الأميرة ذات الهمّة: سيرة فارسةٍ عربيّةٍ مغمورة

لَكَم يشعر الرجل العربيّ بالفخر إذ يقرأ عن أعاجيبِ المُهلهل وعنترة في ساحات الوغى. عاهد التاريخُ هؤلاء على الأبديّة فظلّوا إلى اليوم مضربَ مثَلٍ يحقن الأجيالَ المتعاقبة بمعاني البطولة. لكنّ السؤال يبقى: من شذّب التاريخ إيّاه من بطولات النساء؟ أكلّ بطولاتنا رجاليّة؟

كثيرًا ما احتفَت السيَرُ الشعبيّة في الأدب العربي بملاحم الرجال. عنترة بن شدّاد مثالٌ جيّد، والمُهلهل بن ربيعة (الزير سالم) كذلك. لكنّ الملحمةَ التي نسردها هنا بطلتها امرأة؛ أميرةٌ تُدعى فاطمة بنت مظلومٍ بن الصّحصَاح بن جندبة.

سيرةُ هذه الأميرة، التي تُلقّب بـ"ذات الهمّة"، توصَف بـ"الأطول" في التاريخ. مخطوطاتها التي ترقد في رفوف مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة برلين الحكومية تربو عن 23 ألف صفحة.

تروي سيرةُ ذات الهمّة ما نشبَ بين العرب المسلمين والتحالفِ الأوروبي البيزنطي من صراعاتٍ على امتداد أربعة قرون، غير أنّ الصفحة الأولى تفتقد إلى اسم المؤلّف، ولأنّها كذلك، تعدّ تراثًا أو تاريخًا شعبيًا.

تهدف السّيرة أساسًا، كما يشير الأديب المصري، شوقي عبد الحكيم، في كتابه 'الأميرة ذات الهمّة'، إلى التأريخ لسلسلة الاعتداءات والغزوات التي طمعت بالدولة الإسلامية الفتية.1

على أنّ عادةَ الملاحم العربيّة لم تجرِ على أن يكون البطل امرأةً، وهذه سابقةٌ تستحق التوقّف. ما الذي عناه أن يَعهد الأدب الشعبي، آنذاك، ببطولة إحدى سِيَره إلى امرأة؟

ربّما حاولَ الأوائل إنصافَ المرأة العربيّة بسيرةٍ ملحميّةٍ كهذه، وقد يُؤسف اليومَ لهذا الحضور الباهتِ للأميرة ذات الهمّة في الذاكرة الجمعيّة للمنطقة الناطقة باللغة العربيّة، قياسًا بعنترة والمُهلهل وأبي زيد الهلالي.

دعوةٌ باكرة إلى المساواة

يصعب تحديدُ الزمنِ الذي نشأ فيه أيّ نتاجٍ أدبيٍ شعبي. تقول الباحثة المصرية، نبيلة إبراهيم، في كتابها 'سيرة الأميرة ذات الهمّة - دراسة مقارنة'، إنّ الروايةَ الشّفهية كفيلةٌ بنقل هذا الأدب زَمَكانيًا وتطويره عبر الأجيال.2

مِن ثمّ، غيرُ مستغربٍ عدمُ الوصول إلى أيّ حقيقةٍ تاريخيةٍ في خضمّ البحث عن نقطة بداية. لا يُمكن حتى الوقوف على الفترات التي تسلّل فيها أيّ تفصيلٍ إلى الحبكة، فالسِيَر الشعبية إذ تصِل إلينا، تفعلُ مُكتملة. 

تروي سيرةُ ذات الهمّة ما نشبَ بين العرب المسلمين والتحالفِ الأوروبي البيزنطي من صراعاتٍ على امتداد أربعة قرون

متى اكتملتْ إذن سيرةُ ذات الهمّة؟ ترجّح نبيلة إبراهيم الفترةَ ما بعد حكم الخليفة العباسي المعتصم بالله. آيةُ ذلك أنّها كانت تُروى كاملةً لابنه الواثق بالله، الذي كان يستوقف الراوي أحيانًا ليسأل عن شخصيةٍ أو تفصيلٍ ما في الحبكة.

يُلاحَظ أيضًا أنّ السيرة تتمّ في عهده، بعدما بدأتْ في ظل حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي يُعرف عهده بأزهى عصور الأمويّين.

