تربط الفيلسوفة والمنظرة النقدية نانسي فريزر بين البروز المتزايد للهويات الجماعية ونهاية الحرب الباردة وبداية عصر "ما بعد الاشتراكية"، في ما يتعلّق باستبدال المصالح الطبقية1 . وجاء قطاع التنمية الاجتماعية الاقتصادية هذا عقب تحوّلٍ موازٍ "شُيّدت منارته"2 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين، خدم كإطارٍ أعاد تعريف العلاقات العالمية إلى حدٍّ كبير. في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عزا ناشطون/ات اجتماعيون/ات وعاملون/ات ميدانيون/ت انخرطوا/ن في قطاع التنمية فشل المشاريع المبكرة إلى استخدام نُهُج تراتبية3 . نتيجةً لذلك، ولأن إشراك السكان المحليين/ات كان أقلّ تكلفة، فقد ازداد اهتمام التنمية بالآليات التشاركية، فأصبحت الحركات الاجتماعية وقطاع التنمية مترابطة في ما بينها في علاقة تأثير متبادل ومستمر ولو بشكل غير متساوٍ، بحيث حافظ قطاع التنمية على جزء كبير من سلطته، وإن بدا وكأنه تنازل عن جزء منها.
وفي إطار هذه الدينامية الثنائية، ساهم قطاع التنمية4 في ترسيخ السياسة القائمة على الهوية بفعل توجيهه لكيفية مشاركة الأطراف المعنيّة، وتوزيعه التمويل، وتصوره السياسات والبرامج والمستفيدين/المستفيدات. يثمّن عالم التنمية التطبيق العملي. فهو يتطلّب مستوىً من الوضوح وقابليةً للقياس من شأنهما أن يحوّلا التجارب التقاطعية المعقّدة، والتي تقع على سلسلةٍ متصلةٍ بعضها ببعض، إلى تسميات مقروءة وحاسمة. ومع الوقت، تم تبسيط تجارب العبور الجندري والإعاقة وجزّها ضمن تصنيفات صلبة لفئات الهوية مثل "العابرين/العابرات جندريًا" و"ذوي/ات الإعاقة"5 .
وفي حين أن المقاربات للتنظيم المجتمعي القائمة على الهوية تقدّم بعض المزايا مثل بناء المجتمع والتدخلات المركّزة، لديها تقييدات ملحوظة. أولًا، كثيرًا ما يواجه التنظيم القائم على الهوية تعسّفا6 لناحية تقسيمه للفئات، ما قد يؤدي إلى استبعاد وقمع وتمييز (جوهري، قومي، وما إلى ذلك). ومن خلال الإصرار على فئات الهوية وإعادة إنتاجها، يساهم هذا النهج في استثناء النضالات التي ينبغي فهمها على أنها مترابطة وتجارب يتشاركها الأفراد بغض النظر عن اختلافاتهم/ن. كما أنه يعزز فكرة أن فئات الهوية هي جماعات متجانسة، في حين أنها ليست كذلك. ثانيًا، من الممكن أن تُنتج هذه المقاربة تفكّكًا يساهم في عزل الأفراد عن بعضهم البعض، فتصبح المجموعات أكثر ضيقًا وتحديدًا. ويمكن لهذه الرؤية الضيقة أن تقوّض العمل الجماعي، وتنتج منظورًا تبسيطيًا للقضايا المعقدة، وتحدّ بشكل كبير من إمكانيات التنظيم عبر الحركات، بما في ذلك توفير الموارد، والتبادل، والتضامن. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي التجزئة المفرطة إلى التنافس على الموارد وعلى الاعتراف بهذه الفئات. وحتى في المحاولات الرامية إلى إنشاء تصنيفات شاملة أو متقاطعة لفئات الهوية، تظل الهويات في عالم التنمية بمثابة مربعات مستقلة يجب وضع علامات عليها، وبالتالي تعزّز التصنيفات الفرعية (ولو وسط اعترافٍ بأنها لا تستبعد بعضها بعضًا). وأخيرًا، تساهم هذه الممارسات في خطاب يفهم الهوية على أنها ثابتة وواضحة ومحددة جيدًا. أما بالنسبة لتصنيف "الفئات المهمشة" على وجه الخصوص، فإنه يعيد إنتاج الفئات المدرجة تحته على أنها "مهمشة" أو "عاجزة" أو "تابعة" أو "محتاجة".
