انطلاقًا من تأمّلاته في تاريخه الشخصي في ظل نظام أبوي مهيمن، يضع أنس إبراهيم مصطلح "الذّكورة السّامة" تحت المجهر ليبيّن كيف تتشكّل وتتجلّى وتؤثّر على الذكور أنفسهم.
أخبرَتني أمّي مرّةً أنّي في سنّ السادسة أو السابعة - لم أعُد أذكر - تشاجرتُ مع أختي التي تكبرُني بخمسة أعوامٍ على جهاز التحكّم بالتلفاز، وانتهى الشّجار عندما صفعَتني أختي، فبكيتُ وهربتُ إلى غرفتي. وكان الأمر لينتهي عند هذا الحدّ لولا أنّ جدّتي لم يعجبها الأمر، فراحَت تتوعّد أختي بعقابٍ عند عودة والدي إلى المنزل. ولمّا عاد والدي، طلبَت منه معاقبة أختي، فلم يفعل لأنّه رأى الأمر كما هو: مجرّد مشاجرةٍ بين أخٍ وأخته. لكنّ جدّتي كانت مُصرّةً على نهايةٍ أخرى؛ فثارَت غضبًا، لاسيما عندما سمح والدي لأختي بالخروج من المنزل برفقة صديقتها إلى المدينة، كأنّها لم تقترف إثمًا شنيعًا. هكذا، وإرضاءً لجدّتي، كان على والدي معاقبة أختي بعد عودتها إلى المنزل، ليعود نظام الأشياء إلى حالته "الطبيعيّة". ما هو نظامُ الأشياء ذاك؟ هو نظام الأشياء الذّكوري الذي بسببه كنتُ أستحقُّ أنا جهاز التحكّم بالتلفاز، وبسببه كان على أختِي أن تُعاقب لتجرّؤها على ضَرب أخيها الصغير.
هذه الحادِثة لم يكن لي ذنبٌ فيها، لكنّي أتذكّرُ مرّاتٍ أخرى كثيرةً تصرّفتُ فيها بذكوريةٍ لأنّ نظام الأشياء كما هو، يُبيحُ لي التصرّف بتلك الطريقة. في الحقيقة، لا أستطيعُ تذكّر اللحظة التي تمكَّنتُ فِيها من تحييد نظام الأشياء الذّكوري الذي يفترضُ أحقيّة الذكر في امتلاك العالم والهيمنة عليه. كان عليّ انتزاع نظام الأشياء المتجذّر في داخلي بالتوازي مع عمليّةٍ أخرى أشدّ أهميّة، هي إنشاءُ بنيةٍ ثقافيةٍ نقديةٍ متحرّرةٍ من الهيمنة الذّكورية، على الرغم من اعتقادي بصعوبة التخلّص تمامًا من الذّكورة كنظامٍ نفسيّ ثقافي، لأنّها كما في حادثة أختي، بُنيَتْ على هيئَةِ رسائل وطُقوسٍ وتقاليد اجتماعيّةٍ طاغيةٍ مثل التقسيمات الجندرية داخل الفضاءَين الخاصّ والعام، وتغذية الشعور بتعالي وتفوّق الرجال على النساء.
