"أم عبد"، امرأةٌ عابِرةٌ جندريًا ترقص بغنجٍ ودلالٍ ممسكةً بِعصًا خشبيةٍ معقوفة، مرتديةً بزّة رقصٍ ورديّة اللّون، ومنتعلةً حذاءً أسود ذي كعبٍ عالٍ، شعرها مصفّفٌ بعناية، وفي أُذُنها اليسرى تلمع أقراطٌ فضّية. يبدو الجمهور مسحورًا بها. المكان، أحد الملاهي الليلية اللبنانية الشهيرة. الزمان، شهر كانون الأول/ديسمبر 1996. ملتقِط الصّورة الفوتوغرافيّة مجهول.1
1996. كنتُ أبلغ من العمر حينها ثمانية أعوام. والصّورة التُقِطَت بعد ثمانية أشهرٍ من حرب "عناقيد الغضب" التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على لبنان طيلة 16 يومًا. كنّا آنذاك نعيش في منطقة الشيّاح، في الضاحية الجنوبية لبيروت التي كانت هدفًا للقصف المركّز عقابًا على دعمها المقاومة المسلّحة ضد احتلال الجنوب اللبناني. أذكر ثلاثة أمورٍ عن تلك الحرب: الأصوات الرهيبة، ومشهد ابنة عمّتي تلتهم حبّات الشوكولاتة واحدةً تلو الأخرى كلّما اشتدّ بها الذّعر، وكَريم/كاراميلّا. كانت كَريم/كاراميلّا – حسبما أعتقد اليوم – شابّةٌ عابرةٌ تقطن حيّنا، وتتحلّى بالشجاعة والجرأة الكافية لتخرج بثيابها النسائية، وشعرها الأشقر المُسدل على كتفَيها، ومكياجها وطلاء أظافرها في وضح النهار، في مواجهة حيٍّ محافِظٍ بكامله، تمتلئ أرصفتُه بالشبّان، وشرُفاتُه بالسّكان، من دون أن تتراجع خطوة، ومن دون أن تخضع لأيّ جراحاتٍ حينذاك. أذكر ملامحها الصّارمة، وعبوسها، ومشيتها الثابتة التي لم تكن تهتزّ تحت وابل النكات، والتحرّشات، والقهقهات التي كانت تنهال عليها. كان أولاد الحيّ، وأنا منهم، نقف مشدوهين كلّما مرّت كَريم/كاراميلّا. نشعر بحضورٍ طاغٍ يستدعي التفرّغ والتفرّج. لم أوجّه لها يومًا أيّ كلامٍ جارح، لكنّي في إحدى المرّات شاركتُ صبيان الحيّ قهقهةً خفيفة، اعتراني بعدها حزنٌ غريب.
في أحد أيّام الحرب الـ 16، حلّ هدوءٌ غير مُنتظر، فأرسلَتني أمّي لشراء بعض الحاجيّات. لكن ما إن ابتعتُ الأغراض وهممتُ بالعودة إلى المنزل، حتى باغتَني الطيران الحربيّ بغاراتٍ منخفضة العلوّ، فتجمّدَت ساقاي وعجزتُ عن الحركة. لم أعِ إلّا وكَريم/كاراميلّا تحملني بين ذراعَيها وتركض بي إلى مدخل بنايتنا، ثم تُنزلني هناك وتقول لي بصوتٍ حازم "يلّا عالبيت، بسرعة". لم أنظر خلفي. هرعتُ إلى المنزل، طرقتُ الباب، وما إن فتحَته أمّي حتى سارعتُ أخبرها بأنّ كَريم/كاراميلّا أنقذَتني قبل أن تقتلني إسرائيل. لم تُبدِ أمّي إعجابًا كبيرًا بالقصّة، لكن منذ ذلك اليوم، صرتُ وكَريم/كاراميلّا نتبادل ابتساماتِ ألفةٍ متواطئةٍ كلّما التقَينا في الحيّ. ولم أعُد أشارك الصّبيان قهقهاتهم.
- أو بِلبُس بنطلون أو ما رح إضهر من البيت. (إما أن أرتدي بنطالًا أو لن أغادر البيت)
- شوفي هالفستان شو حلو عليكي، طالعة متل القمر! (انظري كم هو حلوٌ هذا الفستان، تبدين مثل القمر فيه!)
- مااااااا رح إلبس فستاااااااااااااااااان! (لن أرتدي فستانًا! *ببالغ الإصرار*)
- يا ربّي أنا شو عاملة ليِطلعلي كَريم/كاراميلّا بنصّ بيتي!! (يا إلهي ما الإثم الذي ارتكبتُه لتبعث لي بكَريم/كاراميلّا إلى منزلي!!)