بوصفنا نشطاء وناشطات ومنظمين/ات نعمل على قضايا العبور الجندري والإعاقة، دفعتنا القيود العملية والخطابية التي واجهناها في الإطار المبني على سياسات الهوية إلى البحث عن مقاربات أخرى لبناء الحركات تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المترابطة للنضالات من دون تعزيز التصنيفات كتجارب استثنائية أو هويات جوهرية. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ سياسات الهوية، لدى الحديث عن العبور الجندري والإعاقة، لا تفلح في التعامل مع استمرارية القمع الذي يعيد إنتاج فئة الجسد السليم الخالي من الإعاقة والذي يتوافق فيه الجندر مع الجنس المعيّن، والذي يعتبر جميع أشكال الانحرافَ عن تلك القاعدة مرضًا في الوقت عينه. ونؤكد أنه يمكن التغلب على قيود النهج القائم على الهوية إذا اعتمدنا بدلًا منه إطارًا مبنيا على الاستقلالية الجسدية، وإذا تعلّمنا من تجارب العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة من أجل صياغة أشكال أخرى للتنظيم المجتمعي بشكل أوسع.
في ما يلي، نستعرض بعض الافتراضات الشائعة حول العبور الجندري والإعاقة التي تكمن وراء رهاب العبور الجندري والتمييز ضد ذوي/ات الإعاقة في لبنان، مع التركيز على مفاهيم الإنتاجية والإنجابية والاستقلالية الجسدية.
نبني على سنين من الانخراط مع مجتمعاتنا، وعلى تجاربنا الخاصة وتبادلاتنا مع أقران من العابرين/ات جندريًا وأقران من ذوي/ات الإعاقة، وعلى معرفتنا الموقعيّة بقضايا العابرين/ات جندريًا وقضايا ذوي/ات الإعاقة في لبنان كناشطين/ات ومنظمين/ات، وذلك للدعوة إلى الانتقال من إطار الهوية نحو إطار الاستقلالية الجسدية يركّز على القضايا الجسدية ويتجاوز التصنيفات والمفاهيم الثابتة للهوية.
1. تقدير الأجساد ذات القدرات غير المعيارية: رؤى من لبنان
الإنتاجية
في حين أن بعض العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة يجدون/ن أنفسهم/نّ غير قادرين/ات على أو غير راغبين/ات في المشاركة في أشكال تقليدية من الأنشطة الاقتصادية مثل العمالة الرسمية، لا يمكن تعميم ذلك على أنه سمة من سمات العابرين/ات جندريًا أو ذوي/ات الإعاقة. ولكن نظرًا لأن عملهم/هنّ يُخفى غالبًا (نظرًا لأنه عمل غير رسمي أو غير مدفوع)، غالبًا ما يُفترض أن العابرين/ات جندريًا والأشخاص ذوي/ات الإعاقة غير منتجين/ات، أو خاملين/ات اقتصاديًا، أو يعتمدون/ن ماليًا إما على برامج دعم أو على أسرهم/هنّ طوال حياتهم/هنّ7 . تبعًا لهذه الإيديولوجية، بالكاد يمكن تصوّر اندفاع مهني كبير لدى عابر/ة جندريًا من ذوي/ات الإعاقة. ومع ذلك، أصبح العديد من العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة ينظرون/ن إلى العمل على أنه وسيلة مهمة لتحقيق الذات والاندماج الاجتماعي. هنا، تؤدي جودة وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية العامة والإنجابية دورًا كبيرًا في السماح أو عدم السماح للعابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة بالوصول إلى أشكال العمل التقليدية.
