إنهاء الحمل الاختياري: عندما استعدتُ السيطرة على حياتي

06/06/2022
1249 كلمة

الإجهاض مصطلحٌ خاطئ، فالحَمل من دون رغبةٍ يُعدّ إجهاضًا لحياة المرأة أحيانًا، وقد يكون التخلّص منه فرصةً جديدةً لها. هناك نساءٌ يعتبرنه أمرًا مُسلّمًا به ونتيجةً حتميةً لتصنيفهنّ البيولوجي. أمّا أنا، فعندما علمتُ بحملي، أحسستُ بورمٍ في داخلي يتغذّى على لحمي ودمي ويجب استئصاله. 

بدأ الأمر في عطلةٍ قصيرةٍ كنتُ أقضيها في بلدي المغرب. جاء موعد دورتي الشهرية لكنّ سمائي لم تمطر سوى ترابًا. مرّت أيامٌ عدّةٌ بلا مُستجدٍّ سوى ألمٍ طفيفٍ وأرق. انتابني الشكّ، وبدأتُ وزوجي نعيد شريط لحظاتنا الحميمة من دون أن نجد ما يدعم فرضية الحمل. عندها قرّرتُ قطع الشكّ باليقين وزيارة طبيبةٍ متخصّصة. هناك، حلّت بي الصدمةُ حين أخبرَتني أنني حاملٌ في الشهر الأول.

كيف حصل ذلك؟ لا أعلم… كلانا لا يعلم.

"لماذا؟"، كان السؤال الأوّل الذي طرحَته الطبيبة عندما أخبرتُها بعدم رغبتي بالاحتفاظ بالمضغة. 

لكن لماذا تتساءل؟ هذا جسدي، هذه حياتي، وأحدٌ لن يتحمّل عواقب هذا الخيار سواي. هذه كانت الإجابة التي وددتُ قولها، لكنّني حاولتُ التبرير: ظروفنا المادية غير مستقرّة، ولا أشعر أنني ناضجةٌ كفايةً للاعتناء بطفل.

ردّت الطبيبة: "إنها أعذارٌ واهية!"

أخال أنها الجملة المُعتادة التي تقولها لكلّ من هنّ في حالتي كي تستبق طلب مساعدتها. 

القانون الجنائي المغربي يعاقب المرأة المُجهِضة لسببٍ غير قانوني بالسجن والغرامة، كما يعاقب من ساعدها في الإجهاض

ما إن أنهَت الطبيبة الفحص حتّى عادت إلى مكتبها وعلامات التوتر باديةٌ عليها. كان واضحًا أنها لا تريد التورّط، خصوصًا أن القانون الجنائي المغربي يعاقب المرأة المُجهِضة لسببٍ غير قانوني بالسجن والغرامة، كما يعاقب من ساعدها في الإجهاض، وقد تصل عقوبة ذلك إلى الحرمان من ممارسة المهنة.

ارتديتُ ملابسي قائلة: "أنا أعلم أنّ القانون يجرِّم الإجهاض، ولستُ أطلب منك أيّ وصفةٍ طبّية. كلّ ما أريده هو أن أحصل على المعلومات الكاملة كي أعرف ما ينتظرني".

عندها لم تعُد أعذاري واهية، وأجابَت على أسئلتي.

بالنسبة إلى القانون المغربي، أنا مجرمةٌ لأنني لا أملك حقّ تقرير مصير جسدي وحياتي. كنت مُهدَّدةً بالسجن من شهرٍ إلى سنة، ودفع غرامةٍ ماليةٍ تصل إلى 500 درهمٍ (حوالي 48 يورو) في حال أجهضتُ من دون وجود مانعٍ يبيحه القانون مثل التعرّض للاغتصاب، أو زنا المحارم، أو الإصابة بالجنون. عدا عن ذلك، لم أكن لأجد طبيبةً أو طبيبًا يجري لي عملية الإجهاض بسهولة، لأن الأمر يتطلّب شبكةً من العلاقات والصداقات التي لم أكن أملكها، في حين أنّ العمليات التي تُجرى سرًّا تكون خطيرةً ومُكلفة (قد تكلّف نحو 1400 يورو).

شعرتُ أنّي أعيش كابوسًا. في داخلي، كنتُ لا أزال تلك الطفلة التي لم ترَ شيئًا من الدنيا. أرعبَتني فكرة مصادرة حرّيتي من طفلٍ لم أختَر إنجابه، ولم يختر هو أو هي القدوم إلى هذا العالم. ارتعشتُ ولم تعُد قدماي تقويان على حملي. اختبرتُ للمرّة الأولى المعنى الفعليّ لأن يكون عقل الإنسان مشدوهًا. فقدتُ الرغبة في كلّ ما أحبّ، مثل الأكل، والموسيقى، والرقص. لا أعلم يومها كيف تمكنتُ من إيقاف سيارة أجرةٍ والعودة إلى منزلي.

