رسم محمد خان شخصية هشام بتفاصيل بالغة الدقة ليضع أمام أعيننا الذكورية المفهوم، شخصيّة حيّة من واقعنا اليومي.
يُعتبر فيلم "زوجة رجل مهم" للمخرج المصري محمد خان من بين الأفلام المهمّة في تاريخ السينما المصريّة وفي مخيال عشاق سينما الثمانينات. تكمن أهمية الفيلم أساسا في بعده التوثيقيّ لانتفاضة الخبز بمصر (1977)، وفي معالجة بالغة الدقة والرّهافة للحالة السياسية العامة وللحراك الذي شهده المجتمع المصريّ إبان حكم السادات ودوران دفة الاقتصاد من الاشتراكية إلى الرأسمالية. قام محمّد خان بمعالجة كلّ هذه الإشكاليّات الكبرى من خلال متابعة تفاصيل حياة زوجين، في تقاطع محكم بين العام والخاص والحميميّ والسياسيّ.
منى (ميرفت أمين) إبنة وحيدة لأب داعم وأمّ عطوف، تنعم بحياة بسيطة بلا ضجّة وأيّام رتيبة لعائلة من الطبقة الوسطى. يُقدّم محمّد خان منى كشخصية مُتحفّظة، تختبئ وراء نعومتها الصامتة، صلابة نفسية وقوّة شخصية لا تستعرض مداها. يختارها هشام (أحمد زكي) الضابط الشّاب زوجة مُطيعة. تمثّل شخصيّة هشام في الفيلم الرجل الذكوريّ الذي لا يعرف هوسه بالسلطة حدودا.
يبدأ الصراع بين بطلي الفيلم بطيئا ويسترسل بنسق تصاعديّ ومتشابك، ليتّخذ أبعادا أخرى تتجاوز حدود علاقتهما. يتجسد الصراع الاجتماعي القائم على الهيمنة والاستغلال عبر ثنائيات دلاليّة متضادّة: السلطة مقابل إرادة الشعب، الرأسمالية مقابل الاشتراكية، الذكورية مقابل الأنوثة، العنف مقابل الفن، العقل والمعرفة مقابل العنجهية. تتقاطع أوجه الصراع وتمتزج في حبكة درامية متقنة، تصل ذروتها في حوارات ثنائية، نتوقف عند بعضها.
البوليس الزيّ الرسميّ للذكوريّة؟
في الدقيقة 42 من عمر الفيلم نشاهد أحد الضبّاط وهو يحقّق مع كاتب معروف بمقالاته النقديّة للنظام السياسيّ. يُبدي الضابط احترامه لهذا الكاتب، يطلب له كأس شاي ويعرض عليه سيجارة فيعترض هشام بشدّة على تصرّفات زميله ويقول له:
- إيه إلي إنت بتعملوا، إنت بتحقق معاه وإلاّ بطبطب عليه، تطلبوا شاي وتديه سجاير إيه ده كلو !! هو إحنا في كازينو وإلا إيه؟
- إيه الغلط يا أفندم ده أستاذ مجدي الكاتب المعروف إلى كلنا بنقراله. وبعدين المفروض إننا بنحترم الناس ونعاملهم كويس.
الليبرالية أمام حرية التعبير للعمال و/أو النساء
أثناء حفلة رأس السنة، يستعرض رجل أعمال ونائب ليبيراليّ في مجلس الشعب آراؤه المغشوشة بكلّ فخر وثقة، ويصفّق له المتسلّقون من أمثال هشام. تتجرأ منى على اعتراض آرائه فيجيبها بمنطق التقزيم والاستعلاء، دون أن يدعمها زوجها أو يثمن فكرتها، فتغادر الحفلة بكرامة مجروحة.
-حال البلد اتقلب؛ العمال بقوا يتكلموا في السياسة، يروحوا بتوع السياسة يشتغلو عمال ! وكل ده من أفكارهم المهببة! زي حكاية السد العالي إلي بوظ الأرض وخلى الزرع مالوش طعم..كفاية علينا الأغاني" قلنا حنبني وأدحنا بنينا السد العالي" بلا خيبة !
- بس الكلام ده مش مظبوط.