يعتبر بيار بورديو (Pierre Bourdieu) أنّ هيمنة النظام الذكوريّ تتجلّى في قدرته على الظهور كأمرٍ بديهيّ لا يحتاج إلى تبرير، فالرّؤية مركزيّة الذّكورة تفرضُ نفسها كأنّها محايدة، وهي ليسَت بحاجةٍ لتعلِن عن نفسها في خُطَبٍ تهدفُ إلى شرعَنتها. كما أنّ النظام الاجتماعي السائد يشتغلُ باعتباره آلةً رمزيّةً تُصادقُ على الهيمنة الذّكورية التي يتأسّس عليها. ويظهرُ ذلك في التقسيم الجنسيّ للعمل، التوزيع الصّارم للنشاطات بين "الذكور" و"الإناث" مكانيًا، زمانيًا وعلى مستوى الأدوات،1 كما في بنية الفضاءات الاجتماعية، كالتّعارض المَدروس والمقصود بَين الأمكنة المخصّصة للرجال وللنساء، للأولاد وللبنات. وفي الإدراك الاجتماعي كما في اللغة، يعتقدُ بورديو أنّ النّوع الذكريّ يبدو كأنّه بديهيّ، محايدٌ وغير مُحدّد، بعكس المؤنّث الذي يبدو مُخصَّصًا، مُشارًا إليه وسهل المُلاحظة.2 ففي اللغة على سبيل المثال، تُعتبر صيغة المذكّر المخاطَب شاملةً كل البشر، بينما تُعتبر صيغة المخاطَب المؤنّث مخصّصةً للنساء فقط. كذلك الأمر في مسألة التمثيل السياسي مثلًا، إذ يُعتبر البرلمان برمّته مذكرًا أساسًا، وتُخصّص في داخله كوتا نسائية استثنائية.
الذّكورة السّامة: ذكورةٌ مُتزعزِعة
في عالَمٍ ذكوريّ مثاليّ يكونُ فيه كلّ الرجال ’بروس ويليس‘ (Bruce Willis)، لن يشعُر أيّ رجلٍ بأيّ ضغطٍ نفسيّ، وسيكون بإمكان النّساء العيش كأميراتٍ ينتظِرن فارسهنّ الذي سينقذهنّ حتمًا في آخر لحظة. سيُمارسن الجنس معه، فإمّا يشعُرن بإشباعٍ جنسيّ هائلٍ أو يتصنّعن النّشوة، إذ من غير المعقول ألّا يستطيع ’بروس ويليس‘ إرضاء المرأة التي أنقذها للتّو؛ وسيكون نظام الأشياء الذّكوري في حالةٍ مُستقرّةٍ بَل رائعة. في ذلك النظام، يكون بمستطاع الرجل الظهور بالطريقة التي "يُفترَض" أن يظهر بها: قويّ، شريفٌ وفحلٌ قادرٌ على فضّ البكارة وإنجاب الكثير من الأولاد الذّكور، وسيكون هناك طبعًا طفلةٌ صغيرةٌ يعتني بها باعتبارها "أميرته الصّغيرة" إلى جانب "أميرته" الكبيرة.
نظام الهيمنة الذّكورية هو في الأصل نظامُ هيمنةٍ سياسيةٍ بطريركيةٍ يعتمِدُ على التراتبية الاجتماعية التي تسحَقُ الطبقة الأدنى وتُبقي عليها في حالةٍ من العجز والعوَز
