ما هي الهوية الكويرية؟ وماذا تعني لنا كأشخاص ملوّنين مقيمات ومقيمين في المهجر؟ وما هي التحديات التي نواجهها في الغربة بسبب تعدد هوياتنا؟ وكيف يتقاطع العرق والجندر في فهمنا لموضوع الهوية؟ يحاول ليل الإجابة على هذه الأسئلة من خلال مقاربة نسوية، فلسفية واجتماعية.
عادةً ما يخالجنا شعورٌ بالانتماء لمجرّد سماعنا بمفهوم الهويّة. فالهويّة هي تمثّلاتنا بشأن ماهيّتنا، وإجابتنا عن سؤال: من نحن؟ أو محاولتنا العثور على إجاباتٍ تجسّد مساعينا ونضجنا العاطفي والفكري. كما أنّها وعينا بكلّ هذا وما هو أبعد، فهي فهمنا لذواتنا بكلّ خصوصيّتها العرقية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وامتزاجُ كلّ هذه العناصر معًا. هويّتنا أيضًا هي أصولنا الممتدّة وجذورنا المغروسة والمتشعّبة في عمق أراضي أسلافنا. وبالرّغم من هذا، تجدنا نخال أحيانًا أنّ هويّتنا مرتبطةٌ بالأرض التي نحن عليها فقط، متغاضيات/ين عن أنّها مفهومٌ عميقٌ بعمق أرواحنا. هويّتنا هي من نحن بكلّ ما فينا، وهي كلّ تأثيرات محيطنا وخبرِنا الوراثي1 فينا وعلينا. هويّتنا ليست واحدةً بل متعدّدة، أراها أحيانًا بئرًا عميقًا مرّ عليه تاريخٌ حافلٌ بالآلام والمسرّات، يُسمع فيه صدى الأسرار الغابرة وصوت الماء الرّاكد. في كلّ مرحلة، يُضاف شيءٌ جديدٌ ما إلى هويّتنا يُكسبنا نضجًا وتطورًا جديدًا نحو ذواتنا ووعيًا أشمل وأوسع لمَن نكون. فالهويّة إذًا تتحرّكُ فينا وتُحرّكنا كي نصل إلى معرفة أصلنا وامتدادنا. وكأيّ حركة، من شأنها زحزحتنا وزعزعة ما نعتقده عن ذواتنا الحالية حتى نُكوّن معرفةً كاملةً ومتجددةً في كلّ وقتٍ وحينٍ عمّا نكون. كما أننا لا نخلق صراعاتٍ مع ماضينا ومكوّنات هويّتنا الأصلية عند إضافة عناصر جديدةٍ إلى هويّتنا.
أحيانًا، تجدني أجلس في صمتٍ مميتٍ أتساءل عمّن أكون، وما إذا اختلفَتْ هويّتي عندما هاجَرْتُ إلى أرضٍ جديدةٍ لا تشبه موطني في شيء. ثم أعود لتعريف ذاتي عندما ينتابني شكّ، من أنا؟ فتكون إجابتي كالآتي؛ أنا منحدرٌ من جذورٍ إفريقيةٍ، أمازيغيةٍ، عربيةٍ، شمال إفريقيةٍ، من شمال المغرب، لهجتي مغربية، أندلسية، عربية ومزيج من لغاتٍ أخرى لا أعرفها، مع احتفاظها بما تبقى ربّما من اللغة الأمازيغية قبل سياسة التعريب وبعض رواسب الاستعمار التي تتجلّى في بعض الكلمات الإسبانية والفرنسية. نشأتُ وترعرعتُ في أسرةٍ مسلمة، معتدلة، محافظة ومتوسّطة الدخل. تعبيري الجندري كويري لاثنائي، فكري نسوي، وأنا مهاجر/لاجئ مقيمٌ في أوروبا. من خلال هذا التعريف، يمكننا أن نلمس تقاطعيةً واضحةً بين هويّتنا الجندرية من جهة، وهويّتنا العرقية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جهةٍ أخرى. كما أن فهمنا لجوهر هذه التقاطعية هو ما يجعلنا نمضي قدمًا نحو التصالح مع الذّات، من أجل اختيار كفاحنا برفقٍ ومراعاةٍ وتقديرٍ وحُبٍ لكلّ المراحل والمحطات التي قادتنا إلى ما نحن عليه الآن من نضجٍ ووعيٍ إنساني.