- أفندم ؟!!! أنا باحب أسمع الرأي المعارض وبحب المناقشة
- أنا والدي مهندس ري وسافرت معاه من بلد لبلد وكان ديما يأكدلي إنو لولا السد العالي كانت البلد غرقت في الفيضان أو ماتت من العطش ولولا السد العالي مكنتش الأراضي الزراعية مكفتش الزيادة الرهيبة في عدد السكان
-إسمحيلي بقه أرد عليكي، ده كلام تلامذة، حافظين المناهج والمقررات كويس
للصراع أوجه مختلفة، الذكورية والأنثوية على رأسها ؟
لا شكّ أن مداخل التحليل والمناقشة عديدة ولا تنتهى، لأزليّة هذا الصراع المتوارث وغير القابل للحلّ على ما يبدو في الأفق الإنساني. ما يدعو للتوقف عند هذا الفيلم هو إقحام ثنائية الأنوثة والذكوريّة بشكل مباشر ضمن ملحمة الصراعات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وتقديمها عليها جميعا. جعل محمّد خان من قضيّة تحرير المرأة من الهيمنة الذكوريّة قضيّة متن في الفيلم بعد أن كانت من القضايا الهامشيّة وهو ما يُحسب له بالمقارنة مع مواقف بعض مثّقفي اليسار اليوم، والذين يقفون بتأفّف وتململ أمام صراع الذكوريّة والأنثوية، مُتفادين الخوض فيه لاعتباره ليس من
الأولويات السياسيّة.
ظهر مفهوم العنف الرّمزي في أعمال الباحث السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو بعد أن طوّر هذا المفهوم لكي يبيّن أن المجتمع والأطراف الفاعلين فيه لا يتصارعون بشكل مادي صرف كما جاء في التحليل الماركسي الكلاسيكي، حيث حاول تسليط الضوء على مجموعة الصراعات الرمزية التي يستبطنها الأفراد والمجموعات. وفي كتابه "الهيمنة الذكورية"، فكّك بورديو ميكانيزمات هذه الهيمنة من خلال أمثلة من الواقع خاضعة لمنطق العنف الرمزيّ. نجح محمّد خان في فيلم "زوجة رجل مهمّ" فى تحليل مفهوم العنف الرمزيّ من خلال علاقة منى وهشام، مُستبقا أطروحة علميّة بالغة التعقيد والكثافة من خلال لوحات بصريّة بالغة الدّقة والصدق لتنقل كل العنف اللامادي الذي حاول بورديو تتبعه وإثبات وجوده وآثاره وتأسيس شرعية علمية تفتح المجال للخوض فيه.
تندلع المظاهرات احتجاجا على زيادة الأسعار فيما يعرف بانتفاضة الخبز، ويندفع هشام لمحاربة المتظاهرين واعتقالهم لإرضاء رؤسائه. يعود من صراعه المحموم على السلطة، ليجد زوجته منتفضة بسبب إهماله لها، وتقرر الذهاب إلى بيت أهلها، فيقابل انتفاضتها بهدوء:
- معقول أنا الّي بحافظ على أمن البلد، موش عارف أحافظ على أمن بيتي ؟!
تنتقل الكاميرا من وجهي هشام ومنى، لتركز على فميهما، فتحيل نواة المشكل إلى صراع بدائي بين رجل وإمراة مجرّدين من ذاتيهما، كما يرمز له فم هشام بشنبه وفم منى بشفاهها الناعمة.
-فاكرة قبل ما نتجوز قلتيلي إيه؟ لما بكون معاك بحس إن الأبواب بتتفتح قدامنا... بحس إن الناس كلها بتحترمنا ومستنية أي كلمة أو إشارة منا... وانتي مبهورة بالكلام دا ساعتها قلت هي دي اللي تنفع تبقى مراتي.
-كنت عيلة
-عايزك على طول تبقي عيلة
فأجابت ملخصة أزمتها مع نفسها ومعه: "هي دي المشكلة... كل يوم بكبر وبفهم، بيروح الانبهار وتبان الحقيقة".