يبدأ النظام النفسيّ الذّكوري بالتزعزُع عندما لا يحصلُ الرجال على ما يُريدون، ويحدُثُ ذلك على مستويَين: الأوّل هو المُستوى الفردي، إذ يُطوّرُ الذّكر حالةً من انعِدام الثّقة والشعور بالضغط النفسيّ التصاعديّ مع تزايد إدراكه الداخلي بأنّ مكانته في الفَضاءات الاجتماعية والسياسية المُتاحة كذكَرٍ هي مكانَةٌ مُقوّضةٌ ومَنقوصة. أمّا المُستوى الثاني، فيكون عند اصطدام الطموح الذكوريّ بالواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي خلقهُ نظامُ الهيمنة الذّكورية؛ ذلك أنّ نظام الهيمنة الذّكورية هو في الأصل نظامُ هيمنةٍ سياسيةٍ بطريركيةٍ يعتمِدُ على التراتبية الاجتماعية التي تسحَقُ الطبقة الأدنى وتُبقي عليها في حالةٍ من العجز والعوَز. وفي المجتمع الليبرالي الحديث، تُصبِحُ الفوارق الطبقية الاقتصادية والاجتماعية أشدّ وطأةً على الفُقراء، وكذلك على الطبقة الوُسطى التي يُصبحُ ذكورها - حرفيًا - مُسوخًا ذكوريةً غير قادرةٍ على "التملّك" بالطريقة التلقائية والعفوية كما يُفترض بهم أن يفعلوا. في هذا السياق، يُصبحُ لزامًا عليهم القتال للحصول على مُبتغاهم، بالتوازي مع نموّ شعورٍ داخلي لديهم بأنّهم ليسوا رجالًا بـ "المعنى الحقيقي"، لعجزهم عن أن يكونوا أقوياء، أشدّاء، قادرين على الإعالة و"التملّك" الذكوريّ الذي يفسّره بورديو بأنّه أساس علاقات الهيمنة الذّكورية، ويظهرُ بوضوحٍ في الفعل الجنسي. فالمنظور الذّكوري يرى العلاقة الجنسية بمنطق الفَتْح، لأنّ الفعل الجنسيّ نفسه يُرى كشكلٍ من أشكال الهيمنة، الاستيلاء والتملّك.3 فالرجالُ يميلون إلى التفكير في الجنسانيّة بوصفها فعلًا عدوانيًا وجسديًا بشكلٍ خاصّ، يتجسّد بالفَتح الموجّه نحو الإيلاج ورعشة الجماع. وحتى الممارسات الجنسية التي لا تتضمّن إيلاجًا، كالمصّ أو اللّحس، يميلُ الذّكر إلى التفكير فيها بمنطق الإخضاع والتلذّذ بالقُدرة على الإمتاع. فجزءٌ من الاستمتاع الذّكوري هو استمتاعٌ بالاستمتاع الأنثويّ وبالقُدرة على الإمتاع.4 وفي هذا الصّدد، تُفسِّر كاترين أ. ماكينون (Catherine A. Mackinnon) تظاهر النساء بالرعشة الجنسية بوصفه أداة إثباتٍ مثاليّة لسلطة الذّكورة، تجعل التفاعل الجنسيّ مطابقًا لرؤية الرجال الذين ينتظرون من الرعشة الجنسية الأنثوية دليلًا على رجولتهم، وعلى المُتعة التي يؤكّدها ذاك الشكلُ الأعلى من الإخضاع،5 تمامًا كما في حالة ’بروس ويليس‘.
هذه بعضُ الأفكار الرّجولية بشأن الشّكل الذي يجبُ أن يكون عليه العالم، والتي تتعارَضُ والواقع الاجتماعي، السياسي وحتى الجندري في العقود الأخيرة. ويبلغُ هذا التعارض حدّ التناقض التناحُري - فلا يُمكِنُ إلّا أن يكون هناك ’بروس ويليس‘ واحد، وهو موجودٌ فقط على الشاشة لا في الواقع - ما يولِّدُ ذكورةً سامّةً تتمثّل في الشعور بالعجز لدى الذّكور، وبأنّهم أساسًا لا يستحقّون رجولتهم، لا يستحقّون أجسامهم، ولا يستحقّون "قضيبهم" غير القادر على الفَتْح والإخصاب.