المقرّبون منّي كانوا يرفضون أيّ سببٍ للإجهاض طالما أنّني متزوجة، بل على العكس، كانوا يعتبرون إنجاب طفلٍ أمرًا مفروغًا منه؛ فالطفل سوف يعيلُني عندما أشيخ

نعيش أنا وزوجي من دون وظائف ثابتة. أوضاعنا صعبة. نحيا يومًا بيومٍ ولا نعلم أين سنكون غدًا وفي أيّ ظروف. لا نعلم كيف سنتدبّر بدل إيجار الشهر المقبل. عدا عن ذلك، أرغب بالسفر والخروج مع أصدقائي من دون أن أكون "جارًّا ومجرورًا". كان قرار إنهاء الحمل مفروغًا منه بالنسبة لي، لأنني لم أُرِد أن أندم على خيارٍ فُرِض عليّ فرضًا.

قال لي زوجي يومذاك: "لن تجهضي، أنا أرغب في طفلٍ أرعاه قبل أن أشيخ وأعجز… الأطفال يأتون برزقهم".

كان واضحًا أن أيّ نقاشٍ منطقي لم يكن واردًا بتاتًا. فعلى الرغم من أنّني اخترتُ زوجًا ذكيًا ومُنفتحًا، إلّا أنه لا يختلف في هذه النقطة عن المجتمع المحيط الذي يرى في تحكّم الرجل بحياة المرأة اكتمالًا لفحولته: عندما يريد شيئًا، ينبغي على المرأة أن تنصاع حتى لو لم يكن لديه أيّ حججٍ منطقية. فهمتُ أنّ عليّ تدبّر أمري بمفردي، خصوصًا بعد أن تخلّى أقرب الأشخاص لي عن دعمي نفسيًا، في حين لم ينتظِرني من الباقين سوى الإحباط والمحاكمات الأخلاقية. فالمقرّبون منّي كانوا يرفضون أيّ سببٍ للإجهاض طالما أنّني متزوجة، بل على العكس، كانوا يعتبرون إنجاب طفلٍ أمرًا مفروغًا منه؛ فالطفل سوف يعيلُني عندما أشيخ، لذا يجب أن أحتفظ بالحمل لأنّ العدّ العكسيّ لساعتي البيولوجية بدأ!

بعد يومَين، عدتُ إلى إيطاليا حيث أقيم، وطرقتُ أبواب المؤسّسة الصحّية بمفردي، قبل انقضاء مهلة التسعين يومًا من الحمل التي يجيزها القانون الإيطالي للإجهاض. 

أتيتُ من المغرب محمّلةً بمخاوفي. كتبتُ رسالةً إلكترونيّةً لطبيب العائلة الذي وجّهني مباشرةً إلى مكتب تنظيم الأسرة. في الطريق، رتّبتُ مبرّراتي ردًّا على أيّ اعتراض. لكن لمفاجأتي، لم يسَلني أحدٌ عن أسباب قراري لأنّ القانون يمنع إبداء أيّ تعليقٍ من شأنه عرقلة عمليّة الإجهاض.

لم يرافقني زوجي، بل استمرّ بالشكوى والإلحاح كي أحتفظ بالحمل مدّعيًا أنّها روحٌ منحنا إيّاها الله، وليس من حقّنا إزهاقها. 

زوجي ليس متديّنًا، لكنّه كان مستعدًّا لاستعمال أيّ حجّةٍ متاحةٍ للوصول إلى مراده وفرض رأيه عليّ.

قلتُ له: "أليسَ من الأولى أن أحافظ على روحي أوّلًا؟"

أجابني: "سَلي الطبيبة في المغرب عن رأيها في زوجةٍ تودّ أن تجهض من دون موافقة زوجها".

لم يكن ثمّة فائدة من الحديث معه، فهو لم يكن يناقشني، بل كان يبتزّني عاطفيًا ويضغط عليّ نفسيًا عبر تجاهلي والابتعاد عني كلّما احتجَجت. كنتُ مصدومةً بتبنّيه سلطة القيم والتقاليد فجأةً بعد أن كان يرفضها. بدأتُ أفكّر جدّيًا في إنهاء حياتي في حال استمرّ في التصعيد، لأنّي لم أعد أرى أيّ جدوى في إكمالها ملزمةً بواجبات الأمومة التي أراد فرضَها عليّ. شعرتُ أنّي لم أكُن مهمّةً لِذاتي، بل لكَوني مجرّد وسيلةٍ له لتحقيق حلمه بالأبوّة.