إذًا، الهويّة الكويرية هي هويّةٌ متقاطعةٌ مع كياننا العرقي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي. هي عصارة كل هذه المجالات وتأثيرها بنا في تعاملنا وإحساسنا وتقديرنا لذواتنا، بل حتى في فكرنا وأحكامنا الجاهزة والمسبقة. كما أنّ تأثّر كل هذه المجالات بإسهاماتنا وسلوكياتنا وتعبيراتنا الجندرية وجنسانياتنا وميولنا العاطفية، هو ما يجعل الهويّة الكويرية هويّةً معقّدة. فهي ما زالت في الهامش بالرغم من غناها وتفرّدها بفعل رفضها الانصياع للنّظام النّمطي السّائد الرّافض للتعدّدية الجندرية، وأيضًا بحكم خروجها عن القانون والعرف، ومعاناتها مختلف أشكال الاضطهاد على مرّ الأجيال عبر القوانين المجحفة التي تكرّس الإقصاء والتّهميش والتّمييز على أساس التعبير الجندري والجنساني. أما اقتران كل هذه الممارسات التمييزية على أساس الجندر بممارساتٍ عنصريةٍ أخرى على أساس العرق، واللون، والدّين، والمعتقد، والطبقة الاجتماعية، والحالة المادّية، والسّلامة البدنية والنفسية، فيجعل الاضطهاد متعدّد الزّوايا ومعقّدًا بالنّسبة للهويّة الكويرية، لاسيما تلك المنحدرة من أصولٍ شمال إفريقية، أمازيغية، عربية، شرق أوسطية و/أو دول الجنوب عمومًا.
الهويّة الكويرية هي هويّةٌ متقاطعةٌ مع كياننا العرقي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي. هي عصارة كل هذه المجالات وتأثيرها بنا في تعاملنا وإحساسنا وتقديرنا لذواتنا
لم تكن الهجرة يومًا فكرةً مُحَبّبة. وعندما يتعلّق الأمر بهجرة الأقليات التي تعاني التمييز والاضطهاد، الأمر ليس خيارًا كما يظن البعض. فالهويّة الكويرية هي كنبتةٍ نمَت وترعرَعت في بيئةٍ لم تخترها، إذ جلّ ما كانت النّبتة تحتاجه هو الحُبّ، والرّعاية، والتّقبل والتفهّم. أما الهويّة الكويرية المهاجرة، فجذورها لا تُقتلع من الأرض التي وُلِدت فيها، لذا نراها تسافر وتحوم لكنّها لا تغادر بِكُلّها. تظل تحمل معها باقي هويّاتها المزدحمة والمتشابكة والفوضوية أحيانًا، كحقيبة سفرٍ حُزِمت على عجل. هذه الهويّة الثقيلة والمضطّرة للهروب لأن القانون يجرّمها، والمجتمع لا يرحمها، والعائلة البيولوجية لا تقبلها وأهل بلادها لا يفهمونها وإن تكلّمت اللغة ذاتها. تهاجر لأن الهجرة تصبح هي الحلّ. تهاجر الهويّة الإفريقية والأمازيغية والشرق أوسطية إلى أوروبا طامحةً إلى السلام، والأمان، وسياساتٍ وقانونٍ يجرّم بالحدّ الأدنى التمييز المبني على النوع، ويحمي الهوية الكويرية ويحتفل بالتعدّدية الجندرية. لكنها تصطدم بواقعٍ آخر من التهميش والوصم والتمييز العنصري؛ فلا في بلادها عاشت بسلام، ولا في بلاد المهجر تعيش بسلام. كأنّ الهويّة الكويرية الآتية من بلدان دول الجنوب كُتب لها أن تبقى ممزّقةً بين كل الهويّات. في الهجرة، نسترجع فقط هويّتنا الكويرية، لا حقنا في أن نكون من نكون بكل اختلافاتنا. لكن بالرغم من جميع تلك التحدّيات، نصرّ ألا نفلت هويّتنا العرقية والثقافية والسياسية لكونها غير مفهومةٍ وغير مقبولة، أو لأنها ليست بيضاء "بما يكفي"، بل نحفظها في قلوبنا وعقولنا متعددةً وفخورة. نحفظها من خلال نوستالجيا رائحة زيت الزيتون والتين، والشاي بالنعناع الطازج، والمقاهي الشعبية المطلّة على القصر الملكي، والأكلات السريعة، وسائقي التاكسي، وميدان التحرير، ومذكرات نوال السعداوي وكتب فاطمة المرنيسي، ومقالات الكوير المتحدثات/ين بالعربية، وأطباق مطابخنا الغنية بأشهى المذاقات، وشارع الحبيب بورقيبة، وجدران بيروت، وطبعًا في يوفوريا محاولات قلب الأنظمة عبر ثوراتنا التي هزّت الشوارع. نحفظها حتى في ألوان قوس قزحٍ التي رفرفت بحريةٍ وشجاعةٍ وإباءٍ في ساحاتٍ رافضةٍ للحرية والعدالة الاجتماعية، وفي كل الأشياء التي تُكَوِّن هويّاتنا. هكذا، نُكَوِّن من شتاتنا قوّةً تجمعنا في بلاد الغربة عن طريق إعادة إحياء ذكرياتنا المشتركة، وبناء فضاءاتٍ تشفي هويّتنا المبعثرة والمجروحة نتيجة كلّ العنف الموجّه ضدّنا نحن الكوير ملوّني البشرة في دول المهجر، سواء كان عنف إجراءات اللجوء والهجرة، أو السياسات العنصرية عبر الممارسات البوليسية القمعية والممنهجة للنظام الأبوي ـ الرأسمالي الذي ما زلنا نقاومه من بين براثنه.