"حوارٌ" من الطفولة كان يتكرّر بنُسَخٍ مختلفةٍ مع أمّي في كلّ عيد. ولم ألبس يومًا فستانًا.
غادَرنا الحيّ بعد فترةٍ وانقطعَت أخبار كَريم/كاراميلّا عنّي. لكنّي ظللتُ أسعى لتتبّع مكانها وأحوالها، لاسيّما بعد أن عبرتُ أنا نفسي منذ بضعة أعوام، واعترَتني الرغبة بأن أستعيد كمشة ذكرياتٍ معها؛ أول عابرةٍ في حياتي. علمتُ مؤخرًا أنها هاجرَت إلى كندا حيث تابعَت تعليمها، وفي روايةٍ أخرى، غادرَت الحيّ بعد بضع سنواتٍ من انتقالنا منه ولم يُعرَف لها أثرٌ بعد ذلك. أفضّل أن أصدّق الرواية الأولى.
****************
"أم عبد"، بأحمر الشفاه الفاقع، ترتدي جلابيّةً صعيديةً نبيذيّة اللّون، وتنتعل شبشبًا خفيفًا، وتحمل سلّة قشٍّ فوق رأسها. أمامها فتاةٌ تحمل في يدها دجاجةً بيضاء اللّون، تناولها لـ "أم عبد"، ويتحلّق حولها أناسٌ بأزياء تنكّريةٍ متنوّعة. المكان، ملهى ليليّ في جبل لبنان. الزمان، ليلة هالوين2 عام 2001. المُصوّر مجهول.3
2001. كنتُ أبلغ من العمر 13 عامًا. أعود إلى ألبومات الصّور المُبعَدة إلى العلّية، وبعد عناءٍ طويلٍ أعثر على صوَر حفل هالوين عام 2001. كان ذلك بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي بعامٍ واحد. كان الحفل في باحة منزل أحد الأقارب في الجنوب. وبدَا في الصّورة معنا وَحيد. شابٌّ مربوع القامة، قصير الشّعر، ودائم الابتسام. يرتدي بنطال جينزٍ أزرق، وبلوزةً بيضاء عادية، وحذاءً رياضيًا أسود، ويحمل طبلًا كبيرًا. أذكره جيّدًا. كان وَحيد أوّل رجلٍ عابرٍ التقيتُه في حياتي. كان الجميع ينادونه باسم الولادة، وَحيدة، ويخاطبونه بضمائر المؤنّث. لم يكُن هو يعترض، لكنّه لسببٍ ما، عندما انفرَدنا معًا في الحفل، قال لي مبتسمًا، "نادِني وَحيد، اسمي وَحيد، وليس وَحيدة". وأنا فهمتُه مباشرة. لم يكن عليه أن يشرح لي الأمر. لا أعرف لمَ اختارَني أنا ليطلب منّي مخاطبته بالضّمير والاسم الصّحيحَين – ربّما لأنّي كنتُ غريبًا عن ضَيعته، أو غريبًا مثله – لكنّه فعل، وأشعَرَني ذلك بقُربٍ وألفةٍ ساحِرَين. قضى وَحيد السّهرة يقرع الطّبل، ويدبك، ويراقص النساء، ويحادث الجميع ويضحك معهم. بدا أنّه كان محبوبًا في القرية، ومقرّبًا من أهلها، وإن كان عرضةً للنّميمة والنكات، كما كان واضحًا من كلام بعض أفراد عائلتي عنه.
عندما انتهى الحفلُ وغادَرنا الضّيعة إلى بيروت، ظللتُ أفكّر في وَحيد لفترةٍ طويلة. لا أرغبُ الآن في إسقاط أفكارٍ مُفترَضةٍ على نفسي آنذاك، كالقول إنّي كنتُ أرى نفسي فيه، أو أرغب في أن أصبح مثله عندما أكبر، لكنّي بالتأكيد شعرتُ بانتماءٍ ما إليه وإلى قصّته. جزمتُ في قرارة نفسي حينها أنّ وَحيد لم يلبس يومًا الفساتين في الأعياد.
هل كان وَحيد سعيدٌ حقًا كما بدا؟ هل كان وَحيدًا ومنبوذًا ومتألّمًا؟ هل كان قادرًا على الحياة؟
شغلَتني تلك الأسئلة طويلًا، وأرهَبَتني في العمق.