ونظرًا إلى الأهمية البالغة للإنتاجية في إطار الرأسمالية المتأخرة المُعولَمة، ونظرًا إلى الربط غير المبرّر بين العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة من جهة، وبين انعدام الإنتاجية من جهة أخرى، يجد العابرون/ات جندريًا وذوو/ات الإعاقة أنفسهم/هنّ مضطرين/ات إلى إثبات شرعيتهم/هنّ كأفراد في المجتمع، سواء عبر إثبات قدرتهم/هنّ على الإنتاج أو رغبتهم/هنّ في ذلك، أو من خلال إنتاجيتهم/هنّ، أو عبر إعادة تعريف معنى الإنتاجية. لهذه الأسباب، من الشائع جدًا، خصوصًا في مجال الطب الغربي، معالجة الأجساد ذات قدرات غير معيارية بشكل يجعلها أو يقرّبها قدر الممكن من أجساد عاملة قادرة على المشاركة في العمليات الرأسمالية للإنتاج8 . تنطبق هذه الممارسة أيضًا على السياق اللبناني، حيث يقدّم الأطباء في كثير من الأحيان أملًا (زائفًا في بعض الأحيان) لأهل ذوي/ات الإعاقة بأن طفلهم/طفلتهنّ قد يصبح/تصبح "طبيعيًا/ةً" يومًا ما من خلال تدخل طبي كافٍ.
في السياق اللبناني، افتراض أن العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة ليسوا/لسن (ولن يكونوا/يكنّ) منتجين/ات هو افتراض مضرّ جدًا ويسهم في إغلاق أفق مستقبلية. أولًا، يخطّ هذا الافتراض مسار تعامل الحقل الطبي مع واعتنائه بأجساد الأشخاص العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة. فافتراض أن ذوي/ات الإعاقة ليسوا/لسن نشطين/ات اقتصاديًا هو ذريعة شائعة لتأمين رعاية صحية أقلّ جودة لهم/لهنّ. ينطبق ذلك أيضًا على العابرين جندريًا، ويستثني العابرات، إذ يُفترض أنّ عملهنّ مقتصر على العمل الجنسي.
بالإضافة إلى ذلك، يعزّز افتراض عدم الإنتاجية اعتقادًا مفاده أنّ العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة عاجزون/ات عن التنظيم الذاتي، وأنهم/أنهنّ "بلا صوت" وبحاجة إلى أفراد يتحدثون نيابة عنهم/هنّ. بينما قد يؤدّي هذا الافتراض إلى سياسات وحملات مناصرة وبرامج غير ملائمة، قد ينتج أيضًا مخاطرَ أكبر متمثلة في إضفاء طابع رمزي لا غير على وجود العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة في مساحات وحركات مختلفة، علمًا أنّنا بحاجة ماسّة إلى إبراز وإشراك التعددية الموجودة في هذه التجارب.
الإنجابية
لا يمكننا مناقشة العبور الجندري والإعاقة من دون التطرّق إلى سياسات وممارسات تحسين النسل الذي يربط ما بين الاختلاف (الجسدي) المتصور أو الفعلي من جهة والدونية من جهة ثانية، ويسعى إلى تنظيم مَن يجب أن تكون أجسادهم/هنّ إنجابية.
من الممارسات الشائعة وسط الأطباء في لبنان اقتراح إزالة مبايض الذين/اللواتي يعانون/نين من إعاقة ذهنية، وحث الأهل على اتخاذ هذا القرار نيابة عنهم/هنّ. في حين أن المحاكم تشترط إجراءات استئصال الرحم على العابرين الساعين لتغيير الجندر المذكور في وثائق الهوية الخاصة بهم، فإنّ إجراءات إزالة المبيض على وجه الخصوص ليست مطلوبة صراحةً وقد تمّ إثبات أنها غير ضرورية9 من الناحية الطبية، لكن يستمرّ الأطباء في إجرائها ضمن عملية استئصال الرحم. ومع ذلك، حتى اليوم، يكمن جزء من مقاومة المجال الطبي لتوفير رعاية تؤكد الجندر في لبنان وغيره من البلدان في اعتقاد مفاده أن مثل هذه التدخلات تؤدي في الواقع إلى تعريض "الأجساد القادرة"10 للخطر، وتحبط إمكاناتها الإنجابية11 ، وتجعل أصحابها أفرادًا "أقلّ شأنًا" في المجتمع. نتيجةً لذلك، عند التماس رعاية صحية، غالبًا ما يحرص العابرون/ات جندريًا في لبنان على إيجاد طبيب/ة "متفهّم/ة للعابرين/ات جندريًا" – بعبارة أخرى، أن يكون/تكون على استعداد لتقديم رعاية مؤكدة للجندر - بغض النظر عن مؤهلاتهمنّ المهنية.
