مشروع قانون تجريم المثلية في العراق: واجهة لصراعات سياسية وحقوقية

طُرِحَ مؤخّرًا مشروع قانون يجرِّم المثلية الجنسية في العراق، وأعرب البرلمان عن استعداده لتشريعه، خصوصًا أن قانون العقوبات العراقي الذي أقرّ في عام 1960 لا يجرِّم المثلية الجنسية صراحةً. وكان يتمّ التضييق على مجتمع الميم-عين بالاستناد إلى المادة 8 من قانون مكافحة البغاء الذي عُدِّل في عام 1988، وعرَّف البغاء فيه بأنه "تعاطي الزنا أو اللواطة بأجرٍ مع أكثر من شخص".

لا تنفصل هذه التطوّرات المُهدِّدة لسلامة مجتمع الميم-عين عن انهيار مؤسّسات الدولة بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وما تبعه من محاولات حثيثة وحملات عديدة بقيادة الأحزاب الدينية من أجل تحويل دستور العراق المدني إلى دستورٍ يعتمد كلّيًا على أحكام الشريعة، واستهداف مواد تشريعية تدخل في تحديد العلاقات الجنسية وأحكام الأسرة وغيرها من القضايا التي تعزِّز سيطرة النظام الأبوي على الفئات المستضعَفة في المجتمع، مثل النساء ومجتمع الميم-عين. في الوقت عينه، لا تنفصل هذه التطوّرات عن الأحداث السياسية والمجتمعية في العراق. إذ غالبًا ما تترافق الضجّة التي تُحدثها الجهات الحكومية أو الأحزاب الدينية ضدّ الحقوق الفردية والجنسية مع حملات تصفيةٍ غير مُعلنةٍ على أرض الواقع، وحملات إلكترونية تستهدف شخصيّات معارضة أو تُشيطن الأفكار التي لا تتوافق مع المعايير المجتمعية السائدة. أمّا الهدف الفعلي، فيكون عادةً محاولة التغطية على فشلٍ إداري أو سياسي عبر استثارة الهواجس المجتمعية المحافِظة.

حملات قمع وترهيب

في خلال السنة الأخيرة، شنّت الجيوش الإلكترونية حملةً على فنّانين عراقيّين ممّن عُرفوا بمساندتهم حراك تشرين في عام 2019 ورفضهم الفساد المستشري، واتهمَتهم بتشجيع انتشار المثلية الجنسية.

في بحثٍ بسيط، نجد قنواتٍ على يوتيوب مثل قناة حشداوي - نسبةً إلى الحشد الشعبي1 الذي أصبح مؤسسةً لها إعلامها ودوائرها الخاصة - تعرض فيديوهاتٍ لفنانين/ات عراقيّين/ات مثل المخرج علي فاضل، والممثلة آلاء حسين، وغيرهم ممّن عُرفوا بمشاركتهم أو مساندتهم حراك تشرين، تقتطع فيها مشاهد من لقاءاتٍ أُجريَت معهم تحديدًا في برنامج "جعفر توك" على قناة "دويتشه فيله" الألمانية في عام 2018، يوضحون فيها رؤيتهم للمثلية الجنسية بوصفها من الحريات الشخصية. واشتدّت هذه الحملة في الأشهر الأخيرة، ما اضطر آلاء حسين، بعد تعرّضها لهجومٍ شديدٍ على مواقع التواصل، للاعتذار عمّا أسمَته "سوء الفهم"، معيدةً صياغة ما صرّحَت به في برنامج "جعفر توك" على أنه لم يكن تأييدًا إنما فهمًا خاطئًا منها لمعنى المثلية، وقالت: "في عام 2018، كنتُ أعتقد أن المثليّين هم فقط من يولدون بلا جنسٍ ويختارون جنسهم (...) لم أكن أعرف أنه يوجد أناسٌ طبيعيّون ويختارون شيئًا عكس الطبيعة البشرية". ثمّ أضافَت معلّقةً "أنا ضدّ إن النخل يطلع برتقال"، في إشارةٍ إلى اعتبارها المثلية "ضدّ الطبيعة". 