يُشير الأديب المصري، شوقي عبد الحكيم، في كتابه 'الأميرة ذات الهمة'، إلى أنّ السيرةَ تُغطي حروبًا قاريةً تمتدّ لأربعة قرونٍ بين العرب المسلمين والتحالف الأوروبي البيزنطي.3

لكنْ، مَن ألّف هذه السّيرة؟ ما من أحدٍ يعرف! ثم من يعيشُ أربعة قرون؟ غالبُ الظنّ أنّ سيرة ذات الهمّة هي احتفاءٌ جمعيّ بالمرأة ساهمت في صَوغِه قرائحُ عدّةٌ على امتداد هذه الفترة.

لكن المؤكّد خلافَ ذلك، أنّ مخطوطاتها المتوفّرة في بعض المكتبات في بريطانيا، ألمانيا ولبنان، تصلُ إلى 23 ألفَ صفحة.

إلى جانب توثيق أحداثِ هذه الفترة المهمّة من التاريخ الإسلامي، أنْ يُعهد بدور البطولة إلى امرأةٍ في سيرةٍ شعبيّة، ينمّ عن موقفٍ يرفض الدّورَ الاجتماعي الجائر الذي أُنيط بها.

من ثمّ، تمثّل ذاتُ الهمّة دعوةً إلى المساواة بين الجنسَين. فكرةٌ تنقلب على السّائد ممّا ضرب جذوره في أعماق التقاليد العربيّة الإسلاميّة من أنّ المرأة ناقصَةُ عقلٍ ودين، وما وُجدت إلا للفراش والمطبخ وتربية الأطفال.

فاطمَة ذاتُ الهمّة

رأت فاطمةُ النورَ في الحجاز أواخرَ عهد الخلافة الأموية. لو كان بيدِ أبيها، مظلوم بن الصّحصَاح، لوأدَها. بيد أنّه اكتفى بإرسَالها إلى البادية حيث ستتعهّدُ برعايتها امرأةٌ تدعى الرّباب.

نشأتْ فاطمة تسمعُ عن أمجاد جدّها الصّحصَاح الذي حاربَ الرّوم بجسارة، حدّ أن تشبّع دمُها بمفرداتِ البطولة، فراهقتْ على أساليب الحربِ، وأبهرتْ من تناهتْ إليه فروسيّتها قبل من رأوها. 

أنْ يُعهد بدور البطولة إلى امرأةٍ في سيرةٍ شعبيّة، ينمّ عن موقفٍ يرفض الدّورَ الاجتماعي الجائر الذي أُنيط بها

غيرَ أنّ الحبكاتِ تقتضي كالعادة شعورًا بالإحباط لتتقدّم. أُغير ذات يومٍ على ديار فاطمة فاُسِرتْ. هربتْ بعدها إلى الفيفاء ثمّ جمعتْ حولها رجالًا قادتهم إلى الإغارة على بعض القبائل، حتّى تهلّلت قبيلتُها أخيرًا بعودتها.

في مجتمعٍ قبليّ كذاك، لم يكن لفاطمة أن تقع في نفوسِ الشّباب من أقرانها سوى زوجةً صالحة. تهافتوا لخطبتها لكنّها رفضتْ بإباء. كانتْ تقول إنّها لم تُخلَق للزواج وحياة الفراش، إنّما لتُقارع الرجال.

ورغمَ أنّها انشغلتْ بالفروسيّة، لم يتورّع ابن العمّ ظالم، حارث، عن حذو نعلها بالنّعل راغبًا في الزّواج بها. وقد نأت عنه كعادتها. 

رفضُ فاطمة اشتدّ حدّ التهديد بالفرار، بل اتّشحتْ بزيّ رجلٍ وخرجتْ إليه ليلًا لتوضحَ أنّها ليستْ مجرّد أنثى بيت (كما يُنظر إلى المرأة)؛ تُنكَح لتربية الأطفال وطهي الطّعام. إنّها، ببسَاطة، محاربةٌ في عالمٍ قوامه مفترسٌ وفريسَة. تقول فاطمة: "ما خُلقتُ إلّا للنّزال، لا للفراش ولا للزواج، ولا يضاجعني سوى سيفي وعُدّة حربي (...) وكُحل غبار النّجع مُرادي".4

ازدادتْ في أثناء ذلك شُهرة فاطمة وتناقلتْ القبائلُ العربية في دمشق وحلب وبغداد أخبارَ فروسيّتها ورغبتها في استعادة أمجاد جدّها الصّحصَاح في الدّفاع عن ثغور القوم. كمَن ينفخُ في جرابٍ مثقوب! 