في حين أنه يمكن، بل ويجب انتقاد الفهم الطبي/البيولوجي البحت للإنجاب، غالبًا ما نركّز على كيفية قولبة هذه المعتقدات السائدة داخل المجال الطبي للآراء تجاه العابرين/ات جندريًا وكيف يتم فهمهم/هنّ داخل المجتمع ككل في لبنان. بدعم من السلطة الطبية، يتحوّل الربط المعمَّم بين الرعاية المؤكّدة للجندر وفقدان القدرة الإنجابية إلى افتراضات أوسع مفادها أن العابرين/ات جندريًا لا يمكنهم/هنّ (ولا ينبغي) أن يكونوا/كنّ آباءَ/أمّهات، ولا يستطيعون/يستطعن (ولا ينبغي) أن يكوّنوا/يكوّنّ أسرًا لرعايتها، وأنهم/هنّ لا يستطيعون/عن (ولا ينبغي) تورّطهم/هنّ في علاقات عاطفية، وأنهم/هنّ لا يستطيعون/عن (ولا ينبغي) أن تكون لديهم/هنّ هذه التطلعات من الأصل. وهذا ما يشعر به بشكل حاد العابرون/ات جندريًا الذين/اللواتي لا يندرجون/يندرجن ضمن الثنائية الجندرية. ثمّة مَيْل إلى جنسنة مفرطة للعابرات على وجه الخصوص، فيصبح العمل في مجال الجنس هو الأساس الأخلاقي لاستبعادهنّ من المتخيّل الاجتماعي، مع حرمانهم من حقهنّ في الوالديّة وتكوين أسرة وإقامة علاقات عاطفية.
بالمثل، في لبنان، غالبًا ما يفترض العاملون/ات في مجال الرعاية الصحية أن ذوي/ات الإعاقة غير نشطين/ات جنسيًا، وبالتالي يتجاهل جسم الرعاية الطبية جانبًا أساسيًا من صحتهم/هنّ. وهناك أيضًا اعتقاد شائع داخل المنظومة الطبية وخارجها مفاده أنّ الإعاقة تؤثر على قدرة الشخص على الأبوة والأمومة. تختلف هذه الافتراضات بشكل واضح بحسب الجندر، أقلّه في السياق اللبناني. فبينما من الشائع أن يتزوج الرجال ذوو إعاقة من نساء قادرات جسديًا، لا يُتوقّع أن يكون لدى النساء ذوات إعاقة اهتمامات رومانسية، أو أن يتزوّجن، أو ينجِبْنَ بيولوجيًا، أو يربّين عائلة، أو يتمتّعن بجنسانية. ويمكن أن تُترجم هذه التحيزات إلى أشكال عديدة من العنف الطبي قد تشمل الاعتداء الجسدي أو النفسي أو العاطفي، والإهمال، والتمييز، والتدخلات من دون موافقة واعية للمرضى. بالإضافة إلى ذلك، يفرض التوقّع بأن ترضى النساء ذوات إعاقة بمعايير أقلّ للعلاقات الرومانسية تفاوتًا في القوة قد يؤدي إلى حالات من العنف القائم على الجندر.
هذه الافتراضات حول القدرات الإنجابية والجنسية والرومانسية للعابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة هي افتراضات تعمل على إدامة وصمة العار الاجتماعية والتقليل من جودة الرعاية الطبية المتاحة لهم/لهنّ.
الاستقلالية الجسدية
بناءً عليه، يتّضح لنا أنّ العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة يتعرّضون/نَ لزيادة في السيطرة المُحكمة على أجسادهم/نّ، على الرغم من أنّ ذلك غير مبرّر. تتجلى هذه السيطرة على مستويات متعددة، في أنواع مختلفة من العلاقات، وعبر مجموعة متنوعة من الأماكن تتراوح من حميمية المنزل إلى الشارع العام، وتسهم في تشكيل العلاقات مع الأهل والأسرة كأطفال وكبار، وكذلك في الديناميات مع الأطباء/الطبيبات ومقدمي/ات الرعاية الصحية، وفي التفاعلات مع مؤسسات الدولة وأجهزة الأمن، وغيرها. في ما يلي، نركّز على كيفية تجلّي هذه السيطرة في مجال الطب، وكيفية ترجمتها إلى أشكال مشروطة أو مراقَبة على الوصول إلى الحياة العامة.