أمّا المخرج العراقي علي فاضل، فقد ظهر في بودكاست "شي منسي"، الذي يقدّمه السينمائي صلاح منسي. وبعد سؤالٍ بدا كأنه خارج عن سياق الحديث، وربّما بالاتفاق المُسبق معه، تحدّث فاضل لما يقارب 13 دقيقة من أصل 72 دقيقة هي طول الحلقة، عن موقفه الرافض للمثلية. وقال: "لا أرتضيها لنفسي، ولا لعائلتي، ولا للمجتمع الذي أعيش به". ولام جعفر عبد الكريم، مقدّم برنامج "جعفر توك"، على اقتطاعه تصريحات الفنانين بشكلٍ متعمّدٍ من أجل إثارة الجدل من دون التفكير بمصيرهم، خصوصًا أنهم يعيشون في العراق تحت التهديد بالأذى والقتل. واتهمَه أيضًا بامتلاكه "رغبة دفينة بأن يُقتل أحد الفنانين بسبب ما أثاره في لقاءاته معهم من أجل أن يكتسب المزيد من الشهرة والانتشار".

ليسَت المرّة الأولى التي تُطلق فيها حملاتٌ ضدّ مجتمع الميم-عين في العراق، فقد سبقَتها حملاتٌ كثيرةٌ أشدّ عنفًا ودمويةً منذ الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، تعرّض فيها مجتمع الميم-عين للأذى والاستهداف والقتل

والجدير بالذكر، أن ما قاله فاضل ليس بعيدًا عن حقيقة ما يجري في العراق. فقد جاء اللقاء المذكور في برنامج "جعفر توك" بعد فترةٍ قصيرةٍ من وقوع جريمة قتلٍ بشعة استهدفَت الفنان المسرحي كرار نوشي، بسبب الاشتباه بمثليّته بناءً على "مظهره الناعم" وشعره الطويل. وتسبّبت هذه الجريمة بصدمةٍ وحزنٍ كبيرَين في الوسط الفني العراقي، الذي كان الفنان المغدور نوشي عنصرًا فعّالًا ومحبوبًا فيه.

تاريخ من القمع 

هذه، بالتأكيد، ليسَت المرّة الأولى التي تُطلق فيها حملاتٌ ضدّ مجتمع الميم-عين في العراق، فقد سبقَتها حملاتٌ كثيرةٌ أشدّ عنفًا ودمويةً منذ الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، تعرّض فيها مجتمع الميم-عين للأذى والاستهداف والقتل. ولعلّ أكثر تلك الحملات فتكًا كانت الحملة التي أطلقها زعيم التيّار الصدري، مقتدى الصدر في عام 2009، وأسفرَت عن قتل المئات لمجرّد الاشتباه بميولهم الجنسية أو هويّاتهم الجندرية. لم يُسمح حينها بدفن جثث المغدورين، بل تُركت لتتعفّن في مسرح الجريمة مع لافتاتٍ كُتبَت عليها كلمة "شاذ". 

ولم تكن تلك المرّة الوحيدة التي يتعرّض فيها التيّار الصدري لمجتمع الميم-عين، فقد عُرِف عن زعيمه إقحامه المستمرّ للمثلية الجنسية في أيّ مشكلةٍ تحدث في العراق، بما في ذلك تفشّي الأوبئة عالميًا. في الواقع، كتب مقتدى الصدر في تغريدة له بعد انتشار جائحة كورونا: "من أفدح الأمور التي تسبّبت بانتشار هذا الوباء هو تقنين زواج المثليين، ومن هنا أدعو كل الحكومات إلى إلغاء هذا القانون فورًا وبلا توانٍ، فلعلّه سيكون بمثابة الندم على الذنب". أما آخر ما أقُحِمت فيه المثلية، فكان مظاهرات نظّمها أتباع الصدر احتجاجًا على حرق القرآن والعلم العراقي على يد لاجئ عراقي في السويد معروفٍ بتاريخه المليشياوي السابق وطموحاته السياسية، أحرقوا في خلالها علم قوس قزح ورفعوا شعاراتٍ ضدّ المثلية على الرغم من عدم وجود أيّ رابطٍ بينها وبين حادثة حرق القرآن في السويد!

لم يكن التيّار الصدري الوحيد الذي ارتكب جرائم قتل ومارس القمع بحقّ مجتمع الميم-عين، بل شاركَته مليشياتٌ دينيةٌ مختلفةٌ الجرائمَ والممارسات نفسها، ومنها فيلق بدر، وعصائب أهل الحق، وربع الله. 

