أسردُ في هذه المقالة تجربتي مع كتاب "المعجم العربي الكويري" (دار الساقي، 2024)، بوصفه امتدادًا لأعمال مروان قعبور السابقة، التي تَعتبرُ اللغة بمرونتها، وتقاطُعها مع هويّاتنا المتعّددة، مصدرًا أساسيًا للإلهام والتفكير.
كنتُ "خكريًا1 " و"مايعًا2 " في المدرسة. وكنتُ "لوطيًا3 " و"مخنّثًا4 " في بعض خطب الجمعة. ولطالما كنتُ "ناعمًا5 ". الأكيد أن كلّ هذه الكلمات كانت تُستخدم عنّي وضدي. كان يبدو أنّ للجميع معرفة مُلِمَّة بكلماتٍ لا تُحصى، لوَصف سلوكي وجسدي، لكنّي لم أعرف حتى كلمةً واحدةً أستطيع أن أصِف بها جنسانيتي ونفسي، من دون أن أزدريها.
أرّقَتني مقالة فرح برقاوي عندما قرأتُها بعد انتهائي من المرحلة الثانوية، وفيها تسأل: "أين نقرأ عن قضايانا بلُغتنا، إن لم نفكّر فيها ونكتب عنها بأنفسنا"؟
قبل تلك اللحظة، لم أكُن أعرف كلماتٍ بالعربية لأحكي بها عن تجاربي. كنتُ أستعير من الإنكليزية التي لا تشبهني، محاولًا أن أفهم ماهيّة هويّتي، والألم الذي سبَّبته لي.
بعدها بدأتُ رحلة تقصٍّ عن أيّ مشروع، أو مبادرة، أو بحثٍ يحاول الإجابة عن سؤال فرح. سواء عثرتُ على تلك المصادر بمحض الصدفة، أو بحثتُ عنها عمدًا، بدَت لي كأنّها تبحثُ عنّي بدورها لتُذكّرني بأنّي لستُ وحدي، وأنّ هناك آخرين كثرًا مثلي يشبهونني.
قادَتني إحدى تلك المبادرات إلى "مهرجان الفيلم العربي للمعهد العربي للفيلم والإعلام" في سان فرانسيسكو، وتحديدًا إلى ليلةٍ خاصّةٍ بعنوان "عدسة كويرية"، نظّمَها عام 2019.
من الأفلام التي عُرضَت في تلك الليلة كان فيلم "ماركو" لسليم حداد. كانت تلك المرة الأولى التي أشاهدُ فيها على الشاشة قبلةً تجمعُ رجُلين عربيَّين. بالرغم من أنني كنتُ هناك في تلك القاعة في الولايات المتحدة، إلا أنّي كنتُ أُلقي نظرةً إلى الشاشة وأُخرى إلى الأرض، مترقّبًا أن تنشقّ وتبتلعنا. لكنّ الأرض بقيَت في مكانها، والمشهد استمرّ، وبدأَت دموعي تنهمر.
استوقَفَني ذلك الفيلم، وتلك اللقطة، لأنّ الممثّل الذي يؤدّي شخصية البطل ماركو، هو مروان قعبور، مؤسّس منصة "تكوير" المختصّة بتوثيق السرديّات الكويرية في التاريخ العربي والثقافة الشعبية العربية منذ عام 2019.
أسردُ في هذه المقالة تجربتي مع كتابه "المعجم العربي الكويري" (دار الساقي، 2024)، بوصفه امتدادًا لأعماله السابقة، التي تَعتبرُ اللغة بمرونتها، وتقاطُعها مع هويّاتنا المتعّددة، مصدرًا أساسيًا للإلهام والتفكير.
