بدأَت قصّتي مع الدورة الشهرية قبل أن تبدأ الدورةُ نفسها.
في سنّ الحادية عشرة، لاحظتُ بعض التغيّرات التي بدأَت تظهر على جسمي، من نمو ثدييّ و الشّعر في مختلف أنحاء جسدي إلى بروز بثورٍ على وجهي لطالما سبَّبت لي الإحراج أمام الفتى الذي كنتُ مُعجبةً به في المدرسة الابتدائية.
في الوقت نفسه، بدأتُ أنتبه إلى فوطٍ غريبةٍ في أغلفةٍ ورديةٍ تضعها أمّي وأخواتي الثلاث اللواتي يكبرنني في كيسٍ داكنٍ مُعلّقٍ في الحمّام.
سألتُ أمي مرّةً عن تلك الفوط وماهيّتها، فقالَت لي بمنتهى الجديّة إنها تستعملها لمسح جبينها. استغربتُ ردّها كثيرًا في حينها، وتساءلتُ في نفسي: لماذا لا تستعمل المنشفة أو المناديل الورقية لفعل ذلك؟ لكنّني لم أطرح المزيد من الأسئلة. عندما شاركتُها هذه الذكرى مؤخّرًا، ضحكَت كثيرًا وقالَت إنها لا تذكر قول ذلك إطلاقًا. كان ردّها مبتكرًا بالفعل، رغم عدم منطقية التستّر على حقيقة استعمال الفوط أمام فتاةٍ على وشك البلوغ، كأنّه سرٌّ من أسرار الدولة.
في تلك الفترة أيضًا، عثرتُ في خزانة أختي على مقلمةٍ ملوّنةٍ تحمل شعار شركة «أولويز» التي كنتُ أشاهد إعلاناتها على التلفاز، من دون أن أفهم ماهيّة ذلك السائل الأزرق الذي يظهر في الإعلان. فتحتُ المقلمة مرةً فوجدتُ فيها كتيّبًا عن مرحلة البلوغ، وصرتُ أسترق مطالعته قبل الاستحواذ عليه وقراءته مرارًا وتكرارًا سرًّا في فراشي حتى حفظتُه. منحَني سريري العلوي بعضًا من الخصوصية للقراءة عن التغيّرات التي كانت تحدث لجسدي اليافع ومحاولة فهمها.
هكذا تعلّمتُ كلّ ما يلزم عن مرحلة البلوغ، وصرتُ أترقّب بداية دورتي الشهرية، واكتشاف تحوّلات جسدي، والوقت الذي سأصبح فيه «صبيّة» أو امرأةً قادرةً على الإنجاب.
عبّرتُ لاحقًا لأمّي عن درايتي بأمور الدورة الشهرية، فحاولَت التخفيف من حماستي، وأخبرَتني للمرة الأولى عن التغيّرات المرتقبة في جسدي، مشيرةً إلى أنها ليسَت بتلك الروعة، بل هي مرفقة بالآلام والإحراج، ونصحَتني بألّا أفكر بالأمر في تلك السّن المبكرة؛ لكنّ الدورةَ أتَتني سريعًا.
قبل شهرَين من إتمامي سنّ الثانية عشرة، بلغتُ. ولليوم، مع كلّ مداخلةٍ مُجهّلةٍ أو غير مُجهّلةٍ أقرأها على صفحات الإنترنت عن نساءٍ دخَلن الحمّام ذات يومٍ في مراهقتهنّ، وخِفن من مشهد دماءٍ تلطّخ سراويلهنّ الداخلية، أحمدُ ربّي على امتلاك الحشرية للاطلاع على المعلومات التي كنتُ بحاجةٍ لمعرفتها عن الدورة الشهرية قبل أن تأتيني.
كان سنّ الثانية عشرة بارزًا في حياتي. فعدا عن بلوغي، واكتشافي خجلي وانطوائي، وملء وقتي بحياكة لوحاتٍ من خيوط الصوف، كان ذلك آخر صيفٍ أقضيه وعائلتي في إحدى قرى جبل لبنان الهادئة، قبل أن نترك ذلك المنزل لنقضي بعد ذلك جميع فصول السّنة في بيروت.