المسار الرسمي المُعلن

نجد أنّ مجتمع الميم-عين مُهدّدٌ ومُقحمٌ كواجهةٍ لصراعاتٍ سياسيةٍ بين التيّارات والأحزاب المختلفة في العراق. وثمّة ثلاثة مسارات متوازية لهذه الحملات تتطلّب التدقيق فيها:

الأول هو المسار الرسمي المُعلن. أوعزَت "هيئة الاتصالات والإعلام" العراقية إلى وسائل الإعلام في 8 آب/أغسطس الماضي، باستخدام مصطلح "الشذوذ الجنسي" بدلًا من "المثلية الجنسية"، وعدم استخدام مُصطلحَيْ "النوع الاجتماعي" و"الجندر".

مجتمع الميم-عين مُهدّدٌ ومُقحمٌ كواجهةٍ لصراعاتٍ سياسيةٍ بين التيّارات والأحزاب المختلفة في العراق

بعدها بستّة أيامٍ فقط، قام النائب المستقلّ، رائد حمدان المالكي، وهو أيضًا رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي، بإعادة طرح مشروع قرارٍ لتعديل المادة الثامنة من قانون العقوبات التي تتناول "مكافحة البغاء" بحجّة "معالجة النقص التشريعي في مجال تجريم أفعال الشذوذ الجنسي ومن يروِّج لها وفرض عقوبات رادعة على مرتكبها"، وتمّت الموافقة على تقديم المشروع المقترح وإرساله للتصويت النهائي، في 23 آب/أغسطس 2023. قضى الاقتراح بأن تصل عقوبة المثلية إلى السجن المؤبّد أو الإعدام، وعقوبة الترويج للمثلية إلى السجن بما لا يقلّ عن سبع سنواتٍ وتسديد غرامةٍ لا تقلّ عن 10 ملايين ولا تزيد عن 15 مليون دينار عراقي. وفي ما يخصّ العبور الجندري، مُنِع تغيير الجنس البيولوجي بناءً على الرغبات والميول النفسية، واستُثنيَت من ذلك حالات التدخّل الجراحي من أجل معالجة "التشوّهات الخلقية المحدّدة للجنس". وقضَت عقوبة العبور أو الشروع بالعبور بالسجن لمدةٍ لا تقلّ عن سنةٍ واحدةٍ ولا تزيد عن ثلاث. كذلك نصّ مشروع القانون على معاقبة الطبيب/ة الذي/التي أجرى/ت عملية العبور الجنسي "إلّا إذا كانت تلك العملية هي لتعديل عيب خلقي يمكّن الشخص من أن يحدًّد جنسًا واحدًا من دون الآخر".

يعني هذا أن العراق في صدد تجريم المثلية الجنسية والعبور الجندري على نحوٍ صريح، بعد أن كان الأمر ملتبسًا وغير واضحٍ في قانون العقوبات الصادر عام 1960 كما ذكرنا سابقًا. والجدير بالذكر أن مشروع القانون صاحبَته ضجةٌ إعلاميةٌ كبيرةٌ أشادَت به لإضفاء الشرعية عليه ورفده بدعمٍ شعبي يؤول لإقراره، حتى أنّ اللغة المُستخدمة في الإعلام المحلّي أوحَت بأنّ مشروع القانون قد أُقرّ فعلًا.  

حربٌ باردةٌ ضحيّتها مجتمع الميم-عين

المسار الثاني المرتبط مباشرةً بإقرار مشروع القانون هو الحرب الباردة بين زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر وزعماء الإطار التنسيقي الذين تتألّف منهم الحكومة العراقية الحالية.

فاز التيّار الصدري بنحو 73 من أصل 329 مقعدًا في البرلمان العراقي، ليصبح بذلك أكبر كتلةٍ سياسيةٍ في انتخابات عام 2021. لكنّ تحالف الكتل الشيعية المدعومة من إيران ضمن ما سُمّي بالإطار التنسيقي وتعطيلها إمكانية تشكيل حكومة، رافضةً الاعتراف بنتائج الانتخابات ومطالِبةً بإعادتها، دفع بالصدر إلى سحب كلّ نوابه، ربّما تحت الضغط الإيراني، ثم إعلان اعتزاله السياسة بحجّة عدم رغبته في خوض أيّ انتخاباتٍ يشارك فيها "الفاسدون"، معتبرًا انسحابه "تضحيةً من أجل الوطن والشعب لتخليصهما من المصير المجهول."