في الفيلم، يجمع أحد المشاهد بين عمر اللبناني وماركو السوري الذي يدّعي بأنه إسباني. لكنّ حيلته تنكشف عندما يلفظ "برشلونة" بدلًا من "برثلونة". كلمةٌ واحدة كانت كفيلةً بأن تكشف للاثنين الخلفيّة الثقافية واللغوية، وهذا بالضبط ما يحاول المعجم توثيقه: أنّ الجماعات على اختلافها، سواء كانت قائمةً على مهنةٍ أو هويةٍ عرقيةٍ ما أو غيرها، وجدَت أساليب للتلاعب باللغة، لتُعرّف نفسها وتعزل مَن لا ينتمي إليها. ينطبقُ ذلك على المجتمع الكويري أو مجتمع الميم-عين العربي، الذي ابتدع طرقًا للتحايل على اللغة واستعادة مفرداتٍ كانت تُستخدم لإذلاله.
"المعجم العربي الكويري" هو أول مشروعٍ مكتملٍ لـ"تكوير". جمع مروان فيه 330 كلمة وعبارة، صنّفَها وفقًا لستّ لهجاتٍ رئيسة: الشامية، والعراقية، والخليجية، والمصرية، والسودانية، والمغربية. وفيه، يُرفق كلّ كلمةٍ أو عبارةٍ بتعبيرٍ يلخّص معناها، والسياق التاريخي والثقافي لاستخدامها بالعربية والإنكليزية.
يضمّ الكتاب مقدّمةً للكاتب والرسّام ربيع علم الدين، وثماني مقالاتٍ تتناول مواضيع ترتبط بفكرة المعجم، لكُتاب وموسيقيّين، من بينهم عبدالله الطايع وحامد سنو.
من خلال التوثيق اللغوي، يحاول المعجم أن يوثّق حالةً اجتماعيةً وتاريخيةً محورها نحن: أشخاصٌ يَتَحدّون بجنسانيّتهم/ن وأجسادهم/ن المعيارية بكلّ مقاييسها، وقد كنا جزءًا أساسيًا من مجتمعاتنا العربية على مرّ التاريخ، رغم مفردات النبذ والتحقير.
-
ولا يخاطب الكتاب أشقائنا العرب - الذين ينكرون إنسانيتنا - فقط، بل يتوجّه أيضًا إلى الغرب الذي لطالما استخدم جنسانيّتنا وأجسادنا عذرًا لتجريمنا وقمعنا. هذا المعجم هو وثيقةٌ منّا ولنا؛ وثيقةٌ تتحدّى المحو المتعمّد الذي ترتكبه حكوماتنا، ومؤسّساتنا، وجيراننا.
-
يعكس المعجم بتنوّع عباراته الظروفَ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساهمَت في تشكيل طريقة فهمنا لقضايانا، وكيفية فهم الناس من حولنا لهذه القضايا.
-
قد تشي كلمة "معجم" بالرهبة، وقد يظنّه البعض وثيقةً موجّهةً للمُختصّين فقط، جُمعَت بطريقةٍ علميّةٍ معقّدة.
-
لكنّ "المعجم الكويري العربي" يكسر تلك التوقّعات، لأنه يجمع تجاربنا العابرة للحقب الزمنية واللهجات المختلفة، ولأن الكلمات التي نستخدمها (أو تُستخدم ضدنا) تتجاوز كل تلك التصنيفات العلمية والأكاديمية "الرصينة".
أخبرَني مروان - في حديثٍ لـ "جيم" - عن طريقته اللامعيارية في البحث قائلًا: "إذا اطّلع أكاديمي جادٌّ على منهجيّتي في البحث، قد يخاف ويقول "هذا غير مقبول!". ولكن، من جهتي، أرى أنّ الابتعاد عن المنهجيّات المعياريّة في البحث، حرّرَني من القيود التي تفرضها (المنهجيّات العلمية) عليّ، في سبيل المعرفة".
-
ويضيف مروان عن مواضيع الكتاب: "الكويرية، بحدّ ذاتها، لا حدود أو تعريف ثابت لها، وهذا أمرٌ مَرِن، تمامًا مثل اللغة. عملتُ في هذا الكتاب على مفهومَين يتغيّران ويتطورّان يوميًا، هما اللغة والكويرية، لذلك لم أكن مستعدًا لوضع حدودٍ لشيءٍ يتخطّى بطبيعته تلك الخطوط المرسومة".