عمومًا، وخصوصًا لدى التعامل مع العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة، يفترض الأطباء/الطبيبات أنهمنّ يدركنَ مصلحة الشخص بشكل أفضل من الشخص نفسه. ويُتوقع من المرضى الاستماع إليهمنّ وأخذ كلامهم/نّ في ظاهره. للأشخاص من ذوي/ات الإعاقة، يرسّخ الأهل (أو الشقيق/ة أو فرد من أفراد العائلة يؤدي دور الوالد/ة أو الوصي/ة) هذا الافتراض. لدى التعامل مع أخصائيين/ات طبيين/ات غير مستعدين/ات لتوفير الرعاية المؤكدة للجندر أو ليسوا/نَ على دراية ببعض أشكال الإعاقة، يجد العابرون/ات جندريًا وذوو/ات الإعاقة أنفسهم/هنّ في موقف صعب يحتّم عليهم/هنّ إبلاغ مقدمي/ات الرعاية الصحية صحتهم/هنّ العامة، ونقل أي معرفة لديهم/هنّ عن حالتهم/هنّ ووسائل العلاج المحتملة أو أشكال الرعاية أو مسارات العمل، وأن يكونوا/نّ واعين لوضع أجسادهم/هنّ الخاصّ ولفت انتباه مقدمي/ات الرعاية الصحية إليه. قد يؤدّي عدم منح مقدّم/ة الرعاية الصحية صورة شاملة إلى تدخلات طبية قد تتسبب بضرر كبير. يضع هذا الأمر العابرين/ات جندريًا وذوي/ذوات الإعاقة تحت ضغط مهول، كما يضع المسؤولية عن نهج شامل لرعايتهم/هن الصحية على عاتقهم/هنّ بدلًا من عاتق مقدمي/ات الرعاية الصحية.
عندما لا يكون الطاقم الطبي على علم واسع أو على دراية بظروف محددة تتعلق بالرعاية المؤكّدة للجندر أو بالإعاقة، يمكن أن تؤدي المواقف السلطوية في البيئات الطبية إلى نتائج عنيفة - إن لم تكن مميتة - للعابرين/ات جندريًا وذوي/ذوات الإعاقة. وتتدهور أيضًا جودة الرعاية الصحية المتاحة للعابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة بسبب اعتبار الأجساد غير المعيارية وأجساد ذوي/ات الإعاقة مُصابة بعلّة و"غير طبيعية" أو "غير سليمة" أو "مريضة" في المجال الطبي12 . وهو ما يبرر العديد من الانتهاكات والتجاوزات الطبية بحق العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة. في هذا الإطار، تكشف مجموعات الدعم والحوارات بين الأقران كيف تمّ إجراء تجاربَ طبية من دون موافقة العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة، وكيف استُخدمت هذه الأجساد في كثير من الأحيان كفرصٍ تعليمية من دون موافقة مسبقة. يقدّم بعض الأطباء/الطبيبات رعاية طبية أقل جودة للعابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة على وجه التحديد لأنهمنّ يحددون/نَ معيار "الصحة" في هذه الحالات بشكل مختلف عما يحددونه للأشخاص القادرين/ات جسديًا. قد تؤدي هذه المقاربة إلى تدهور حالتهم/هنّ، وتتطلّب تدخلات علاجية تصحيحية واسعة النطاق.
لدى انخراط العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة في الحياة العامة، يجدون/نَ أنفسهم/هنّ، أكثر من غيرهم/هنّ، في مواقف يتعين عليهم/هنّ فيها الكشف عن معلومات شخصية عن أجسادهم/هنّ. في لبنان، يُطلب من ذوي/ات الإعاقة، من أجل المرور عبر نقاط التفتيش الأمنية أو الوصول إلى مساحات أو خدمات معينة، إبراز بطاقة تثبت الإعاقة، خصوصًا إذا كانت هذه الإعاقة غير واضحة للغير. وتتضمن عملية الحصول على هذه البطاقة "إثباتًا" للإعاقة، وهي عملية قد تكون متطفّلة وصعبة. غالبًا ما يوضع ذوو/ات الإعاقة الأقل وضوحًا - على سبيل المثال، الذين/اللواتي لديهم/هنّ أمراضًا مزمنة أو إعاقات كلامية أو سمعية أو نفسية اجتماعية أو فكرية - في موقف غير مريح يضطرّهم/هنّ إلى تبرير مطالبتهم/هنّ بتدابير معيّنة تمكنهم/نّ من المشاركة في الحياة العامة.