بعد سنين، زرتُ أقاربنا في تلك القرية، والتقيتُ بوَحيد في سيّارته. كان تقدّم في السّن قليلًا، وبات يعمل سائقًا عموميًّا. تبادَلنا أطراف الحديث، ثم ودّعتُه، وراقبتُه يركن سيّارته، ويترجّل منها، ويتقدّم إلى منزل امرأةٍ يُعرف أنّها حبيبته منذ سنين، ثم يدقّ بابها، فتفتح له، ويتحادثان بقدرٍ مدروسٍ من الدلال، وتناوله سندويشةً ملفوفةً بورقٍ أبيض، ثم يعود إلى سيّارته ويغادر. ظلَّت تراقبه حتى ابتعدَ عن الأنظار تمامًا، عندها أغلقَت الباب.
لم يبدُ لي وحيدُ وحيدًا.
****************
لطالما اعتراني خوفٌ لم أفهمه جيّدًا من فقدان الذاكرة، لاسيّما بعد أن شعرتُ بضعفٍ ما يصيبُ ذاكرتي وقدرتي على التركيز بعد إصابتي بعدوى كوفيد مرّتَين في خلال العامَين الماضيَين. ولطالما شعرتُ بحزنٍ خفيٍّ لافتقار مجتمعنا العابِر إلى ذاكرة، أو "تراثٍ"، أو قصّةٍ يتناقلها ويستند إليها ليتجذّر وجوده وماضيه، وبالتالي حاضره ومستقبله. لكنّ خوفي وحزني هدآ عندما تذكّرتُ أنّني في الواقع أتذكّر طفولتي، وأتذكّر جيّدًا كَريم/كراميلّا ووَحيد، وغيرهما من أشخاصٍ "عابِرين وعابِرات" بطُرُقٍ وأساليب وأشكالٍ متنوّعةٍ. زوج عمّتي مثلًا، الذي اعتدتُ مناداته بـ "جدّي"، كان رجلًا عطوفًا، حانيًا، ومعروفًا في أوساط العائلة بأدائه كلّ المهام المنزليّة من طبخٍ وتنظيفٍ وعنايةٍ بالأطفال، لأنّ عمّتي لم تكن تهواها. لم يُعِر يومًا اهتمامًا لمحاولات بعض رجال الأسرة التنمّر عليه، بل كان يُطلق ضحكةً خفرةً ويتابع تقطيع البندورة الجبليّة. ثم "عمّة" أمّي أيضًا، أم العِلا التي توفّي زوجها في ثلاثينات القرن الماضي وهي أمٌّ عشرينيّةٌ لثلاثة أطفال، فتسلّمَت أعمال الفلاحة في الأرض، ورفضَت الزواج، وتبنَّت ضمائر المذكّر، طالبةً من جميع أطفال الضّيعة مناداتها "بابا" بدلًا من "ماما".
أدقّق في ذكرياتي، فأدركُ أنّ العبور ليس دومًا جليًا، وبائنًا، وعاليَ النبرة، وليس دومًا في الشّكل الذي نعرفه ونرصده ونقرأه. قد يكون في كثيرٍ من الأحيان صامتًا، هادئًا، منسابًا كمياهِ الجدول، أو رقيقًا كنسيمٍ عابِر. لعلّه دومًا حولنا إذا ما انتبَهنا أو تذكّرنا. ربّما لم أكُن يومًا وحيدًا تمامًا، ولعلّي لن أكون أبدًا كذلك.
أحبّ لنا أن نستمرّ بالتذكّر والكتابة والسّرد. ففعلُ التذكّر ليس استدعاءً للحنين فحسب، ولا هو مجرّد استعادةٍ عاطفية، بل هو فعلُ مقاومةٍ للنسيان والإنكار والمَحو، ومراكَمةٌ للتجارب والمعارف والحِكمة، وتأسيسٌ لحيواتٍ آتيةٍ أفضَل وأجمَل.
نتذكّر لنشعر. ونتذكّر لنقاوم. ونتذكّر لنَعيش.
- 1من معرض صورٍ فوتوغرافيّةٍ عن تاريخ نساءٍ ترانس* (عابرات) من ماضي بيروت المنسيّ بعنوان "لمَن أتين قبلَنا"، لمحمّد عبدوني، في المؤسّسة العربيّة للصّورة، بيروت، من 25 تشرين الأول/أكتوبر حتى 3 كانون الأول/ديسمبر 2022.
- 2يُسمّى في لبنان "عيد البربارة" أو "عيد جميع القدّيسين"، وهو أحد الأعياد البارزة المُحتفى بها اجتماعيًا.
- 3من كتاب بعنوان "لمَن أتين قبلَنا: تاريخ نساءٍ ترانس* من ماضي بيروت المنسي" لمحمد عبدوني، نص جوي ستايسي وريان عبد الخالق، بيروت، كولد كتس، 2022.
إضافة تعليق جديد