-
بدأ مروان بجمع مفردات المعجم من خلال عمله على حساب "تكوير" على إنستغرام. لاحظ إقبالًا واسعًا على محتوى الحساب، وصارَت تصله اقتراحاتٌ لكلماتٍ وعباراتٍ ومفرداتٍ من متابعين/ات كثر. هكذا، بدأ رحلة توثيقٍ امتدّت لأربع سنوات، وراح يقابل أشخاصًا يتحدّثون إحدى اللهجات الستّ التي يوثّقها المعجم.
-
هذه المنهجيّة البحثية الحرّة أدّت إلى مُنتجٍ ربّما لم يكن ممكنًا لو أنّ مروان اتّبع منهجيةً أكاديميةً معيارية، تعجزُ عن احتواء لهجاتنا باختلاف مصادرها وجذورها، أو يغيب عنها ما نُعاصره اليوم في الشارع، وفي بيوتنا، وعلى الإنترنت.
جاءت النتيجة إذًا، معجمًا يورِد كلماتٍ فصيحةً تُستخدم في سياقٍ ديني أو تاريخي (مثل لوطي وسحاقية6 في مختلف الدول العربية)، إلى جانب عباراتٍ عاميةٍ وُلدت في سياقاتٍ محليّة، وتنبع أحيانًا من الاعتقاد السائد لدى بعض المجتمعات العربية بأنّ "الغرب جلَب المثلية إلى أراضيهم" (مثل أولاد ميكي7 في السودان، أو يسمع في الـ KPop8 في ليبيا).
إيراد هذه المفردات والعبارات جنبًا إلى جنب، يساعدنا في رسم خريطةٍ لغويةٍ تُبيّن عشوائية استخدام بعض المفردات والكلمات ضدّ مجتمع الميم-عين، بهدف حصره في خانة "المنتَج الغربي الغازي لثقافتنا الأصيلة".
فإلى جانب كلماتٍ حديثةٍ اضطرّ المجتمع لاختراعها بغرض الإهانة والوصم، نجد كلماتٍ ضاربةً في القدم، تعود جذورها إلى ما قبل الإسلام، ما يعني أنّ اللغة بحدّ ذاتها وثّقَت وجود الميول الجنسية على اختلافها، وأقرّت بها، قبل عصورٍ طويلةٍ ممّا يُعتقد أنّه "تقليدٌ للقيَم الغربية".
تَظهر اللغة هنا بكامل مرونتها، متعدّدة المستويات. ويمكن أن نقسّم العبارات بحسب الحقب الزمنية المختلفة التي ظهرَت فيها. لكن بموازاة ذلك، يظهر في المعجم تقسيمٌ من نوعٍ آخر، يقدّم تعقيدًا آخر للّغة المتاحة لنا باختلاف معانيها ودورانها بين قطبَين: إيجابي يحرّرنا، وسلبي يظلمنا.
يختلف ذلك وفقًا لسياق استخدام الكلمات وكيفية استعادتها من قبل مجتمع الميم-عين لتجريدها من بُعدها الإقصائي أو العنيف، لتصير مصدرًا للفخر.
يقول مروان قعبور إنّ بحثه في هذه الكلمات جعله يدرك "أنّ اللهجات العربية لها خيالٌ وجمالٌ وشاعريةٌ لا محدودة، وحسّ فكاهةٍ عالٍ في ابتكار كلماتٍ تصِف أشياء وظواهر تُعتبر مُحرَّمة". وقاد هذا الخيال إلى كلماتٍ نُفضِّل أن نستخدمها بأنفسنا (مثل إمي9 في لبنان)، أو لنجِد من يشبهنا (مثل فنانة10 في الكويت). لكن بطبيعة الحال، قاد أيضًا إلى لغةٍ تُستخدم لاضطهادنا وازدرائنا.