يُعدُّ مصطلح السُمِّية (Toxicity) مُصطلحًا تفسيريًا يُوصِّفُ الآثار النفسية البيولوجية الناتجة عن أنماطٍ معيّنةٍ من السلوكيّات أو البيئات الاجتماعية. فالشّيءُ الذي يُشَخّصُ سُمِّيًا، هو شيءٌ يُفهَمُ كخطرٍ مُباشرٍ أو غير مباشرٍ على الصحّة النفسية أو البيولوجية للأفراد، ما يستتبع بالضّرورة السّيطرة عليه من قبل طرَفٍ خارجي - كالمُعالج النفسي أو حتى الشّريك العاطفي - لكن أيضًا من قبل "الذّات السّامة" التي يُفترَضُ بها أن تُدرك أوّلًا مصدرَ السّمّية الأصليّ كي تقدر على معالجته، وهو في حالة الذكورة السّامّة: الإحباطُ الناجم عن العجز عن ممارسة ذكوريةٍ مُهيمِنةٍ من دون أيّ عقَبات. ظهر مصطلحُ "السّمّية" في خلال العقود الأخيرة عندما بدأ عددٌ من المعالجين والأطبّاء النفسيّين يلاحظون أنماطًا متكرّرةً من الإجهاد العصبيّ، الإحباط والاكتئاب الحادّ، رافقَتها سلوكيّاتٌ عدوانيّةٌ شملَت العنف الأُسريّ، الاعتداءات الجنسية وغيرها من السلوكيّات الذّكورية العدوانية ضدّ النساء.6 واستتبَع ذلك التشخيصَ ربطٌ بين ممارسات الذّكورة المقموعة داخل المجتمع الرأسمالي، وشعور الذّكور بالعجز عن أن يكونوا "رجالًا" قادرين على إعالة عائلاتهم والسّيطرة على زوجاتهم وأُسرِهم من جهة، وسَعيهم إلى امتلاك أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من السّيطرة والهيمنة في فضاءاتهم الاجتماعية والعمليّة بهدف بلوغ الكمال الرّجالي المُطلق من جهةٍ أخرى.
الذّكورة السّامة تؤثِّرُ في اتّجاهين: أوّلًا، على الذّكور أنفسهم، وثانيًا، على الآخر أو الأخرى التي تُستخدَمُ كموضوعٍ لتفريغ مشاعر العجز والغضب لدى الذّكور، أو لممارسة القوّة الذّكورية المُفرطة والاستعراضيّة
يعني ذلك أنّ الذّكورة السّامة تؤثِّرُ في اتّجاهين: أوّلًا، على الذّكور أنفسهم، وثانيًا، على الآخر أو الأخرى التي تُستخدَمُ كموضوعٍ لتفريغ مشاعر العجز والغضب لدى الذّكور، أو لممارسة القوّة الذّكورية المُفرطة والاستعراضيّة. لذلك، يُعتقَد بأنّ الذّكورة السّامة مسؤولةٌ عن الأنماط السلوكيّة العدائيّة الغيريّة جنسيًا التي تتمظهر في العنف الأسريّ والاعتداءات الجنسية كالتحرّش والاغتصاب، وكلّها سلوكيّاتٌ تندرجُ في إطار استعراض الذّكر قدرتِه على الفَتح، التملّك والإخضاع. وبالتوازي مع ذلك، تدفع الذّكورة السّامة بالرّجال إلى التصرّف كرقباء قمعيّين على أنفسهم للتأكّد الدائم من تصرّفهم كـ "رجال"، وللحفاظ على صورتهم الذّكورية الصّلبة كما هي. ويتجلّى ذلك في تجنّبهم طلب المساعدة النفسية والعاطفية، وتفادي الإفصاح عن مشاعرهم أو ممارسة العادات الموصومة كعاداتٍ أنثويّةٍ تُقلِّلُ من رجولتهم، كالرّقص، الاعتناء بالصحّة النفسية أو حتّى البُكاء لدى مشاهدة فيلمٍ عاطفيّ مثلًا.