بالمثل، ينصح العابرون/ات جندريًا الذين/اللواتي لا يتطابق مظهرهم/هنّ مع وثائق هويتهم/هنّ بعضهم/هنّ البعض، من باب ضمان سلامتهم/هنّ، بحمل تشخيص صادر عن طبيب/ة نفسي/ة يشير إلى إصابتهم/هنّ باضطراب في الهوية الجندرية. على الرغم من عدم وجود متطلبات قانونية للقيام بذلك، إلا أن تقديم وثيقة تشخيص لدى ضرورة عرض الهوية قد يسهّل العملية. عادةً ما يُطلب هذا التشخيص من الأطباء/الطبيبات كشرط للسماح للعابرين/ات جندريًا بالوصول إلى الرعاية المؤكدة للجندر. يتطلب الحصول على هذا التشخيص من العابرين/ات جندريًا أن يثبتوا/يثبتن لطبيب/ة نفسي/ة أنه في ما عدا "اهتماماتهم/هنّ الجندرية"، هم/هنّ "مستقرون/ات نفسيًا".
بالإضافة إلى ذلك، فإن المتطلبات القانونية والطبية لتغيير الجندر المذكور على بطاقة الهوية في لبنان هي متطلّبات تضع أيضًا العابرين/العابرات جندريًا في موقف يُضطرهم/هنّ إلى "إظهار" عبورهم/هنّ وفقًا لمعايير تضعها الدولة استنادًا إلى أجندتها13 السياسية الطائفية والجنسية والأبوية (فرض عمليات جراحية لا يمكن العودة عنها، بما في ذلك التعقيم، والتمثّل الجندري الثنائي وما إلى ذلك).
2. العبور الجندري والإعاقة والنضال الأوسع من أجل الاستقلالية الجسدية
ليس العبور الجندري والإعاقة تجاربَ استثنائية، إنما هي تسارع أو تباطؤ أو تكثيف لظروف تواجهها جميع الكائنات الحية مع تقدم أجسادها في العمر. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل مصطلح "الأجساد ذات القدرة المؤقتة"، الذي يستخدمه العديد من الناشطين/ات في مجال الإعاقة، ثاقبًا للغاية. وهذا أيضًا ما يدعم منطق استخدام مصطلح "الرعاية المؤكدة للجندر" في مقابل مصطلح "الانتقال الجندري" للإشارة إلى مختلف أنواع الإجراءات (الطبية وغير الطبية) التي يتخذها جميع البشر لتجسيد جندرهمن وتأكيده بشكل مستمر في مراحل مختلفة من حياتهمنّ.
يركّز إطار لاستقلالية الجسد، يسلّط الضوء على أهمية الحرية الشخصية وملكية الذات وتقرير المصير في ما يتعلق بجسد الفرد، على القضايا الجسدية كنقطة انطلاق لفهم كيفية عمل الهياكل القمعية. تشمل هذه القضايا مجموعة واسعة من المسائل، بما في ذلك الموافقة الواعية، والحقوق الإنجابية، واتخاذ القرارات الطبية، والخصوصية، وحماية البيانات. من منظور استقلالية الجسد، يمكن رؤية آراء وتجارب ذوي/ذوات الإعاقة والعابرين/ات جندريًا كمؤشرات على وجود إخفاقات هيكلية.
وبسبب تهميشهم/هنّ نسبةً إلى الأجساد ذات قدرات معيارية، يجتسّ العابرون/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة حدود المؤسسات الاجتماعية والقانونية والطبية، ويكشفون/ن عن التحيزات الكامنة وراء ممارساتها. نتيجةً لذلك، غالبًا ما يتمكن الأشخاص العابرون/ات جندريًا وذوو/ات الإعاقة من انتقاد المعتقدات والممارسات والهياكل - التي تطرّقنا إلى بعضها في هذا النص. وتؤثر هذه الأخيرة سلبًا أيضًا على الأشخاص ثنائيي الجندر، والذين ليسوا/لسنَ من ذوي/ات الإعاقة، ولو بشكل أقلّ وضوحًا لأنه يتم تطبيعها. تكشف هذه الفئة أيضًا كيف أنّ الوصول إلى حقوق الإنسان الأساسية غالبًا ما يأخذ في الاعتبار الأشخاص ذوي/ات قدرات جسدية معيارية، ما يحصر إمكانية هذا الوصول بهؤلاء.