يعترف مروان بأنّ العديد من القرّاء لن يستسيغوا إيراد بعض تلك الكلمات الجارحة في المعجم، لأنها قد تُحيي ذكرياتٍ وتجارب مريرةً عاشوها. لكنّ أهمية الكلمات والعبارات "السلبية" قد تكون بنفس أهمية "الإيجابية" منها، لأنها توضح أن أحد أسباب تهميشنا على مرّ القرون، كان عجز من حولنا عن استيعاب وتقدير لامعياريّة جنسانيّاتنا وأجسادنا، الأمر الذي عكسَته اللغة ومصطلحاتها.
على سبيل المثال، عبارة لا هو لا هو11 في تونس، وجنس ثالث12 في السعودية، بالرغم من "سلبيتها"، إلا أنها تُثبت وجود حاجةٍ ملحّةٍ لدى الناس لوصف أمرٍ قد يستعيذون به أو يهدّد كيانهم، حتى اضطرّوا إلى ابتداع كلماتٍ لتصنيفاتٍ جندريةٍ وجنسانيةٍ جديدة. فحتى عبر محاولة محونا، كان هؤلاء الناس يوثّقون وجودنا بلُغتهم العنيفة التي حفظَت أسماء أشخاصٍ كويريّين كان التاريخ ليَنساهم، مثل هيت وطويس ودلال13 .
يوضح المعجم من خلال إيراد صفاتٍ عنيفة أو "سلبيّة"، تشوّه معاني بعض الكلمات التي استُخدمت سابقًا بشكلٍ حياديّ وضمن سياقٍ محدّد، مثل وصف "فنّان" أو غيره. تلك الكلمات تغيّرَت مع مرور الزمن، واتخذَت معانيَ أخرى (مثل خوَل14 في مصر).
باختصار، يحاول مروان في هذا المعجم أن يقول: "أنا أرفض ما تتّهمني به، أنت وأبوك وجدّك من قبلك، واعترافكم وحفظكم لهذه الكلمات، هو اعترافٌ بوجودي. ما سأفعله الآن هو استعادة هذه الكلمات منكم، واستخدامها بالطريقة التي أختارها أنا".
"المعجم العربي الكويري" كتابٌ للجميع. عمل عليه مروان قعبور ليكون مرجعًا رئيسًا للكويريّين/ات والعابرين/ات. لكن المحتوى قد يكون على نفس القدر من الأهمية بالنسبة للغيريّين/ات جنسيًا في الدول العربية أيضًا، وخصوصًا مَن لا يعتقدون بأنّ الكتاب يلامس قضاياهم/ن أو يعنيهم/ن.
لطالما كانت قضايا الجنسانية وتجريمها وسيلةً استخدمَها الاستعمارُ الغربي لتبرير جرائمه وعنفه ضد شعوبنا وأجسادنا لقرون. يذكّرنا الكاتب آدم حاج يحيى في مقالةٍ15 له كيف استخدمَت قوات الاحتلال الصهيونية، حتى قبل ولادة "إسرائيل"، تجريمَ الجنسانية الفلسطينية لتبرير العنف والسجن المتعّمد للفلسطينيّين. وهذه ظاهرةٌ يمكن تفسيرها برغبة "الغرب" في أن يكون على نقيض "الشرق"، ليصّور نفسه على أنه الأفضل، والأرقى، والأسمى. يكتب آدم:
"قام المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، على أساس إقامة علاماتٍ فارقةٍ واضحةٍ بين المُستَعْمِر والمُستَعْمَر. يحفظ ذلك المشروع وجوده واستمراره، من خلال دعم القوى الإمبريالية الغربية من خلال اتساقه مع ما يُنظر إليه حاليًا على أنه صالحٌ داخل النظام الغربي للأشياء."