ضحكة غريتا المُثيرة للأعصاب الذّكورية
من بين الشخصيّات الذّكورية السّامة العديدة التي ظهرَت في الدراما العربية، برزَت شخصيّة الدكتور طارق في مسلسل ’تخت شرقي‘ (2010)، والتي أدّاها الممثّل السّوري مكسيم خليل أمام شخصيّة غريتا التي أدّتها الممثّلة السّورية سلافة معمار. تقدّم شخصيّة طارق نموذجًا عن الشخصيّة الذّكورية المأزومة في مجتمعٍ يجبِرُ الرّجل على العيش في قلب تناقضاتٍ تناحريّةٍ نفسيةٍ وثقافيةٍ تحوِّله إلى نوعٍ من المسخِ الذكوريّ السّام. فطارق لاجئٌ فلسطيني يقيم في سوريا، متعلّمٌ ويعيش حالة عسرٍ مادّي يتحمّلها على أمل انتهاء فترته التدريبية قريبًا ليشرع في تحقيق ذاته كطبيبٍ ناجح. هو مُتصالحٌ مع نظام الهيمنة الذّكورية السياسي القائم، إذ يعتقدُ أنّه سيكافئه ويُتيحُ له إمكانية الاندماج فيه، ليتمكّن لاحقًا من الانضمام إلى الطبقة المُهيمِنَة لا المُهيمَنْ عليها. لكن في هذه الأثناء، تبرز غريتا التي يشرَعَ هو في محاولات فرض هيمنته الذّكورية عليها. غريتا هي طبيبةٌ متدرّبةٌ يلتقيها طارق في كافتيريا المشفى، مولودةٌ لأمٍ أجنبية، ما جعلَها بحسب طارق "حقيقيةٌ ومختلفةٌ عن البنات اللّي هون". لكنّ عفوية غريتا لم تكن ما جذبَ طارق بالفعل، بل رغبتهُ الدفينة في إخضاع هذا الجسَد بعينه، وتطويع هذا الكائن بعينِه وتحويله إلى ما يُريدُ له هو أن يكون. هذا الجسَدُ الأشقر ذو العينين الزرقاوَين هو ما فتحَ شهيّة طارق على الفَتْح والتملّك: أن يُثبّت قضيبَه على جسَد غريتا ويُعلنها زوجةً طَيِّعةً مُدجّنةً تخصُّه، أي مُلكه. ذلك هو وعدُ النظام الذكوريّ للذّكور: التملّك، وظيفةٌ رائعة، مكانةٌ اجتماعيةٌ مرموقة، اعترافٌ اجتماعيٌ بالفحولة وامتلاك امرأةٍ مُدجّنةٍ (Docile woman). لكنّ ذلك العنصر الأخير من الحلُم لم يتحقّق لطارق، إذ استمرّت غريتا بإطلاق ضحكتها الصّاخبة التي زَعزعَت ذكورته وثقته بقدرته على تطويعها. كان على غريتا التوقّف عن الضّحك بصوتٍ صاخب، وعدم ارتداء الملابس القصيرة. ولأنّ الإمتاع القضيبيّ جزءٌ من استعراض الفحولة الذّكرية، كان عليها أيضًا التوقّف عن لَعق البوظة في العلن.
في النهاية، يُقرّر طارق أنّه مرتاحٌ في جلده الذكوريّ السّام كما هو، إذ لم يستطع احتمال ضحكة غريتا الصاخبة، ولا التحكّم في غيرته الذّكورية التي جعلته يُحاصِرُها أينَما ذهبَت ويُكذّبُها باستمرار، إلى أن حوّلها من المرأة العفوية التي كانت إلى امرأةٍ تكذِبُ بالفعل في محاولةٍ لإرضاء ذكورته بطريقةٍ ما. ثم كانت الصّفعة التي تلقّتها منه بإنهائه العلاقة بينهُما، لكن ليس قبل صفعةٍ أخرى حقيقيةٍ وجّهتها له هي على خدّه الأيمن، أنهَتْ شعورَه برجولته في هذه العلاقة كلّيًا.