بالإضافة إلى كيفية تقاطع العبور الجندري والإعاقة وتشكيلهما معًا تجربة قد تواجه عابر/ة جندريًا من ذوي/ات الإعاقة، يواجه العابرون/ات جندريًا وذوو/ات الإعاقة مشاكلَ متداخلة تتعلق بالإنتاجية والإنجابية والقدرة والاستقلالية، من بين أمور أخرى، وهو ما نعتقد أنه يعني أي شخص يدعم وينظّم ويموّل ويناصر حقوق العابرين/ات جندريًا وحقوق ذوي/ات الإعاقة والاستقلالية الجسدية بجميع أشكالها14 . إنّ الانتقال من نهج قائم على الهوية إلى نهج الاستقلالية الجسدية كفيل بأن يسمح لنا برؤية بعض هذه المشاكل الشاملة، ويمكن أن يوفّر أساسًا سليمًا لتمويل وبرمجة أكثر تداخل وتأثير، ويعزز التضامن والتنظيم بين مجموعات المصالح، فضلًا عن ترسيخ خطاب عملي يسيّس القضايا الجسدية.
ملاحظة: يعتمد هذا النص على تبادلاتٍ متواصلةٍ بدأت في عام 2022 بين المنظمَيْن الأهليَيْن زكريا ناصر وآمال شريف، المقيمة في بيروت، وهي مصمّمة وناشطة ومنظمّة لشؤون ذوي/ات الإعاقة ومديرة جمعية "حل.تك" (HalTek). يمنح موقع كلٌّ من ناصر وشريف كمنظِمَيْن وعضوَيْن أهليَيْن رؤيةً مميزةً للممارسات والانتهاكات التي يصعب توثيقها رسميًا، والتي لا توجد بشأنها تقارير أو أدلة مسجلة أو مقابلات.
- 1Nancy Fraser, "From recognition to redistribution? Dilemmas of justice in a “post-socialist” age", New Left Review, Issue 212, 1995, p. 68-93.
- 2Wolfgang Sachs, “Preface to the New Edition”, The Development Dictionary: A Guide to Knowledge as Power, 2nd edition, London & New York, Zed Books, 2009, p. XV.
- 3Majid Rahnema, “Participation”, The Development Dictionary: A Guide to Knowledge as Power, 2nd edition, London & New York, Zed Books, 2009, p.128.
- 4 نستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مجموعة واسعة من المنظمات والمؤسسات والأنشطة التي تركَز على تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية من خلال المساعدات الإنسانية، وتخفيف حدّة الفقر، وتطوير البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية، والسياسة، والمناصرة، من بين جملةٍ أخرى من الجهود التي تبذلها في كثيرٍ من الأحيان الحكومات والمنظمات غير الحكومية والوكالات الدولية والمؤسسات الخيرية وسائر الأطراف المعنية.
- 5غالبًا ما تُرفق الفئتان بأحد سيناريوهَيْن. في السيناريو الأول، يُعتبر العابرون/ات جندريًا وذوو/ات الإعاقة فئتَيْن منفصلتَيْن وغير مرتبطتَيْن، باستثناء حالات التداخل العرضي بينهما، ما يسمح بتخصيص استجابات محددة لتناسب احتياجات محددة، وهو أمر مفيد على مستوى الدعم المجتمعي والخدمات والمناصرة والسياسات، وعلى مستوى التمويل وتوزيع الموارد. وتبعًا للمنطق نفسه، يمكن للمرء أن يجادل بأنّ دقة إضافية في التحديد قد تكون مفيدة. على سبيل المثال، قد يكون من الأفضل لقضايا العابرين/ات جندريًا، كونها مسألة تتعلق بالجندر، أن تُعالج بشكل منفصل عن القضايا المتعلقة بالجنسانية. يمكن القول أيضًا أن الإعاقات المختلفة (الحَركية، والحسّية، والعصبية، وما إلى ذلك) تتطلب أساليبَ مختلفة. ويمكن للنساء ذوات الإعاقة أيضًا الاستفادة من اهتمام مركّز بتجاربهن واحتياجاتهن المجندرة. في السيناريو الثاني، يتم استيعاب العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة ضمن فئة أكثر شمولًا، وهي "المجموعات المهمشة" – شأنها شأن اللاجئين/ات والأقليات العرقية والإثنية والأقليات الدينية وغيرها، حسب السياق. وفي حين أن مظلّة التهميش لا تزال تعتمد على فئات الهوية، إلا أنها قد تسمح بحدوث تبادلات بين هذه الفئات. فهي تتمتع بميزة الجمع بين تجارب القمع المتنوعة، ولديها القدرة على السماح بنهجٍ أكثر شمولًا وتكاملًا لفهم القضايا المعقدة ومعالجتها.