العراق في صدد تجريم المثلية الجنسية والعبور الجندري على نحوٍ صريح، بعد أن كان الأمر ملتبسًا وغير واضحٍ في قانون العقوبات الصادر عام 1960

ومنذ ذلك الحين، عمد زعيم التيّار الصدري إلى استخدام قاعدته الشعبية الواسعة من أجل استعراض قوّته أمام الإطار التنسيقي، كأنه يقول لهم: لكم سياستكم الفاسدة التي تجعلكم مكروهين في الشارع العراقي، وَلي الكلمة الأخيرة في هذا الشارع. من هنا، تأتي لعبة شدّ الحبال في ما يتعلق بملاحقة مجتمع الميم-عين و تجريم المثلية. ففي 1 كانون الأول/ديسمبر 2022، نظّم مكتب الصدر حملةً لجمع التواقيع لمناهضة مجتمع الميم-عين في العراق. لكنّ بيان الحملة جاء مختلفًا عمّا سبق، إذ دعا الصدر لمناهضة ما أسماه "الشذوذ الجنسي بالطرق الأخلاقية والسياسية والدينية"، وتعهّد بـ"عدم استعمال العنف بشتّى أنواعه ضدهم"، ليتماهى ذلك مع تصريح سابق له في تغريدة نشرها على حسابه في تويتر في 31 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 دعا فيها الى "توعيتهم وهدايتهم (مجتمع الميم) لعدم انجرافهم إلى الشهوات المحرّمة[…] لا بالعنف، ولا بالقتل والتهديد، بل بالتثقيف والتوعية والمنطق والطرق الأخلاقية".

تلَت هذا البيان، بيومٍ واحد، خطبة يوم الجمعة التي طالب فيها الصدر بإلغاء مشروع قانون تجريم المثلية الجنسية الذي كانت اللجنة القانونية في البرلمان العراقي أعلنَت إمكانية إقراره في تموز/يوليو 2022. ردًّا على ذلك، انطلقَت حملاتٌ واسعةٌ على وسائل الإعلام التابعة للإطار التنسيقي2 هاجمَت مصطلحَي "الجندر" و"النوع الاجتماعي" بهدف دغدغة الفكر الجَمعي والعزف على وتر المخاوف الشعبية المعروفة من العبور الجندري والمثلية، وهي مخاوف نابعةٌ أساسًا من التجهيل المتعمّد والتابوهات المفروضة على مسائل الجنس والحرّيات الشخصية في المجتمعات الذكورية.

هكذا، ضربَت القوى الحاكمة المتمثّلة بالإطار التنسيقي عصفورَين بحجرٍ واحد. فمِن جهة، في حال أُقرّ مشروع قانون مناهضة المثلية الجنسية في البرلمان وبدأ تطبيقه، سوف يُعتبر ذلك تحدِّيًا صريحًا لموقف الصدر الأخير الرافض لهذا القانون. ومن جهةٍ أخرى، يعوِّل الإطار التنسيقي، ربّما، على إمكانية إحراج الصدر أمام قاعدته الشعبية في حال استمرّ بمعارضة القانون نظرًا لحساسيّة القضية في أوساط المجتمع العراقي المحافظ والعشائري.

حملاتُ إسكاتٍ خفيّة

أما المسار الثالث والأخير لهذه الحملات، فيتمثّل بحملةٍ غير مُعلنةٍ ضدّ أيّ نشاطٍ مدني وحقوقي، سواء تعلّق بحقوق الأقليات والنازحين والمختطفين والمغيَّبين والمثليّين، أو بضحايا حراك تشرين أو حقوق النساء والأطفال. وفي كلّ ملفٍ من هذه الملفات، يوجد آلاف الحالات - إن لم يكن مئات الآلاف - يتورط بها الكثير من السّاسة بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. وقد يكون ملفّ النساء والأطفال أحد أبلَغ الملفّات تعبيرًا. ففي الوقت الذي تضغط فيه منظّمات حقوق المرأة وحقوق الإنسان منذ سنين من أجل إقرار قانون مناهضة العنف المنزلي، تعارِضه الكتلُ السياسية في البرلمان العراقي وتعرقل إقراره، ولاسيّما حزبَيْ الدعوة والفضيلة الدينيَّين، بحجّة أنه "يتعارض مع قيم الإسلام" و"قد يؤدّي إلى تفكيك الأسرة العراقية".