تورِد مقالة آدم قصةَ اتهام عبد المجيد درويش وعيسى، وهما رجلان من قرية المنشية الفلسطينية (بالقرب من يافا) باغتيال حاييم أرلوزوروف عام 1933. كان أرلوزوروف، أحد الناشطين الصهاينة، قد أنجز في السنة نفسها اتفاقية هعفراه، والتي تنصّ على خطةٍ لنقل 600 ألف يهودي من ألمانيا النازية ومعهم 100 مليون دولار من الأموال والممتلكات إلى فلسطين. اتُّهم ثلاثة رجالٍ من الحركة الصهيونية باغتياله، لكن كان من الأسهل اتهام الفلسطينيّين طبعًا. لم يكن عبد المجيد أو عيسى مَن اغتال أرلوزوروف، لكن سهل اتهامهما وتجريمهما لموقفهما الواضح ضد الصهيونية والقوى البريطانية الاستعمارية. وعندما لم يوجد أيّ دليلٍ يدينهما، لجأ محامي المتّهمين الصهاينة إلى تكتيكٍ جديد، فسأل القاضي في إحدى جلسات المحاكمة ما إذا كان يعرف بشأن العلاقة الجنسية بين عبد المجيد وعيسى، محاولًا شيطنتهما واستخدام جنسانيّتهما دليل إدانةٍ ضدهما. شكّلَت هذه الحادثة أساس منطقٍ صهيوني يجرّم جنسانية الفلسطينيّين، تبلور أكثر عام 1936 في شكل حزمة قوانين للحدّ من العصيان والمظاهرات ضد المستعمِرين البريطانيّين والصهاينة.
في هذه الحال، عندما تُربَط الديمقراطية والحضارة بالغرب، على سبيل المثال، يغدو "الشرق" تلقائيًا مرتبطًا بالوحشية والتخلّف. ويمكن تطبيق هذه الفرَضيّة على الجنسانية كذلك. فلو كان "الشرق" متفلّتًا وشاذًّا جنسيًا، يحقّ للغرب الطاهر والنقيّ عندها، أن يستخدم جنسانية الشّرق "الدونية" كوسيلةٍ لتبرير اضصهاده بأيّ طريقةٍ يختارها.
في الواقع، يُثبت التاريخ والقانون أنّ تجريم المثلية هو منتَج غربي، لا المثليّة نفسها التي كانت مقبولةً في "الشرق"، وإن بدرجاتٍ متفاوتةٍ باختلاف المجتمعات والحقب الزمنية. هذا لا ينفي بالطبع العنفَ التاريخيّ الذي تعرّض له المثليّون/ات والعابرون/ات في مجتمعاتنا عبر التاريخ، وما زالوا. لكن لاحقًا، بعدما تجذّرَت كراهيّة المثليّين/ات والعابرين/ات في الشرق المُستعمَر ودخل التجريم قوانين بلداننا وتشريعاتها على يد الاستعمار، استفاق الغرب على فجر حقوق الإنسان وصار يعتبر نفسه حارسًا عليها. عندها، بدأنا نرى الإدانات الغربية لتجريم المثليّة واضطهاد المثليّين/ات والعابرين/ات في بلدان الشّرق، باعتبار ذلك انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان ودلالة وحشيّةٍ وتخلّف (وهو كذلك فعلًا، لكنّ سلوك الغرب تجاه المسألة سياسيّ بحت).
هذا ما يحاول المعجم التذكير به من خلال اللغة وجذورها، مبيّنًا أنّ انقلاب المجتمعات العربية على أفراد الميم-عين أمرٌ دخيلٌ على ثقافتها وتاريخها. وبذلك، يواجه المثليّون/ات والعابرون/ات إقصاءً مضاعفًا يتمثّل بالاضطهاد في مجتمعاتهم/ن العربية، والتمييز من قبل الغرب العنصريّ الذي يدّعي إنقاذهم/ن.
قد يتلخّص "عتبي" على مشروع المعجم بأمرَين، هما: الأول، أنّ الكتاب متاحٌ فقط بالإنكليزية. الكلمات عربيةٌ بالطبع، وتعريفاتها الوافية والموجزة متاحةٌ بالإنكليزية والعربية، إلا أن المقدّمة وكلّ المقالات التي ترافق الكتاب، متاحةٌ بالإنكليزية حصرًا.