رأيتُ فتياتٍ يقبضن على بطونهنّ، كم هو مخيفٌ أن تَرَي مسبقًا الوجع الذي ينتظرك. من يدري ما قصصهنّ؟ كم من الدمع ذرفن؟ ما الذي فقدنَه فعلًا؟

أخيرًا، حلّ موعد تناول الجرعة الأولى من عقار التخلّص من الحمل. في ذلك الصباح، كنّ ثماني فتيات ننتظر دورنا، غالبيتنا في العشرينات من العمر. خَبِرتُ يومها فعليًا الفرقَ بين الذكر والأنثى، وكم أنّ الرجال محظوظون بألّا يمرّوا في تلك التجربة. انتظرنا ساعتَين في صمتٍ مُطبق، كلٌّ منّا متقوقعةٌ على نفسها ورأسها محشورٌ في هاتفها لتجنّب أي حديث، أو أسئلة، أو أحكامٍ موجعة؛ على عكس جناح الحوامل الذي زرتُه لإجراء فحصٍ روتيني للرحم، حيث كانت النساء يتحدّثن ويتبادلن التجارب.

رأيتُ فتياتٍ يقبضن على بطونهنّ، كم هو مخيفٌ أن تَرَي مسبقًا الوجع الذي ينتظرك. من يدري ما قصصهنّ؟ كم من الدمع ذرفن؟ ما الذي فقدنَه فعلًا؟ بالطبع يمكننا اللجوء إلى المساعِدة النفسية بحسب ورقة المعلومات التي أعطَتني إيّاها الممرّضة. لكن كل تلك الخسارات لن يشعر بها أحدٌ سوانا.

كانت زميلتي في الغرفة من البيرو وتبلغ من العمر 29 عامًا. ما إن تبادلنا كلمتَين حتّى شرعَت تبرّر قرارها من دون أيّ سؤالٍ مني. مع ذلك، منحتُها الفرصة لتعبّر عمّا بداخلها، على الرغم من أنّي لم أكن أحسن حالًا منها. تفهّمتُها، ففي تلك الحالة نكون في أشدّ الحاجة لمَن نفرغ أمامه دواخلنا، كما أنّي كنتُ أكثر تماسكًا منها، ولم أكن أشعر بتأنيب الضمير.

هل من الأنانية التفكير في كائنٍ غير موجود، كنتُ أنا لأكون السبب في وجوده؟ أليسَت الأنانية أن أنجب طفلًا وأكون السبب في عذابه من دون مراعاة إمكاناتي في توفير حياةٍ مناسبةٍ له؟

لم يحدّثنا الطاقمُ الطبي كثيرًا، لكنّي حصلتُ على كلّ المعلومات من المنشورات التي وضعوها في متناولنا. حتى حبوب الإجهاض قدّموها لنا من دون ذكر اسمها، كأنّ من المُفترض بنا منحهم ثقةً مطلقة.

على الرغم من انعدام التعاطف أو حتى الابتسام، كانت الممرّضات في غاية المهنية. ومع أنّ الجوّ العام في الجناح يعطي انطباعًا بأنّ المكان موصوم، عاملَني الطاقم المسؤول باحترافية، وتخلّصتُ من الحمل في ظروفٍ تحفظ كرامتي وصحّتي، ومن دون أن أدفع يورو واحدًا. أدركتُ يومذاك أنّني، في المغرب، كنتُ في سجنٍ خارج السجن.

في اليوم التالي، بعد مخاضٍ دام نهارًا بكامله ولم تفلح في تسكينه مهدّئات الألم، قذفتُ خارج جسمي كتلةً من الدم المتجمّد. أخيرًا، انتهى الألم وبدأَت الأسئلة: هل من الأنانية التفكير في كائنٍ غير موجود، كنتُ أنا لأكون السبب في وجوده؟ أليسَت الأنانية أن أنجب طفلًا وأكون السبب في عذابه من دون مراعاة إمكاناتي في توفير حياةٍ مناسبةٍ له؟ هل أنا لا أرغب بالإنجاب إطلاقًا؟ هل سوف أندم بعد سنواتٍ على هذا القرار؟ 

لا أملك الإجابات حاليًا، لكنّني جسديًا ونفسيًا، أشعر أنّني أخفّ حِملًا.