في الوقت الذي تضغط فيه منظّمات حقوق المرأة وحقوق الإنسان منذ سنين من أجل إقرار قانون مناهضة العنف المنزلي، تعارِضه الكتلُ السياسية في البرلمان العراقي وتعرقل إقراره

وتزداد حالات التعنيف المُسبِّبة للموت في أحيانٍ كثيرة، ويتحوّل بعضها إلى قضايا رأي عام تثير سخط الناس على المنظومة القانونية وانعدام الحماية للضحايا، مثل ما حدث مؤخّرًا في قضية الطفل موسى، الذي عُنِّف وعُذِّب على يد زوجة أبيه حتّى الموت. فقد ثبُت أن الطفل حاول أكثر من مرّةٍ الشكوى والاستنجاد بقوى الأمن والشرطة لحمايته من العنف في منزله، لكنّه قوبل بحلولٍ باهتةٍ قضَت بإعادته إلى أسرته وأخذ تعهّدٍ منها بعدم تعنيفه مجدّدًا! وربّما تكون هذه مأساة معظم ضحايا العنف المنزلي في العراق.  فقد خلق السياسيّون الفاسدون مناخًا مناسبًا جدًا لهم لاستغلال كل ما يمكن استغلاله، سواء كان ذلك عبر الاتجار بالدين أو "بالقيم الأخلاقية للمجتمع" من أجل تمرير فسادهم و ضمان عدم المساءلة. وتسبّب تراكم الإهمال المتعمّد والفساد الى إنهيار مؤسسات الدولة ومن ضمنها منظومة القضاء وتطبيق القانون، ما أدى إلى سيطرة العشائر التي تعتمد عُرف "الفصل/الدية"  في حلّ النزاعات كبديلٍ يلتجأ إليه الناس لضمان الحماية. ويتمّ ذلك عبر دفع مبلغٍ مادي لشيخ العشيرة عن كل "رأس"/فرد من أفراد الأسرة. لكنّ هذا يعني أيضًا الخضوع للفكر القبَلي الرجعيّ الذي يعتمد في الأساس على تسلّط النظام الذكوري، وبالتالي على فكرة "ستر الفضيحة" التي عادةً ما يختبئ خلفها المجرمُ ليُداري جريمته. ويُضاف إلى هذا، الفكر الديني الذي أتَت به الأحزاب الطائفية الحاكمة التي قدّمَت نفسها حاميةً للدّين و"العرض"- الذي يتعلق عادةً بأجساد النساء، وبالطبع مجتمع الميم عين أيضًا.

تصفية الأصوات الرافضة

في ظلّ عجز السلطات الحاكمة عن معالجة انتشار حالات العنف القاتل التي تحرجها أمام الرأي العام، ارتأَت القوى السياسية إطلاق حملةٍ تُدار بالخفاء من أجل إسكات الناشطين والناشطات في المجال الحقوقي وتصفيتهم/ن بشتّى الطرق المتاحة، سواء عبر التهديد الشخصي بالأذى والقتل، أو الملاحقة القانونية بموجب تُهمٍ كيديةٍ من بينها الإتجار بالبشر، باعتبار أنهم/ن يساعدون/يساعدن الضحايا والناجيات/ين أحيانًا على الهرب من معنّفيهم/ن أو مُستغلّيهم/ن جنسيًا، ويوفّرون ملاجئ سرّيةً لهم/ن. وأدّت هذه الملاحقات والتّهم إلى فرار كثيرٍ من النشطاء إلى خارج العراق هربًا من التهديد بالتصفية والسجن.3

من هنا، تُعدّ حملات شيطنة مصطلح "الجندر"، ومساعي تجريم المثلية قانونًا، وخطَب المنابر الدينية التي تتناول قضايا النساء ومجتمع الميم-عين، مجرّد محاولاتٍ للتغطية على تورّط السلطات السياسية في كثيرٍ من قضايا الفساد والتقصير والعجز عن تأمين بديهيّات العيش وضمان حقوق المواطن/ة العراقي/ة. وتستغلّ هذه البُنى الاجتماعية الضجّة المُثارة حاليًا في الإعلام الأميركي والآراء اليمينيّة المحافظة المعادية لمجتمع الميم-عين، وتستخدم أسلوب التخويف معوِّلةً على خوف المجتمع العراقي وحساسيّته المفرطة عمومًا تجاه المثلية والعبور، فتصوّرها "مرضًا" يمكن انتقاله بالعدوى أو "اختيارًا" ناتجًا عن "انحرافٍ فكري" خارجٍ عن "الطبيعة البشرية".