تتمثّل أزمة الذّات الكويرية في المهجر بالتحدّيات التي يواجهها الأفراد الكوير سواء في بلد الولادة أو بلد الإقامة. والجدير بالذكر أَنّ التحدّيات تزداد صعوبةً على الأرجح في خلال مشوار الهجرة، لأنّ عملية التكيّف مع محيطٍ غريبٍ عنّا وعن متطلّباتنا واحتياجاتنا ليس بالشيء الهيّن. وخير مثالٍ على هذا، الضغط المُمارَس من قبل المصالح المعنيّة من أجل إتقان اللّغة في إطار سياسة إدماج المهاجرات/ين واللاجئات/ين في سوق الشغل، بلا مراعاةٍ لظروفنا الإنسانية وخلفياتنا الثقافية والسياسية والتعليمية، ووسط تجاهلٍ لأوضاعنا النفسية والعاطفية أيضًا. نتيجة ذلك، يُصبح تعبيرنا عن هوياتنا غير آمنٍ بالضرورة، وحينها تبدأ ذواتنا بالاختباء والعزلة والإحساس بالإقصاء مرةً أخرى. كل هذا من شأنه إعادة تمثيل مسرحية صدماتنا السابقة التي كنّا نظنّ أنّنا تخلّصنا منها ووصلنا إلى برّ الأمان. لذلك، يُصاب أغلبنا بالإحباط والإحساس بالفشل والنّقص وانعدام القيمة، حتى نبلغ من الإجهاد النفسي والجسدي حدّ فقدان الإحساس بالقدرة على المقاومة والعطاء. تُستنزف طاقاتنا وتخور قوانا من جديدٍ ونبدأ بالتّساؤل مرّةً أخرى؛ هل نحن في المكان الصحيح؟ هل كان قرارنا صائبًا؟ من نحن إذًا؟ أين مكاننا الآمن؟
تتمثّل أزمة الذّات الكويرية في المهجر بالتحدّيات التي يواجهها الأفراد الكوير سواء في بلد الولادة أو بلد الإقامة. والجدير بالذكر أَنّ التحدّيات تزداد صعوبةً على الأرجح في خلال مشوار الهجرة
دائمًا ما يُشعرنا اختلالُ موازين القوى بالضّعف والدُّونية وعدم الثّبات، إذ يعمل النظام الرأسمالي الذكوري على تحديد موقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كأقليّاتٍ غير ممثّلةٍ في مواقع صنع القرار، بالرغم من وعينا التام بشؤوننا وقضايانا، وتقديرنا لتجاربنا الإنسانية وإدراكنا لقوانا الداخلية المنبعثة من مكان المعرفة والحب والكفاح. في هذا السياق، تصبح أحيانًا أصواتنا ومسيراتنا وألواننا مجرّد تغطيةٍ إعلاميةٍ صوريةٍ ترعاها الحكومات للتّمويه وعكس صورةٍ متقدّمةٍ عن نفسها. إنّ هذه السلطة العالمية على أجسادنا الكويرية المختلفة وأفكارنا التحرّرية المؤمنة بأنّ النسوية التقاطعية هي نضالنا الراديكالي من دون أيّ تحفظٍ أو تفاوض، لن توقفنا ولن تنتشل هويّتنا منّا. إنّنا كأفرادٍ كوير مهاجرات/ين ولاجئات/ين من دول الجنوب، عابرات/ين للجندر والحدود الجغرافية والتاريخية، نحاول إنهاء الاستعمار والاستيطان بكلّ أشكاله، واسترجاع مساحاتنا وأجسادنا وكل ما يشكّل هويّاتنا وفخرنا. لكنّ محاولات الإقصاء والمماطلة والتضليل بغية إنهاكنا والدفع بنا إلى الاستياء والعودة إلى أراضينا قبل الحصول على حقوقنا كاملة، من شأنه الحفاظ على موازين القوى على حالها. تظل النساء والعابرات/ين وكل الفئات المجتمعية المهمّشة تعاني العنف بجميع أنواعه، ويُزجّ بالأفراد الكوير في السجون بموجب قوانين إمبرياليةٍ تحكم بلداننا، وتُرفَض ملفّات اللّجوء لعدم اقتناع المسؤولين عن شؤون التجنيس والهجرة بصحّة هويّتنا الكويرية. إنه لدليل على فشل المنظومة الرأسمالية الاستعلائية وبروز عيوبها التي كانت تسْتتِر تحت لواء الحرية والحقوق. فالحقوق لا تتجزأ: إما أن تُقبل هويّاتنا الكويرية المتنوعة بتنوّع لغاتنا وثقافاتنا وأجسادنا، أو سيشهد التاريخ على هزلية المرحلة وفشل الأنظمة العالمية في ترسيخ مبادئ العدالة والحرية والسلام مرةً أخرى.
- 1الخبر الوراثي هو برنامجٌ وراثي يحدّد الخصائص النوعية للكائن الحيّ، وهو المسؤول عن ظهور الصّفات الوراثية وتناقلها من جيلٍ إلى آخر.
إضافة تعليق جديد