مع كلّ ذلك، لم يكن القوم ليستمعوا إليها وقد التهوا في تأمين حياتهم اليومية من مأكلٍ وملبسٍ في غفلةٍ عمّا يحيق بهم. 

غير أنّ دهاء فاطمة وقتذاك كان قد تناهى إلى ثاني الخلفاء العبّاسيين، أبو جعفر المنصور، فاستدعاها وفاتحَته باقتحام جبهة الروم. لكنّ الحارث، الذي حضر اللقاء، ركبَ موجة الحديثِ مع الخليفة وطلبَ يدها منه. تحرّجتْ فاطمة ثمّ أذعنَت في آخر الأمر. 

لم يكن لفاطمة بعدَ هذه الواقعة سوى أن تهرب من زوجها إلى الصّحراء. لكنّ أخبارًا هبّتْ تقول بأنّ الرومَ تحرّكوا لمهاجمة المسلمين. أرسلَ الخليفةُ إليها طالبًا المشورة، ثمّ أمر أحد أمرائه يُدعى عبد الله بتسيير جيشٍ تكون فيه ذاتُ الهمّة ساعدَه الأيمن.

بعد أيّامٍ، شرع الخليفة يتلقّى أخبارًا بالنّصر تلوَ النّصر، كما ببسالةِ وعبقريّة فاطمة في الحرب، حتى إنّ جيشه ذاك غزا مالطا. 

ورغم أنّه من شيَم أبطال الملاحم الفخرُ، اتّسمَت فاطمة بالتّواضع وكانت ترفض أيّ عرضٍ يتقدّم به القادة لإطلاق اسمها على ما حرّروه من مدنٍ وجزُرٍ وقلاع، ولا بأس إذا ما أنشدَها الشّعراءُ المدحَ في الأسواق والساحات.

عاد الأمير عبد الله بعدَها إلى بلاط الخليفة تاركًا أمر الجيش لفاطمة التي راحتْ تخطّط لفتح القسطنطينية.

لم تكن فاطمة وقتذاك تعاني سوى من زوجها. كان يخجل الحارثَ أن تكون زوجته فارسة، فأخذ يشكو الأمر إلى ابن الرّباب؛ أخ فاطمة من الرّضَاعة ووصيفها، حتّى أقنعه بوضع سائلٍ سحريّ في طعامها. وفعَل.

حين استيقظتْ فاطمة صباحًا، خرّت قواها. حدسَتِ الرّباب أنّ فاطمة حاملٌ، لكنّها آثرت الكتمان.

نلاحظُ هنا على هامش الحكاية بعضًا من الخرافة الذي يتخلّل السِيَر الشعبية. فكيفَ لامرأةٍ أن تحبل بسائلٍ يوضع في الطّعام؟ نجدُ هذا أيضًا في سيرة الزير سالم الذي بلغتْ به الأسطورةُ حدّ أنْ حلَبَ السّباع وجاء بحليبها لزوجة أخيه، الجليلة، علّها تحبل.

عرفتْ ذاتُ الهمّة أخيرًا بحملِها. لزمتْ فراشَها شهورًا. لم تعتدْ من قبلُ حياةَ الكسَل وبطنها في انتفاخٍ يومًا بعد آخر. حاولتْ جاهدةً إجهاضَ جنينها لكنْ دون جدوى.

كانت إذ تسترجعُ ما حَدث، يزجّها الحزن في كآبةٍ دون قرار. ورغم ذلك، لم تكُفّ عن متابعة جديد الجبهات والتحصينات، بل والتحامل وامتطاء صَهوة جوادها لاستطلاع ما يحدث.

رغم أنّه من شيَم أبطال الملاحم الفخرُ، اتّسمَت فاطمة بالتّواضع وكانت ترفض أيّ عرضٍ يتقدّم به القادة لإطلاق اسمها على ما حرّروه من مدنٍ وجزُرٍ وقلاع

حين وضعتْ أخيرًا ابنها، عبد الوهاب، لم يكن ليشفيَ غليل فاطمة سوى أن تسرّب إليه جينات البطولة.