- 6أي أن الفئات هي ناتجة عن عملية اختيار، وليسَت عشوائية.
- 7David T. Mitchell and Sharon L. Snyder, “Disability as multitude: Re-working Non-Productive Labor Power”, Journal of Literary & Cultural Disability Studies, Issue 4, no. 2, 2010, p. 179-193.
- 8Dan Irving, “Normalized Transgressions: Legitimizing the Transsexual Body as Productive”, Radical History Review, Issue 1, no. 100, 2008, p. 38-59.
- 9See for example Katherine Rachlin, Griffin Hansbury & Seth T. Pardo, “Hysterectomy and Oophorectomy Experiences of Female-to-Male Transgender Individuals”, International Journal of Transgenderism, Issue 12, no.3 , 2010, and the article reviewed by Dr Heidi Wittenberg, “Should You Keep One Or Both Ovaries?”, Hysto.net, undated.
- 10Dan Irving, “Normalized Transgressions: Legitimizing the Transsexual Body as Productive”, Radical History Review, Issue 1, no. 100, 2008, p. 38-59.
- 11David O. Cauldwell, “Psychopathia Transexualis”, International Journal of Transgenderism, Issue 5 no. 2, 2001.
- 12لا يقتصر هذا الاعتقاد على المجال الطبي وحده. في لبنان، غالبًا ما تنظر الجهات الحكومية والخاصة التي تقدّم القروض إلى ذوي/ذوات الإعاقة على أنهم/هنّ يشكلون/لن خطرًا ماليًا، وأنّ قدراتهم/هنّ الاقتصادية نتيجة لذلك محدودة بشكل كبير. على سبيل المثال، من المعروف أن المؤسسة العامة للإسكان تستثني ذوي/ات الإعاقة من قروض الإسكان المدعومة. وهو ما يغذي مفهومًا مفاده أن ذوي/ذوات الإعاقة لا يعيشون/يعشن حياةً طويلة ويُنظر إليهم/هنّ على أنهم/هنّ عبء، في حين أن الكثير منهم/هنّ يعمّرون/رن، ما يدحض فكرة أن الإعاقة تؤدي إلى الموت المبكر. ويفترض هذا أيضًا أن ذوي/ذوات الإعاقة غير منتجين/ات اقتصاديًا في حين أن العديد منهم/هنّ موظفون/ات ومستقلون/ات ماليًا. تستبعد هذه الممارسة ذوي/ات الإعاقة من الوسيلة الأساسية للوصول إلى السكن في لبنان.
- 13 For more on this topic, see Maya Mikdashi, “Sextarianism: Sovereignty, Secularism, and the State in Lebanon”, Stanford University Press, 2022.
- 14في حين أن هذا النص قد يساعد في فهم بعض القضايا، يثير أيضًا أسئلة تتطلب المزيد من البحث والتفكير مثل: كيف هي تجارب العابرين/ات جندريًا وذوي/ات الإعاقة من الشباب مع الأهل والمنزل؟ كيف يقومون/ن ببناء استقلاليتهم/ن؟ كيف تخاطب تجارب العابرين/ات جندريًا تجارب أخرى مثل استخدام المواد المخدرة، أو الأمراض المزمنة، أو السمنة، أو الإجهاض، أو قضايا الصحة النفسية، أو الهجرة القسرية؟
إضافة تعليق جديد