وجاء قرار النشر بالإنكليزية بعد أن رفضت العديد من دور النشر أن تنشر كتابًا يشمل اللغتين. أخبرَني مروان أن الخيار الوحيد كان نشر الكتاب بإصدار عربي وآخر إنكليزي، وللأسف لم يكن هناك أي موزعين مهتمين بجلب الإصدر العربي لمكتباتهم في الدول العربية. لذلك كان نشر المعجم وجعل أساسه (الكلمات وتعريفاتها) متاحًا باللغتين هو الحل الوسط الذي وصل له مروان مع دار الساقي للنشر.
هذا سيتيح الفرصة للمترجمين كي يعملوا مع كتّاب المقالات لنشرها بالعربية. لكنّ في ذلك تذكيرٌ لنا أيضًا بأنّنا ككويريّين/ات وعابرين/ات عرب، نضطرّ دائمًا إلى الاستعارة من لغاتٍ أجنبيةٍ لنحكي عن أنفسنا بألسِنتنا، أو أن نكون في أماكن تبعد عن أوطاننا بحارًا وقارّاتٍ لكي نحظى بفرصةِ سماع قصصٍ عنّا ولنا.
أما الأمر الثاني، فهو تأطير المعجم بوصفه الكتاب الوحيد لأرشفة اللهجات العربية العامّية وكلماتها المتعلّقة بالكويريّة. المصادر المشابهة نادِرة طبعًا، لكنها موجودة. على سبيل المثال، نشرَت منصّة "جيم" خريطةً تفاعليةً تُظهر مصطلحاتٍ عاميةً من مختلف الدول العربية. كما توجد مجلّاتٌ ومبادراتٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ وفنيةٌ مشابهةٌ لـ"تكوير"، منها كحل، وماي كالي، ومؤسّسة قوس، وويكي الجندر، وغيرها. تمنّيتُ لو أنّ الكتاب ذكَر أحد تلك المصادر، أو تعاون معها على الأقل، ليوضح أن ثمّة مصادر أخرى موجودة، وأنّ المعجم جزءٌ من إرثٍ يُحييه وبدأه العديدُ من المنظّمات والمناضلين/ات في المنطقة.
قد يكون عتبي في غير مكانه، فأنا – مثل القرّاء الذين سيُطالعون المعجم (يصدر في 6 يونيو/ حزيران 2024)– قد تكون توقّعاتي غير واقعية. لكنّ منبع تلك التوقّعات هو رغبتنا في أن يكون كلّ مشروعٍ يناقش قضايانا مثاليًا، وهذا أمرٌ مستحيل. لكنّي أجد نفسي أقع فيه دائمًا لنُدرة المصادر كهذا المعجم الثمين.
على أيّ حال، يذكّرنا مروان قعبور في مقدّمة الكتاب، كما أشار لي في محادثتنا، أنّ المعجم ما هو إلا خطوة أولى لأرشفة لهجاتنا المحلّية المتعّددة، وأنّ ثمّة مشاريع أخرى قادمة لـ "تكوير".
يأمل مروان ألا تكون هذه الخطوة الأخيرة، وأن يبني عليها كلّ مهتمٍّ ومهتمّةٍ في هذا المجال الذي يحتاج إلى طاقاتنا وأيادينا جميعًا. يبقى الأمل في أن يردم المعجمُ المسافةَ بين أجسادنا ولغتنا، وبين جنسانيّاتنا وألسِنتنا، وأن يُضاف إلى قائمة المصادر الأساسية التي تعيننا على فهم جذور الكلمات التي تُستخدم عنّا وضدنا، وتمكّننا من اختراع لغةٍ تشبهنا وتكون لنا.