ترعرعَ عبد الوهاب على الفروسيّة. درّبته أمّه حتى صَار بارعًا، وكلّفته بخداع الروم وأَسْرهم. كانَ مضرب مثلٍ في حذاقته بالأسْر، حتى إنّ تسعة آلاف روميّ، تقول السّيرة، وقعوا في شَرَك خُدَعه.

كانت الأميرة ترى في ابنها خيرَ سندٍ وصديق؛ تحنّ إلى مشورته في معظم أمورها، ذلك أنّه خبِرَ فنونَ الحرب والقتال رغمَ حداثة سنّه.

تسلّمتْ فاطمة وابنها بعد فترةٍ جبهة القتال مع الرشيد (الخليفة هارون لاحقًا)؛ قسمٌ جابه الروم في مالطا بقيادة هارون الرشيد، وآخر قادته فاطمة لمحاصرة القسطنطينية.

جهّزتْ ذاتُ الهمّة الكثير من الخرائط والخطط التي تمهّد الطريق إلى المدينة، مع دراساتٍ وافيةٍ لاحتياجات الجيش وإمداداته وأسلحته، وما يكفيه خلال شهورٍ من الحصَار.

ثمّ ذاتَ ليلة، وبخُدعةٍ ماكرة، تحقّق حُلم ذات الهمّة، وقُلّدت أوّلَ أميرةٍ على المدينة، في حين عاد هارون إلى بغداد ليستخلِف أخاه بعدما عضل به المرض، وقد لقّب الأميرةَ بـ"أمّ المجاهدين".

بيد أنّ أعداءَ النجاح أخذوا يكيدونَ لفاطمة في البلاط، وروّعوا الخليفة من تعاظم نفوذها. كانت وقتها قد تفرّغت لتربية أحفادها على الفروسيّة، بينما عهدتْ بتدبير المدينة إلى ابنها.

أتتْ مآربُ الأعداءِ أُكلَها، وزجّ الخليفة بفاطمة وعبد الوهاب في السجن. لكنّ أحدَهم فرّ بهما ليلةَ ذاك، وحين وقفوا على أعتاب القسطنطينية، وجدوها على حافّة الخطر.

قادتْ فاطمة المعركةَ مرّةً أخرى إلى أنْ جُرحت. تولّى ابنها القيادة حتّى أعاد القسطنطينية إلى حوزة الخلافة. لكنّ ذاتَ الهمّة، وقتذاك، كانت قد ترجّلتْ عن صَهوة الحياة. 

كان موتُ أمّ المجاهدين متأثرةً بجراحها الغائرة داميًا ومُفجعًا. تنازعتْ بغداد والحجاز ومكّة قصبَ السّبق؛ كلّ تطالب بمواراة جثمانها في ثراها.

بيدَ أنّ عبد الوهاب حسَمَ الجدل وأمرَ بأن توارى إلى جانب جدّها الصّحصَاح. هناك، شيّدوا ضريحًا بقبّةٍ عظيمةٍ من الرّخام الأحمر تُعظّم أمجادَها. 

كما يحدث دومًا، لا يليق بالبطل/البطلة في سيرةٍ شعبيّةٍ أن يُتوفى على الفراش؛ تلكَ الوفاةُ التي سمّاها القائد الإسلامي، خالد بن الوليد، بـ"موت العير".

وهذه، بإيجاز، كانت حكايةَ ذات الهمّة، الحكايةُ التي تُروى في عامٍ كاملٍ ونسردها في بضعة أسطرٍ بالتجنّي على كثيرٍ من التفاصيل، علّنا نضيء ثانيةً بعض المناطق المُشرقة في التراث العربيّ الإسلاميّ، بعدَما أتى عليها الظّلام!

 

  • 1. شوقي عبد الحكيم، 'الأميرة ذات الهمّة'، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2016، ص. 10.
  • 2. نبيلة إبراهيم، 'الأميرة ذات الهمّة – دراسة مقارنة'، الطبعة الخامسة، القاهرة، المكتبة الأكاديمية، 1994، ص. 19.
  • 3. شوقي عبد الحكيم، 'الأميرة ذات الهمّة'، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2016، ص. 7.
  • 4. شوقي عبد الحكيم، 'الأميرة ذات الهمّة'، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2016، ص. 30.