في هذا المقال، يبيّن رجائي موسى كيف شكّل كتاب 'مذكرات طبيبة' للنسوية الراحلة نوال السعداوي المرحلة المؤسّسة لمشروعها التنويري وعكس مقاربتها لشؤون حياتية مختلفة من الدين والمجتمع إلى قضايا النساء والرجال والعلم والذات.
غادرَتنا نوال السعداوي، النسوية المصرية، يوم 21 آذار/مارس 2021 تزامنًا مع احتفال مصر بعيد الأم، كأنها حتى آخر لحظةٍ من عمرها تنتقد الدور الإنجابيّ والرعائيّ الذي تحرسه المؤسّسات والخطابات الرسمية التقليدية، كما فعلَت دومًا في حياتها. وبموتها، تركَت أكثر من خمسين كتابًا وجدلًا واسعًا لن ينقطع أبدًا.
فى عام 1958، صدر 'مذكّرات طبيبة'، الكتاب الثاني لنوال السعداوي بعد صدور مجموعتها القصَصية 'تعلّمتُ الحب' عام 1957. هو كتابٌ صغير الحجم، لا يزيد عن سبعين صفحة، لكنّه يُعد الكتاب المؤسّس لمشروع نوال التنويري. يحمل الكتاب في عنوانه وَسم رواية، لكن النص، كما يبدو لي، أقرب إلى "المذكّرات" منه إلى الرواية. ربما أرادت السعداوي أن تنفي عن الكتاب طابعه الذي يأتي قريبًا من سرد الذات، كأنّ في ذلك تنكّرٌ مبدئيّ. الأسلوب بسيط، يعتمد الجملة الخبرية البسيطة ومفرداتٍ واضحةً هي أقرب إلى لغة الحديث اليومي، والسرد يبدو كأنه مناجاةٌ فردية. هذا الأسلوب هو الذي يشكّل تجربة نوال السعداوي؛ البساطة والوضوح والمناجاة.
الكتابة ضد الطبيعة/الأم/الله
مبكرًا جدًا، في عمر التاسعة، تكتشف نوال أنها عورة، أنها بنت، وهذا يعني أنها لا تشبه أخاها. "كل شيءٍ فيّ عورةٌ وأنا طفلةٌ في التاسعة من عمري!". يدفعها هذا للكتابة ضدّ الطبيعة غير العادلة التي اختارت لها أن تكون أنثى، فقد فتحَت عينيها على الحياة وبينها وبين الطبيعة عداوةٌ وخصومة. لا تستثني نوالُ الله من هذا الظلم الفادح، فتوجّه نحوه غضبها وحنقها: "لماذا لم يخلقني الله طائرًا أطير في الهواء مثل هذه الحمامة وخلقَني بنتًا؟ خُيِّلَ إليَّ أن الله يفضِّل الطيور على البنات!" وعندما تأتيها العادة الشهرية، ترى فرحة أمها، وترى عزلتها، وترى أن عورتها أصبحَت مكشوفة. الجميع صار يعرف بموضوع الدم السائل بين الفخذَين. صارت الدورة الشهرية وصمة عار، والنضج فضيحة، والبنت في نهاية المطاف، وفي أوّله، مخلوقةٌ للزواج، للستر. "لزمتُ غرفتي أربعة أيامٍ متتاليةٍ لا أملك الشجاعةَ على أن أواجِهَ أخي أو أبي أو حتى الخادم الصغير. لا بد أنهم اطّلَعوا جميعًا على عورتي، ولا شك أن أمي فضحَت سرّي الجديد. وأغلقتُ البابَ عليّ أفسّر بيني وبين نفسي هذه الظاهرة الغريبة؛ أَلَمْ تكن هناك طريقةٌ أخرى تنضج بها البنات غير هذه الطريقة الملوّثة؟ أيُمكن لإنسانٍ أن يعيش أيامًا تحت سيطرة عضلاته اللاإرادية الغاشمة؟ لا بد أن الله يكره البنات فوصَمهنّ جميعًا بهذا العار. وشعرتُ أن الله قد تحيَّزَ للصبيان في كل شيء". تكبر الفتاة وتكره كل شيء، وتكره بالطبع أنوثتها، وتكره الرجال، وتكره الزواج وتكره أمها. "ارتبطَتْ في ذهني رائحةُ المطبخ برائحة الزوج. كرهتُ اسم الزوج، وكرهتُ رائحة الأكل".
