثال، تَتجلى المقاومة النسويّة على الإنترنت في مواجهة حملات الكراهية والتّحريض، من خلال نشر المعارف النسوية، وتفكيك ونقد الخطابات المعادية، والتّنظيم النّسوي، وإن بأشكال مختلفة. وفي هذا السياق الأخير، تجسّدت هذه المقاومة عبر تنظيم حملات تضامُنٍ محليّة، سعت لمواجهة التّجريم والاستهداف في قضية الفيرمونت، أو استهداف الصحافية والكاتبة رشا عزب والمخرجة والكاتبة سلمى الطرزي لتضامنهما مع ضحايا/الناجيات من العنف الجنسي في مصر، ومن خلال حملة التضامن المحليّة مع المديرة العامة لمركز الدراسات النسوية ساما عويضة في مواجهة التكفير. ويمكن اعتبار زيادة انتشار أخبار قتل النّساء داخل الأسر وخارجها، كإصرار على الاستمرار في مشاركة أخبار القتل، وتحويل هذه الجرائم من حوادثِ عُنفٍ فرديّةٍ لا دلالة لها إلى نقاشٍ عامٍ عن العُنف الممنهج والكراهية ضدّ النّساء.

تَتجلى المقاومة النسويّة على الإنترنت في مواجهة حملات الكراهية والتّحريض، من خلال نشر المعارف النسوية، وتفكيك ونقد الخطابات المعادية، والتّنظيم النّسوي، وإن بأشكال مختلفة

يمكن اعتبار استثمار النّسويّات بشكلٍ واضحٍ في الإنترنت، كبناء أساسي لنشرِ مُحتوى يشتبك مع التّحريض والعنف من جهة، وكبناء يضمن أحيانًا الإفلات من القبضة الأمنية من جهة أخرى. فقد استفدنَ من قوّة الإنترنت في تحفيز الرأي العام، لتَسليط الضّوء على الأحداث بشكلٍ فَورّي وفعّال، أسوة بما حصل في قضية "وسام وفاطمة" المحتجِزَتين في غزة إلى اليوم، وقضيّة "مُذهِلة" في الإمارات العربيّة المتّحدة. وبالتالي، يمكن إحراج الدّول في لحظاتٍ عديدةٍ، ودفْع المؤسّسات الرسميّة للتحرّك، أو إطلاق مجموعات مجهولة ومؤثّرة، من أجلِ بناء حركات عابرة للمنطقة، تعتمد على الكتلة النّسويّة الموجودة في المنطقة وقدرتها على إثارة نقاشٍ عام. 

وفي نفس الوقت، تؤدّي التّغييرات في الرّقابة على المحتوى الموجود على منصّات التواصل الاجتماعيّ، بما في ذلك انحياز هذه الرّقابة بطرقٍ ملتويةٍ ضدّ العديد من المواضيع، من ضِمنها الخطابات النّسويّة التي تُصنَّف "كمحتوى مُحرِّض على الكراهية"، إلى تقويض النشاط النسوي الرقمي. ويُضاف إلى ذلك اتساعُ منصات التواصل الاجتماعي - لاسيّما فايسبوك وتويتر أو "X" - لمُحتوى كارهٍ للنّساء وأفراد مجتمع الميم-عين والنّسويّات، بحجّة "حريّة التّعبير". والأهم والأساس، هو تفاعُلُنا على هذه المنصات الخاضع للخوارزميات (algorithms)، التي تُكرّر المحتوى الأكثر مُشاهدةً، وتأسر المستخدمات والمستخدمين في فقّاعة من المحتوى المتشابه. ويمكن أيضًا اعتبار التّغييرات الأخيرة على منصّة تويتر كدليلٍ على هشاشةِ وجودِ النّسويّات ككتلة، بسبب خطاب إيلون ماسك ومعتقداته السّياسيّة التي أثّرت في المحتوى، وتجربة الاستخدام، وحُسنِها، وراحتِها، وقدرتِها على تمرير المعلومات، والتّواصل. هذا واتّضح أن تويتر تحت إدارة ماسك منحاز إلى الحركات المناهضة للحقوق، ويسعى إلى الحد من المحتوى النسوي وتقسيم المُستخدمين/ات وتفريقهمن.

تواجه النسوّيات الاستنزاف والعنف اليومي، سواءً في الحياة الواقعية و/أو الرقميّة و/أو الخاصة، وبالتالي، تخفّ قدرة هذه الكتلة على التّضامن والتفاعل مع حملات التّحريض اليوميّة

مع ذلكَ، لا تنحصرُ هشاشة الكتلة النّسويّة بوجودها على منصّات التّواصل الاجتماعي حيث تخضع للخوارزميات الجائرة والرقابة على محتواها، وتواجه محتوى مُحرّض وعنيف يفوق المحتوى الذي تنشره بأضعاف، لا بل هي عرضة أيضًا للتّجريم والكراهية خارج هذه المنصّات. إضافةً إلى ذلك، خفت نشاط المؤسّسات النّسويّة والحقوقيّة النّسائيّة في منطقتنا، بسبب الاستهدافات الأمنيّة ومناخ الرقابة البوليسيّة (أسوة بمصر ودول الخليج)، أو الحرب (سوريا والعراق)، أو الانهيار الاقتصادي وأداء الدولة (لبنان). كما تواجه النسوّيات الاستنزاف والعنف اليومي، سواءً في الحياة الواقعية و/أو الرقميّة و/أو الخاصة، وبالتالي، تخفّ قدرة هذه الكتلة على التّضامن والتفاعل مع حملات التّحريض اليوميّة.

في النّهاية، تبقى الكثير من الأسئلة مفتوحةً، وهي تتعلّقُ بكيفيّة نجاة النّسويّات من الاصطدام الحالي، وبأيّ شكلٍ، وأيّ خطاب؟ يبدو واضحًا وجود نِيّة ظاهرة عند الحركات المعادية للحقوق في منطقتنا، من أجل تقسيم القضايا والعاملات والعاملين عليها. وبالفعلِ، نشهدُ حاليًا هجومًا مستعرًّا على المثليّة من شأنه أن يدفع النسويّات نحو الصّمت إزاء هذا الهجوم، أو استنكار المثليّة لتحييد نفسها عن الهجوم المقبل، أو الدّفاع عن المثليّة وتلقّي العنف. وهذا نهجٌ يعملُ بإيعازٍ من الدّولة، ويستفيد من أذرَعِها الأمنيّة والدينية، لتقويض النّسويّات. أمّا السُّؤال الأساسيّ، فهو مدى وعي الحركات النّسويّة ومجتمعاتِ الميم-عين في منطقتنا بتنظيم خطاب الكراهية وانتشار خطاب يربِط بين النّسويّات والمثلية وبين هدم الأسرة، وقدرتها على البحث في أطر نجاح هذه المجموعات المُحرِّضة على استمالة داعمين تحتَ غِطاء حماية الأسرة، من أجل العمل على مواجهته بطريقةٍ مدروسةٍ. والأهم من ذلك، يجب فهم وتحديد الجهات المُعادية للحقوق على مستوى محلّي، والعمل على مناهضتها محليًا، والتّفكير في كيفيّة محافظة النّسويّات على أنفسهِنّ، وسط كراهيةٍ محليّةٍ أضحت معولمة، بطرائق تحقّق الاستمرارية والنجاة بأقلّ ضررٍ ممكن.