تقدّم شخصيّة طارق نموذجًا عن الشخصيّة الذّكورية المأزومة في مجتمعٍ يجبِرُ الرّجل على العيش في قلب تناقضاتٍ تناحريّةٍ نفسيةٍ وثقافيةٍ تحوِّله إلى نوعٍ من المسخِ الذكوريّ السّام
يقدّم الممثّل السّوري باسل خيّاط شخصيةً ذكوريةً سامّةً أخرى في مسلسل ’تعب المشوار‘ (2011)، هي شخصيّة الدكتور كمال؛ الشخصيّة العلميّة المُصابة بوسواسٍ قهريّ يجعلُها تقدّر الدقّة، الإتقان والتفوّق العلميّ فوق كلّ شيءٍ آخر. ومثلما يكتبُ بورديو عن العلاقة الجنسية بوصفِها ممارسة هيمنةٍ وتملّكٍ لدى الرجال، كذلك يتصرّفُ الدكتور كمال مع زوجته سُهير التي تؤدّيها الممثّلة كاريس بشّار، بوصفها مُلكه الشّخصي وجسدًا للاستيلاء والمُضاجعة تحديدًا عند رفضِها له واشمئزازها حتى من الاقتراب منه. بالإضافة إلى ذلك، تبرز معاملته القاسية لابنه الذي يحاول إرغامه على الدرس بشكلٍ دائمٍ ويؤنّبه على كلّ سلوكٍ "غير مقبولٍ" من وجهة النظر الذّكورية، موبّخًا زوجته على تدليله وإفساده، ومردّدًا العبارة الذّكورية الشّهيرة: "ستخرّبينه، لن يكون رجلًا أبدًا".
أخيرًا، وفي سياق المحاربة الاجتماعية والعلاجية لظاهرة الذّكورة السّامة، يظهرُ مُصطلح "الذّكورة الصحّية" بوصفه نقيضًا للذكورة السّامة. والذكورة الصحّية هي التي تطمح إلى توعية الذكور والرجال إلى القضايا السياسية، الاجتماعية والشخصية التي من شأنها دفعهم إلى الرفض العقلانيّ لكامل المنظومة الذّكورية الأبوية القمعية، والالتزام بتفكيك علاقات القوّة الجندرية غير العادلة.7 إلّا أنّ الإشكالية في هذا المُصطلح هو الافتراضُ الضمنيّ بأنّ الذّكورة نفسها تنضَوي على قيمٍ إيجابيةٍ يمكنُ تحويل معانيها بطريقةٍ ما لتكون مصدرًا لتحقيق العدالة الاجتماعية، بدلًا من كونها مصدرًا لإدامة حالة اللاعدالة القائمة. وتكمن الإشكالية في أنّ هذا الافتراض قد يكون خاطئًا، أو ربّما محاولةً أخيرةً لعدم التخلّي عن الذّكورة وعن النظرة الذّكورية للعالم عبر "إصلاحها"، أو لعلّه محاولةٌ لاواعيةٌ لفرضِ نوعٍ آخر من الهيمنة الذّكورية "الجيّدة" وفقًا لدُعاتها. لكن أيضًا، قد يكون المصطلحُ دليلًا على سطوة النظرة الذّكورية لدى الذّكور على نظام الأشياء لديهم. فحتّى عند التفكير في العلاج، لا بدّ له أن يكون عِلاجًا مُستمدًا من الأيديولوجيا الذّكورية نفسها لا من خارجها؛ فلا شيءَ خارجها يصلُحُ للذّكور.
- 1بيار بورديو، 'الهيمنة الذكوريّة'، ترجمة سلمان قعفراني، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2009، ص 27-28.
- 2المرجع السابق، ص 27-28.
- 3المرجع السابق، ص 42-44.
- 4المرجع السابق، ص 43.
- 5Catherine. A. Mackinnon, ‘Feminism Unmodified: Discourses on Life and Law’, Cambridge, Massachusetts: Harvard University, 1987, p. 58
- 6Andrea Waling, “Problematising ‘Toxic’ and ‘Healthy’ Masculinity for Addressing Gender Inequalities”, Australian Feminist Studies, 34(101), 2019, p. 362-375
- 7Kalle Berggren, “Sticky Masculinity: Post-Structuralism, Phenomenology and Subjectivity in Critical Studies on Men”, Men and Masculinities 17(3), 2014, p. 231–252
إضافة تعليق جديد