في هذا العمر الصغير، تكتشفُ الفتاة قدرتها على التمرد، على رفع صوتها بكلمة لا؛ فترفض الزواج، وتقصّ شعرَها كفعلٍ رمزي للتخلّص من أنوثةٍ معيارية، وتعمل كل شيءٍ ضدّ نفسها. "كرهتهما! هذان البروزان! تلكما القطعتان الصغيرتان من اللحم اللتان تحدِّدان مستقبلي! وددتُ لو أجتثُّهما من فوق صدري بسكينٍ حاد (...) هذا الشّعر الطويل الثقيل، الذي أحمله فوق رأسي في كل مكان، يعطّلني كلّ صباح، ويرهقني في الحمام، ويُلهِب رقبتي في الصيف". تدخل نوال في حربٍ مع الجميع ومع نفسها، "ماذا يمكن لي أن أفعل وأنا أكره أنوثتي، وأنقم على طبيعتي، وأتبرَّأ من جسدي؟! لا شيء سوى الإنكار… التحدي… المقاومة! سأنكر أنوثتي، سأتحدّى طبيعتي، سأقاوم كلَّ رغبات جسدي".
مقابلةٌ مع رجلٍ ميت
دخلَت الفتاة كلية الطبّ لكي تخيف أخاها أو تنتقم منه ومن والدَيها، وبخاصّةٍ من أمّها التي كانت ترتعب من منظر الطبيب وتخضع له؛ فالطّب - كما تقول - شيءٌ رهيب، رهيبٌ جدًا، والمهنة مخيفة. عن طريق العلم سوف تهزم الطبيعة، الجسد، وطبيعتها كأنثى. سوف تثبتُ للطبيعة غلطتها عبر العقل والذكاء.
عندما تتأمل الطبيبة تجربتها، في الحياة وفي الطبّ وفي العمل، تستخدم مشرطَها من جديدٍ كي تعمل على تشريح كل شيء
فى كلية الطبّ، تقف في قاعة التشريح: الدرس الأول أمام رجلٍ ميت. تمسكُ بيدها المشرط وتجعل تغرزه فى جسد الرجل الجثة، الرجل الميت. كان هذا هو اللقاء الأول بعالم الرجولة، بالرجل العاري. هذا اللقاء هو المؤسّس بالدرجة الأولى لعلاقة نوال السعداوي بعالم الرجال. اللقاء الأول مع رجلٍ ميت. "كان هذا هو أول لقاءٍ سافِرٍ لي بالرجل والرجولة؛ فيه فَقَدَ الرجلُ هيبتَه وجلالَه وعظمته الموهومة، نزل الرجل من فوق عرشه وارتمى على منضدة التشريح بجوار المرأة". وراحَت تمارس التحديق، تلك النظرة التي يصوّبها الرجل تجاه المرأة. راحَت هي تعكس التحديقَ وتصنع تحديقًا مضادًا. مثلما يحدّق الرجل، سأحدّق أنا أيضًا. صفعةٌ بصفعة، وتحديقٌ بتحديق. عنفٌ في مواجهة عنف. هذه الثنائية هي حجر الزاوية في مشروع نوال السعداوي التنويري. رجلٌ مقابل امرأة، امرأةٌ في مواجهة رجل.
"ها أنا ذي أردُّ سهامَه إلى صدره.
ها أنا ذي أنظر إلى جسده العاري وأشعر بالغثيان.
ها أنا ذي أهوي عليه بمشرطي فأمزِّقه إربًا.
أهذا هو جسد الرجل؟!
يغطِّيه الشَّعْرُ من الخارج ويمتلئ من الداخل بالعفونات؟ يعوم مخّه في سائلٍ أبيض لَزِجٍ ويغرق قلبه في دمٍ أحمر غليظ؟ ما أقبح الرجل! من خارجه ومن داخله أشد قبحًا!".