تُعدّ حملات شيطنة مصطلح "الجندر"، ومساعي تجريم المثلية قانونًا، وخطَب المنابر الدينية التي تتناول قضايا النساء ومجتمع الميم-عين، مجرّد محاولاتٍ للتغطية على تورّط السلطات السياسية في كثيرٍ من قضايا الفساد والتقصير والعجز عن تأمين بديهيّات العيش وضمان حقوق المواطن/ة العراقي/ة

ولسخرية القدر، فإنّ القوى السياسية والبُنى الاجتماعية الطائفية في العراق تحارب فئةً من البشر غير منظّمة، ولا تملك أيّ تأثيرٍ مجتمعي، ولا تربطها أيّ صلةٍ بواقع وسياق مجتمع الميم-عين في الولايات المتّحدة. بل إنّ هذه الفئة تعاني في الحقيقة من متاجرة الإعلام الغربي بقضاياها، ونسوق على ذلك مثال برنامج "جعفر توك" ومقاربته الاستثارية لمسألة المثلية، وكذلك قيام البعثة الأوروبية برفع علم قوس قزحٍ على مبناها في العراق احتفالًا بيوم الفخر من دون أيّ اعتبارٍ لِما قد تستثيره هذه الممارسات من ردّات فعلٍ تنعكس تنكيلًا بأفراد مجتمع الميم-عين وملاحقتهم وحتى قتلهم، في بلدٍ تنعدم فيه أطُر الحماية القانونية والمجتمعية. هكذا، يُستخدَم مجتمع الميم-عين شمّاعةً لتبرير الفساد المستشري سياسيًا واجتماعيًا، ويُجعَل أفراده وحلفاؤهم/ن عبرةً لكلّ من تسوّل له نفسه الاعتراض على الفوضى التي تعتاش منها القوى السياسية الحاكمة في العراق.

 

 

  • 1. تأسّس الحشد الشعبي تلبيةً لفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيد علي السيستاني، وهو المرجع الديني الشيعي الأعلى في البلاد، داعيًا أتباعه ومقلّديه في العراق فقط، إلى التطوع لقتال تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي في البلاد. وأقرّ مجلس النواب العراقي تشكيل هيئة الحشد الشعبي في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بعد أن أصدر نوري المالكي، رئيس الوزراء آنذاك أوامر بتشكيله. وتفرّع الحشد بعد ذلك إلى فرقٍ عدّة ذات طابعٍ ديني، البعض منها يتبع الحوزة الدينية في النجف، والآخر يوالي الأحزاب والتنظيمات الشيعية المختلفة، بالإضافة إلى مجموعاتٍ سنّيةٍ وتركمانيةٍ مسيحيةٍ وكردية.
  • 2. من الجدير بالذكر أن زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، كان قد هاجم مجتمع الميم-عين وحرض عليهم بشكل صريح، في خطابه الذي جاء في أواخر تموز/يوليو وبمناسبة اليوم الخامس من محرم. أدت تداعيات هذا الخطاب إلى اعتداءات مختلفة على مجتمع الميم-عين في لبنان، حتى من قبل فصائل دينية معارضة لحزب الله، لكنها ربما إختارت المزايدة عليه بحجة "حماية قيم المجتمع والدين/الأديان". ما يحدث في العراق ليس ببعيد عن هذا، على اعتبار أن نصر الله هو ممثل للنظام الإيراني في الدول الناطقة بالعربية بعد مقتل قاسم سليماني في العراق. فتزامن الحملتين في البلدين، ومن جهات سياسية معروف صلتها المباشرة بالنظام الإيراني، يعد مؤشرًا كبيرًا على أن النظام الإيراني هو الداعم لهذه الحملات في المنطقة. لكن ذلك لا يلغي أن هذه الحملات ليست بالجديدة وإنما تتكرر بين الحين والآخر بحجج وطرق مختلفة وغالبًا ما يتم استغلالها سياسيًا.
  • 3. لا يمكن ذكر أسماء أو شهادات الناشطات والنشطاء حرصًا على حياتهم/ن وسلامتهم/ن، فما زال معظمهم/ن يعيش في مناطق وبلدانٍ قد تطالهم/ن فيها التصفية الجسدية والأذى.