هل أنا موجودة

05/12/2019
828 words

في شهر ديسمبر 2017، وقبل أيام قليلة من السفر إلى القاهرة، قصدت بيت أمي لأبحث ‏عن ‏صور قديمة لي. لم أجد سوى خمس صور فشعرت بالخيبة لأنّني لا أملك ‏الكثير من ‏ذاكرة طفولتي. سألت أمي عن السبب فأجابتني بأننا كنّا ننتقل من بيت إلى آخر فضاعت صور كثيرة في الأثناء، إلى جانب أنني ولدت في أوقات صعبة على العائلة، ولم يكن لديهم الوقت ولا القدرة على ‏توثيق لحظات نضوجي. غادرت إلى القاهرة، وكانت الخطّة أن أعيش في المدينة لمدة سنة أو سنتين ‏كحد أقصى. كنت خائفة جدًا من هذه الرحلة، خصوصًا من فكرة أن تبتلعني هذه المدينة ‏الضخمة، ‏فقررت أن آخذ معي القليل من تاريخي. ‏

يوم انفصالي عن حبيبي السابق وبعد علاقة دامت أكثر من أربع سنوات، عدت إلى المنزل وقمت بمحو ‏كل ‏صورنا، عن الهاتف وعن اللابتوب. من دون أن أفكّر كثيرًا في هذا الفعل. بعدها بشهر، التقيت به، ‏محاولين ‏أن نرسم طريقًا آخر للعلاقة، تكلّم كثيرًا في هذا اللقاء عن ساعات الوحدة في غيابي وعن صورنا ‏التي كانت ‏جزءًا أساسيًا لاسترجاع الأحداث ومحاولة فهمها. أخبرته أنني محوت كل صوره. غضب كثيرًا. لم ‏افهم غضبه، وفسّرت له بأنّني كنت أحاول ألاّ أنهار، أردت المضي قدمًا دون أن تطوّقني ذكراه. 

كان مستاءً جدًا وسألني حينها: أتحاولين مسحي من حياتك؟‏

هل فعلاً نقوم بمسح الأفراد من ذاكرتنا عندما نمحو صورهم؟

فعلٌ قاسٍ أن نحاول اقتلاع الأشخاص من حياتنا في لحظة واحدة وبكبسة واحدة، ولكن هل اللوم عليّ أنا ‏فعلًا؟ كيف لي أن أتعامل مع خيبة هذه العلاقة وتحمّل كل هذه الصور المُثقلة بالذكريات أمام عيني؟

لم أستطع التبرير ولم يتفهّم حاجتي الشديدة لمحو كل صورنا في تلك الفترة، لكن غضبه أيقظ سؤالا مهما في رأسي، ‏إن ‏كانت طفولتي غير موثّقة ولا أتذكرها، ولا أمي قادرة على تذكرها، فهل كنت موجودة؟ هل ‏هناك ‏جزء منّي مختفٍ؟ كيف عليّ أن أفهم نفسي من دون أي توثيقٍ واضحٍ لتاريخي؟

في شتاء 2016، أصابني أرق مفاجئ، ورغم ساعات النوم القليلة كانت تراودني كوابيس متشابهة، ‏تتكررّ ‏فيها الأحداث والأماكن. بعد حوالي أسبوعين، بدأت أفقد تركيزي في العمل وقدرتي على التواصل. ‏فقدت شهيتي، وانتابتني رغبة شديدة في الاختفاء، وأحيانًا، في قتل نفسي. قررت حينها الذهاب إلى طبيب نفسي. بدأنا الجلسات ‏بالكوابيس. سألني الطبيب إن كانت الأماكن التي ‏تراودني في أحلامي بشكل متكرّر موجودة في الواقع. هذه الأماكن مألوفة فعلًا، لكن لا أتذكرها بشكل ‏واضح. سألني إن كانت من ذكريات الطفولة، "لا أتذكر ‏شيئًا من طفولتي"، أجبته. فأخبرني أن نسيان ‏هذا الجزء من تاريخي هو مؤشر خطير، لأنني قد لا أتمكّن من فهم ‏حالتي من دون الرجوع إلى التاريخ.  

‏"من أنا؟ هل أنا موجودة؟ هل تاريخي كذبة؟"‏.