لم تكتفِ يومها بتمزيق الرجل، بل راحَت تمزّق أيضًا المرأة الجثة المستلقية بجانب الرجل. وفي تمزيق المرأة، هي تمزّق جسدها، تتخلص من كل ما يراه المجتمع عورةً وفتنة، وتراه الطبيعة ضعفًا ونقصًا.
"قطعتا اللحم اللتان عذَّبتاني في طفولتي، اللتان تحدِّدان مستقبلَ البنات وتشغلان عقول الرجال وعيونهم… ها هما تستقرّان تحت مشرطي يابستَين مجعّدتَين كقطعتَين من جلد الأحذية (...) والشعر الطويل الناعم الذي عذَّبَتْني أمي من أجله سنين طفولتي، تاج المرأة وعرش جمالها الذي تحمله فوق رأسها وتضيِّع نصفَ عمرها في تصفيفه وتنعيمه وصباغته؛ ها هو يستقر أمام عيني في جردل المشرحة إلى جوار عفونات الجسد وفتافيت الشحم المهملة!".
هنا العنف يجرف في طريقه كل شيء، الرجل والمرأة والذات، فترى نفسها بجانب الجثتَين، هي أيضًا جثةٌ هامدة، وكأنّ المشرط كان يفعل فعله داخلها أيضًا.
"آهٍ، لقد متُّ! وقفزتُ مفزوعة.
لا! لن أموت وأصبح جثةً كهذه الجثث الممدودة أمامي فوق المناضد!".
ضد الزواج والمهنة والعلم
لا تنسى الطبيبة في سنواتها الأولى، وعند مرورها في مراسم الزواج، بدءًا بالوثيقة وانتهاءً بالطلاق، أن تتخذ موقفًا نقديًا من هذه المؤسسة التي تقترب من الشكل العبودي في العلاقات، والحقوق والواجبات، وفقًا للوثيقة وكافة التفاصيل الرسمية وغير الرسمية. "وقعَت عيناي على كلماتٍ غريبةٍ تشبه الكلمات التي تُكتب في عقود إيجار الشقة والدكاكين وقطع الأراضي الزراعية! أمسكتُ الورقة بكلتا يديّ لأمزّقها ووقعتُ باسمي على العقد. وكأنما وقعتُ على شهادة وفاتي". وسريعًا يحدث الطلاق، وتعود الطبيبة للاحتفاء بوحدتها واستقلاليتها وحرّيتها.
وعندما تتأمل الطبيبة تجربتها، في الحياة وفي الطبّ وفي العمل، تستخدم مشرطَها من جديدٍ كي تعمل على تشريح كل شيء: المجتمع، النساء، الرجال، العلاقات، الدّين، الطبيعة، العلْم والذات. "لا. لم أحقّق شيئًا. ليس الطبّ سلعة. وليس النجاح مالًا وشهرة… ثلاثون عامًا مضَت من عمري دون أن أعرف الحقيقة، دون أن أفهم الحياة".
بدأَت نوال السعداوي اعتماد منهجية التشريح في كتابٍ صغيرٍ صنّفته بنفسها "رواية"، وهو في تقديري ليس روايةً ولا حتى مذكّرات، بل يمكن اعتباره شهادةً أو وثيقةً هامة، لاسيما إذا ما نظرنا إلى توقيت صدوره وأحوال مصر بشكلٍ عامٍ والنساء بشكلٍ خاصٍ حينذاك. فالكتاب صدرَ بعد جلاء الإنجليز عن مصر بنحو سنتَين فقط، وربما أقل. والجلاء، أي خروج آخر جندي إنجليزي، تمّ يوم 18 حزيران/يونيو 1956 من القاعدة البريطانية في قناة السويس وفقًا لاتفاقية الجلاء التي وُقعت في تشرين الأول/أكتوبر 1954. وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956، بدأ العدوان الثلاثي على مصر. هذه المنهجية، أي التشريح وفقًا لما تعلمَته فى كلية الطبّ، افتتحَتها السعداوي في 'مذكّرات طبيبة' ولازمَتها طيلة حياتها، سواء على مستوى الكتابة أو الحوارات أو المعارك التي خاضَتها بنزاهةٍ فائقةٍ وجرأةٍ بالغة.
إضافة تعليق جديد