- 1"كلمة عامية تدل على الرجال ذوي السلوكيات الأنثوية، يمكن أن تعني أيضًا دلوع أو ناعم، أو تدل على صفات أنثوية ورجولية في الوقت ذاته، بينجنسي.ة، عابر جنسيًا." (لهجات بلاد الخليج، ص. ٤٦)
- 2"ذائب أو سائل، غير جامد؛ تدل على رجل ضعيف البنية أو مدلَّع، و/أو ذو طابع أنثوي". (لهجات بلاد الشام، ص. ٢٩)
- 3"من سلالة شخصية لوط التوراتية، أو النبي لوط في الإسلام. مصطلح ازدرائي يدل على رجل مثلي. تُستخدم في سياق شعبي وكذلك ديني/فقهي". (لهجات بلاد الشام، ص. ٢٩)
- 4"ذو سلوكيات أنثوية، ناعم و/أو دلوع، يملتك صفات أنثوية وذكورية في الوقت ذاته، بينجسي.ة، عابر.ة الجنس. تَرِد العبارة في الأدبيات العربية حول الجنسانية لتدلّ على فتيان يتشبهون بالنساء في مظهرهم وسلوكهم ويعتاشون من الغناء والرقص." (لهجات العراق، ص. ٣٦)
- 5"رجل له ملامح ناعمة وسلوكيات أنثوية توحي بأنه مثلي". (لهجات بلاد الخليج، ص. ٦١)
- 6مِن فعل تتساحق؛ الكلمة الفصيحة القديمة للدلالة على المرأة المثلية. (المعجم العربي الكويري، لهجات بلاد الشام، ص. 21)
- 7إحالة إلى الشخصية الكاريكاتورية الشهيرة؛ تُتطلق على الرجال المثليّين عمومًا، أو الرجال ذوي الطابع الأنثوي أو الأداء الجندري أو السلوكيات التي لا تتوافق مع نمط الذكورة التقليدية، على افتراض أن هذا يعود إلى رغبتهم في التمثّل بالثقافة الغربية. (المعجم العربي الكويري، لهجات السودان، ص. 73)
- 8مصطلحٌ شبيهٌ بـ"أولاد ميكي" في السودان؛ الـk-pop هو لونٌ موسيقي شعبي شهيرٌ في كوريا الجنوبية. والرجل الذي يستمع إليه، أو ما يشبهه من موسيقى أجنبيةٍ راقصة، يُعتبر ناقص الرجولة، مخنثًا وبالتالي مثليًا. (المعجم العربي الكويري، لهجات بلاد المنطقة المغاربية، ص. 95)
- 9مصطلح تحبّبٍ يشير إلى شخصٍ يتّخذ دور الأم في تشكيلٍ عائليّ كويريّ (المعجم العربي الكويري، لهجات بلاد الشام، ص 15)
- 10تُستخدَم بين الرجال المثليّين للإشارة إلى بعضهم البعض بشكلٍ عام. (المعجم العربي الكويري، لهجات بلاد الخليج، ص. 52)
- 11شخصٌ ليس برجلٍ ولا بامرأة؛ شخص ذو/ذات أداءٍ جندري مبهم، ما يجعله/ا محطّ ريبة. (المعجم العربي الكويري، لهجات بلاد المنطقة المغاربية، ص. 90)
- 12مصطلحٌ يُستخدَم لتحقير الأشخاص الكويريّين أو مَن يمتلكون صفاتٍ أنثويةً ورجاليةً في الوقت عينه أو العابرين/ات؛ كلّ من يظهر عليهم/ن أداءٌ جندري غير معياري. (المعجم العربي الكويري، لهجات بلاد الخليج، ص. 46)
- 13مثَل عربي عن أكثر المخانيث شهرةً تاريخيًا، مذكورٌ في مقالة: A Rich Constellation of Identities by Saqer Almarri (p. 102-109)
- 14"كان الخول راقصًا شعبيًا في مصر يرتدي ملابس نسائية، وحظي بشعبية كبيرة حتى أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. تستخدم الكلمة الآن غالبًا في مصر ولكن كذلك في بلدان أخرى ناطقة بالعربية كشتيمة لتحقير كل شاب يُشتبه بأنه مثلي أو له طابع أنثوي، وعلى افتراض أنه يتخذ دور السالب في الجنس". (لهجات مصر، ص. ٦٤)
- 15Are You a Pan-Arab Nationalist or Just a Man Who Sleeps With Men? (p. 110-117)
إضافة تعليق جديد