أم هي أزمة الذكورة مع نفسها ؟
رسم محمد خان شخصية هشام بتفاصيل بالغة الدقة ليضع أمام أعيننا الذكورية المفهوم، شخصيّة حيّة من واقعنا اليومي. شخصية مزدوجة، ممزقة، بين صورة الرّجل متضخّم الأنا صاحب السلطة والمتحكّم في مصائر الناس وبين صورة الرجل المختل، الهشّ عاطفيا، المهتزّة ثقته بنفسه، العاجز عن التواصل أو طلب المساعدة، باختزال الرجل الذى لا يملك المرونة النفسية اللاّزمة للتّصدّى للأزمات. يدفعنا محمّد خان لطرح سؤال ملحّ وهو: هل تخفي الذكوريّة بصورها المشتهاة خللا في البنية النفسيّة لشخصيّاتها الهشّة وهم الذكور؟
عالجت هذا السؤال دراسة أمريكيّة1 نُشرت سنة 2016 بمجلّة "علم النفس الإرشاديّ"2 حول علاقة السلوك التقليديّ "الرجوليّ" المطابق لمعايير "الذكوريّة النموذجيّة" والصحّة العقليّة. بينت الدراسة أن التقيد بالمعايير الذكورية مرتبط عند الرجال بأداء اجتماعي سلبي واحتمالات أوفر للتعرض للأمراض العقلية والنفسية واحتمالات أقل لطلب المساعدة.
تتابع عين محمد خان عن قرب أعراض هذا المرض الذكورى من خلال مراقبة لصيقة لانهيار شخصية هشام في الفيلم؛ يخسر هشام وظيفته وسلطته وتتهاوى بخسارتها عمائد شخصيته الذكورية. ينعزل وينفجر عنفه الداخلي ليتحول إلى عنف مادي ضد زوجته، التي لا تجد مفرا من مواجهة الحقيقة وتطلب مساعدة والدها لحمايتها من زوج "محبّ يعيبه التسلّط" يتحوّل تدريجيا إلى وحش.
يختم المخرج هذا الصراع الملحمي بطلق رصاص في مواجهة بين رجلين، الزوج والأب. في مواجهة بين رجل ذكوري متسلّط ورجل غير ذكوري يحاول إنقاذ ابنته. في هذه المواجهة الخاطفة، ينتهي الصراع برصاصتين، واحدة تقتل الأب المنقذ الطيب والثانية يقتل بها الزوج المتسلّط نفسه. وكأنّ محمد خان من خلال هذه النهاية يريد أن يقول بأننا أمام صراع الرّجل مع الرّجل ضدّ هذه الذكوريّة القاتلة التي تدفع الرّجال المصابين بها إلى تحطيم أنفسهم والمحيطين بهم، في سباق محموم نحو تطابق صورة.
- 1سنة 2016 نشرت دراسة أمريكية في مجلة مؤسسة علم النفس الإرشادي، حول علاقة السلوك التقليدي "الرجولي" و"الذكوريّة" وتأثيره على الصحة العقلية. جمع الباحثون في جامعة إنديانا بيانات من 78 دراسة سابقة (19،453 مشاركًا إجمالًا) حول الرجال، تصورات الرجولة والصحة العقلية. تم تحليل النتائج من خلال عدسة المعايير "الذكورة النموذجية"، البالغ عددها 11 معيارًا وهي: الحاجة للهيمنة، الرغبة في الفوز، الحاجة للتحكم في العواطف، العنف، أداء دور الدون جوان، المجازفة بالمخاطر، الأولوية المعطاة للعمل، الحاجة إلى السلطة على النساء، الحاجة إلى السيطرة على الذات، الرغبة في الوصول إلى مرتبة معيّنة، وازدراء المثلية الجنسية. يتم سرد هذه المعايير "المطابقة للذكورة" لتبيّن الدراسة بأن التقيد بمعايير الذكورة مرتبط عند الرجال بأداء اجتماعي سلبي بما يزيد من احتمالات التعرّض للأمراض العقلية والنفسية كما احتمالات أقل لطلب المساعدة.
- 2يمكن الاطّلاع على الدراسة المذكورة باللغة الانجليزيّة تحت عنوان: Meta-analyses of the relationship between conformity to masculine norms and mental health-related outcomes. على هذا الرابط: https://www.apa.org/pubs/journals/releases/cou-cou0000176.pdf
إضافة تعليق جديد