أتَت الدورة ومعها عناصر لم أكن أتوقّع أنها ستعرقل حياتي؛ من الآلام الحادّة إلى الغثيان والتقيّؤ الذي أعادَني مرارًا من المدرسة، ولاحقًا من الجامعة، إلى منزلنا الذي يبعد مسافة أربعين دقيقة عن بيروت.
قضيتُ سنواتٍ أكره دورتي الشهرية وأدعو أن تمضي أيامها الأولى من دون آلامٍ وإحراج. كرهتُها لدرجة أنّي بتّ أستخدم شتيمةً سوقيةً لوصفِها كلّما تحدّثتُ عنها. وفي إحدى المرّات، أخبرتُ أمي عن كرهي لدورتي، فردَّت قائلة: "ما تكرهيها. احمدي ربّك لأنك من دونها ما بتسوي شي!".
تحوّلَت الإبر السميكة التي كنتُ أستخدمها لصنع لوحاتي الملوّنة من خيوط الصوف، إلى أسلاك شائكةٍ تلتفّ حول جسدي وأنوثتي وتُشعرني بصعوبة وثقل القواعد المُلزمة لي كفتاةٍ في مجتمعٍ محافظ. لم تبدأ شفرات الأسلاك تصغر وتتفكّك إلا قبل سنتَين، عندما بدأتُ أتابع صفحاتٍ على إنستغرام تنشر الوعي بصحّة النساء الجنسية والإنجابية، وطبيعة أجسادهنّ، وضرورة متابعة صحّتهن وإجراء الكشوفات الدّورية اللازمة. عندها فقط تنبّهتُ لحقيقة أنّ أمي لم تصحَبني يومًا إلى طبيب/ة نسائي/ة.
كان تصفّحي الإنترنت وزيادة معرفتي بجسدي أمرًا منعشًا كلمسةٍ فنيّةٍ ملوّنةٍ ومزركشةٍ تُعيد كتابة علاقتي بدورتي، فعدتُ بذهني تلك الفتاة المراهقة التي تتسلّل وراء شاشة هاتفها الخاصّ، مع فارق أنني الآن أتابع الصفحات التي تعجبني بحرّية، وأحصل على المعلومات التي تناسبني من المصادر التي تهمّني. هكذا تعرّفتُ إلى صفحة مبادرة "جايتنا" وتابعتُها لإعجابي باهتمامها بقضيّة فقر الدورة الشهرية في لبنان، ربما لإحساسي الشخصي بافتقاري إلى المعلومات الكافية عن جسدي وعن أجساد النساء، في منطقةٍ جغرافيّةٍ تكبت أنوثة نسائها وحرّياتهن بشتّى الطّرُق والدّرجات.
شاركتُ في أنشطة المبادرة، وحصلتُ على منتجات حيضٍ جديدةٍ ومجّانيةٍ لأجرّبها، ومنها السراويل الداخلية المخصّصة للحيض التي خفّفَت عنّي اقتصاديًا في خضمّ ظروف البلاد الصعبة، كما أراحَتني جسديًا بعد أن تخلّصتُ من الفوط الصحّية ذات الاستعمال الواحد، والتي كانت تضايقني بتحرّكها في سروالي الداخلي وبارتفاع أسعارها الجنوني.
وعلى الرغم من الاعتراضات والانتقادات التي تعرّضتُ لها، ولاسيّما من أمي التي رأَت في استخدامي تلك السراويل أمرًا مقرفًا واعتبرَت أنّي لن أتمكن من المواظبة على غسلها، تمسّكتُ بحرّيتي في اختيار ما يناسب جسدي! مرّت شهورٌ وأنا فخورةٌ بخياري، لا للفائدة الاقتصادية والصحّية التي كنتُ أجنيها فحسب، وإنما لمساهمتي في التخفيف من إنتاج النفايات وتقليص الضغط الذي ينهك بيئتنا، وهو أمرٌ في غاية الأهمية بالنسبة لي.