بعد جلستي مع الطبيب، اتصلت بأختي الكبرى، هي الوحيدة التي ‏يمكنها أن تساعدني على تذكّر ‏طفولتي. سردت لها كوابيسي، وأخبرتني أن جزءًا كبيرًا منها ‏حقيقي. هي وقائع حصلت فعلًا في ‏طفولتي. أقفلت الهاتف وعدت إلى المنزل مجهشة بالبكاء. أنا أحلم بشكل متكرر بأماكن وأحداث ‏حقيقية لا ‏أتذكر منها شيئًا. شعرت لوهلة بأنني غير قادرة على التفريق بين الحلم والحقيقة.‏ بين الوهم ‏والذكريات.  

‏"من أنا؟ هل أنا موجودة؟ هل تاريخي كذبة؟"‏.

من حسن حظي أنني أقوم بالكتابة منذ المراهقة، كنت أستمتع بتدوين نصوص قصصية قد تكون ممتعة ‏للآخرين. ما كنت أجهله أنني أقوم بأرشفة مشاعري وتطوّراتي دون قصد. في فترة الأشهر الأربع التي ‏كنت أذهب فيها إلى الطبيب، عدت كثيرًا إلى هذه النصوص، وكانت كفيلة بأن ‏تساعدني قليلاً على فهم ‏سلوكي المتكرّر ومحاولة كسره.‏

حينها فقط فهمت، أن توثيق التاريخ هو فعلٌ مهم.‏

وفهمت غضب صديقي مني حين حاولت محوه من ذاكرتي عن غصب. هل نسيته ‏فعلًا؟  

نفيته من ذاكرتي القصيرة، لكن العلاقة ما زالت تشكّل "خيبة" و"صدمة" في ذاكرتي العميقة. أدركت أن ‏هذا ‏ما قمت بفعله وأنا صغيرة، قمت بمحو الصور من ذاكرتي، لكن الصدمات ما زالت موجودة.‏

التوثيق ساعدني على الشفاء، هذا ما تعلّمته من تجربتي. ساعدني على اكتشاف نمط متكرّر ‏من ‏التصرفات، وبالتالي رسم خريطة لفهم سلوكي، وإدراك تاريخي، حتى الوصول إلى حلّ لاستيعاب صدمات ‏الطفولة.‏

نعتمد كثيرًا على النسيان أو النكران في الكثير من الأحداث والحالات، للتمكن، طبعًا، من المضي قدمًا. ‏ما ‏نجهله أننا نبقى عالقين، الوقت فقط هو الذي يمضي. النسيان تخدير، وهو فعلٌ بديل ‏للمواجهة. ‏النسيان فعلٌ لتأخير التعامل مع الخيبة.‏

سنة 2011، بدأ حراكٌ متواضع في لبنان، متأثرًا طبعًا بثورتي تونس ومصر. كان عمري 18 عامًا حينها، ‏نزلت ‏إلى الشارع وهممت إلى تغطية المظاهرات التي أشارك فيها ونشرها في صحيفة محليّة. لم أدرك حينها أن التغطية هذه ستكون مرجعًا لي في حراك سنة 2015. مرجع ‏لاستيعاب ‏موقعي كشابة مستقلّة تريد إحداث تغيير في بلدها. في 2015، كنت قد صرت صحافية، ‏وتغطية حراك الشارع بات جزءًا من عملي. سنة 2017، شاركت في ورشة عمل لصناعة القصّة المصوّرة الملتزمة، وكانت هذه أول مرة أقوم فيها بالتوثيق مع سابق الإصرار والتصميم. حينها كنت على ‏وعي ‏بأهمية التوثيق، واخترت أن أوثّق قضية "لو غراي" في المحاكم العسكرية اللبنانية، وتحديدًا قصّة ‏شابة تدرس ‏القانون قُبض عليها في حراك 2015.
المحكمة ‏العسكرية ‏كانت سببًا أساسيًا في توقّف الحراك، كانت "البعبع" الذي أوقف العديد من الشباب والشابات عن النزول ‏إلى ‏الشارع. قضية "لو غراي" كانت ناجحة لأنها أقرّت بعدم اختصاص ‏المحكمة ‏العسكرية في ملاحقة المدنيين في قضايا تتعلق بالتظاهر والتعبير، وهي تجربة مهمة لفهم ‏كيفية ‏محاربة المحكمة العسكرية في أي حراك مستقبلي في لبنان.

أحداث كثيرة، شخصية وغير شخصية كانت دليلي لفهم أهمية التوثيق، لفهم موقعي النفسي والسياسي، في ظل نظام موروث أحاربه يوميًا لأجد مساحتي فيه.