دفعَني هذا التغيير إلى خطوةٍ أخرى: حجز موعدٍ لدى طبيبةٍ نسائيةٍ اخترتُها بنفسي لإجراء فحصٍ نسائي للمرة الأولى، كي أطمئنّ إلى صحّتي وأستفسر عمّا إذا كانت آلامي الحادّة أمرٌ طبيعيّ أم نتيجة مرضٍ جهلتُه طيلة السنين الماضية. قصدتُ العيادة، والحمد لله! طمأنَتني الطبيبةُ إلى أنّ صحّتي ممتازة. فرحتُ عندما تأكّدتُ من سلامتي، لكن انتابني حزنٌ لمعرفة أنّ عليّ التعايش مع آلام دورتي التي لا حلّ لها سوى بالمسكّنات. مع ذلك، تعلّمتُ أن بإمكاني تناول المسكّن فورًا عند بدء الأوجاع لمنعها من التفاقم، وهو المسكّن نفسه الذي لطالما حذّرَتني منه أمّي بذريعة الحفاظ على سلامة كليتيّ. وكان هذا ما حصل. صرتُ أتناول المسكّن فتسكُن أوجاعي وأكمل نهاري وأعمالي بشكلٍ طبيعي، وأفكّر بكلّ تلك السنوات التي قضيتُها تحت رحمة الألم والغثيان في حين كان بإمكاني تجنّب ذلك!
منذ ذلك الوقت، بدأتُ أحبّ دورتي وأُعجب حتى بلون الدم الأحمر الدافئ وجمال الأشكال التي يرسمها عند اختلاطه بمياه الصنبور كلّما غسلتُ سراويل الحيض خاصّتي. أبني حاليًا علاقةً وطيدةً مع دورتي، وبتّ أدرك أنّها أكثر من دماءٍ تسيل لأيامٍ عدّةٍ شهريًا. إنها جزءٌ من كياني، ولها دورٌ في تقلّب مزاجي وقوّتي الجسدية والكثير ممّا ساهم في جَعلي المرأة ذات الستّ وعشرين ربيعًا التي أنا عليها اليوم. أتابعها بدقّةٍ وأخطّط أنشطتي وأترقّب تقلّبات مزاجي وفقًا لدورتها.
لا أعتب على أمي إطلاقًا، بل أدرك أن أفكارها موروثةً من كونها نشأَت في أسرةٍ مع ثلاثة صبيان، وعجزَت عن إكمال تعليمها والحصول على التمكين والدعم اللازمَين لكي تتسلّح بالمعرفة الوافية عن جسدها. أشكرها، وأقدّر جهودها، فهي تدفعني لأن أكمل تثقيف نفسي وأكسر حلقة الجهل بأجسادنا كنساءٍ عربيّات.
لطالما أحببتُ منظر غروب الشمس وإحساس السكينة الذي يصاحبه، وخلبَني جمالُه الذي يبشّر بيومٍ أفضل بعد نهاية كل يوم، حزينًا كان أم سعيدًا. أستطيع القول بثقةٍ إنني الآن في تلك المرحلة الجميلة والهادئة مع دورتي، تمامًا مثل وقت غروب الشمس. أحبّ أنوثتي، وأهتمّ بصحّتي وصِباي، وأعتني بهما من أجل نفسي أوّلًا.
ملاحظة: هذا النص جزء من سلسلة مواد عن تجارب الأشخاص الذين واللواتي يحِضن بعنوان "إجت ومعها قصة". تتألّف السلسلة من مواد تم إنتاجها في خلال ورشة إبداعية بعنوان "نروي قصصنا مع الدورة الشهرية"، نظمتها مؤسسة "جيم" ومبادرة "جييتنا" في تموز/يوليو 2023 في لبنان، بالإضافة إلى مواد مستكتبة. تم تمويل الورشة وإنتاج المواد من قبل برنامج "نحن نقود"، وهو برنامج مدته خمس سنوات ممول من وزارة الخارجية الهولندية.
إضافة تعليق جديد