صاح والدي غاضبًا، بعد أن أرسل أختي جسدًا واحدًا إلى بيت الزوجية، فإذا بها تعود إليه كلّ يومٍ ثلاثة أجسادٍ كأنّه لم يزوِّجها.
عقب تخرّجي مباشرةً، تزوّجَت أختي التي تصغرني بثلاثة أعوام. وبعدها بثلاثة أعوام، تكاثَرت إلى ثلاثة أجسادٍ أخرى في شارعنا نفسه، فأصبح بيتنا مليئًا بالفتيات والأجساد. إنها مصطلحاتٌ ترعب ربّ أيّ أسرةٍ متوسّطة الحال، كأن تخرج عملية التخليق من يده إلى يد ربّ أسرة آخر، وتظلّ الأجساد تمتّ له بصِلةٍ ما. لذلك، من باب الاحتياط، اشترى والدي بيتًا مقابلًا لبيتنا، ليهرب إليه كعاصمةٍ نائيةٍ ليس فيها أيّ شيءٍ أنثوي يضايقه، ولا أجساد من المحتمل أن تتكاثر.
كنت كلّما كبرتُ عامًا أتعمّد استفزازه بالأسئلة، ليس رغبةً في المعرفة، بل لأن السؤال كان أشبه بصفعةٍ لشخصٍ غائبٍ عن الوعي والحقيقة. أسأله: "هل كان يصيبك اكتئابٌ ما في كلّ مرةٍ كانت أمي تنجب فتاةً بدلًا من صبي؟" فيجيبني متنهدًا: "على الإطلاق، لطالما كنتُ شاكرًا".
لم يجبني مرةً إجابةً أنتظرها، مثل أنه كان يرغب بعددٍ محدّدٍ أو نوعٍ معيّنٍ من الأولاد. لم ألحظ أن عملية الإنجاب بكثرةٍ تشكّل له ضيقًا! كان كلّما حاصرتُه بالأسئلة تظاهر بالرضى، قائلًا: "من ربّى أربع فتياتٍ وعدَه الله بالجنّة، فما بالك بعددكنّ؟" لكنّه كلّما ينفعل يَسبّنا بأعضائنا الأنثوية وقلّة حيلتها وكثرة وجودها في بيته، ثم يبدأ وصلة كلامٍ بصوتٍ عالٍ عن دور المرأة السّيء في حياته، بدءًا بأمّه وأخواته وبنات أعمامه وبنات خالاته، وصولًا إلى بناته من زوجته الأولى، وأمّي، ونحنُ وحتى قطّتنا ورغبتها في التزاوج على باب بيتنا كل ليلة.
اشترى والدي بيتًا مقابلًا لبيتنا، ليهرب إليه كعاصمةٍ نائيةٍ ليس فيها أيّ شيءٍ أنثوي يضايقه، ولا أجساد من المحتمل أن تتكاثر
كنتُ أسرع إلى الحمّام كي اختبأ من صوته العالي ما إن يبدأ تظاهرته ضدّ جنسنا، وأظل أتبوّل أسئلةً أخاف طرحها عليه، تجنبًا لأن يعتبرني في ذهنه فتاةً فاسدة.
كنتُ أردّد في داخلي: ما هو العبء الأنثوي الذي يلقيه عضوٌ نباتيّ الشكل على الآباء، فيعتبرون زيجات الفتيات "سترًا"، ليبدأ بعدها العدّ التنازلي لما تبقّى من أجساد فتياتٍ موجوداتٍ في البيت؟ ما طبيعة أجساد الفتيات وأعضاؤها؟ هل بها أنيابٌ حادّة؟ هل هو ثقبٌ أسود من السحر والتعاويذ؟ هل نخبّىء حظوظًا سعيدةً تحت جلودنا للرجال؟ أم أجسادنا هي للرضاعة والتبوّل فقط؟
كنتُ طفلةً فضوليةً جدًا، كأنّي كانت لي أُذنَي قطّة. وكثيرًا ما كنتُ أسمع أبي وهو يتلو آية: "وخلقناكم أزواجًا لتسكنوا إليها"، ليصطلح مع أمي بطريقته الخاصة في الوعظ، قائلًا إنّ الزوجة بيتٌ لزوجها يسكن إليها. لكنّ الناضورجي المختبئ في عقلي لم يكفّ عن ترديد السؤال نفسه: "هل يُعقل ألا يعرف المرء أركان بيته جيدًا؟"
في مراهقتي، أدّت السينما دورًا مهمًا في الكشف لي عن إشكالياتٍ أكبر من بيتٍ يحوي فتيات زائداتٍ عن الحاجة. كان والداي يشاهدان فيلم "عرق البلح"1 كلّما أذاعَته أيّ قناةٍ مصرية. أحببتُ الفيلم كثيرًا، إذ كانت تظهر فيه النساء غاضبات، هائمات، مفتونات، ومعذّباتٍ أكثر مني. لكن لم يترك لي والدي أيّ محرّك بحثٍ أفهم منه تحليلًا للفيلم. بعد ذلك، شاهدتُ فيلم "الكيت كات"،2 و"شباب امرأة"،3 و"بنتين من مصر"،4 وجميعها أفلامٌ تتضمّن نساءً وفتياتٍ ثائراتٍ وحانقاتٍ لأسبابٍ أكثر جرأةً من وجود الجسد الأنثوي أساسًا، ولرابطٍ أقوى، هو الرغبة والاحتياج إلى أن يُسمع صوت أجسادهنّ ويلبّي أحدٌ ما نداءها من دون أن يُشعِرهنّ بالعار والخجل.
صمّمتُ وقتذاك أن أُدخل الإنترنت إلى بيتنا بحجّة الدراسة والملل. كنتُ أقرأ كثيرًا عن الجسد ورغباته، وأشعر بروابط أقوى بمرور الأيام، إلى أن فهمتُ جسدي جيدًا وظهرَت عوائق أكبر بكثيرٍ من اكتشاف الرغبة، هي أن الرجال لا يعرفون شيئًا عن رغباتنا ولا يعترفون باحتياجاتنا، لا بل يفرضون على النساء رقابةً ذاتيةً تمنعهنّ من التعبير عن رغباتهنّ خوفًا من الاتهامات السريعة بالفجور وإقامة علاقاتٍ "غير شرعية" قبل الزواج.
ما هو العبء الأنثوي الذي يلقيه عضوٌ نباتيّ الشكل على الآباء، فيعتبرون زيجات الفتيات "سترًا"، ليبدأ بعدها العدّ التنازلي لما تبقّى من أجساد فتياتٍ موجوداتٍ في البيت؟
لم أشعر بالغضب على مصير أخواتي البنات، بل بمسؤولية أن أكشف لهنّ عينًا ثالثةً تليق بأعمارهنّ. قرّرتُ أن أبدأ بأختي التي تصغرني سنًّا، لكنها كانت ترفض الحوار وتصفني بمُنعدمة الحياء، حتى شعرتُ بأنّ جسدي المنبوذ لم يعُد يسعه مكان، فاستأجرتُ سكنًا مجاورًا لجامعتي كي أقلّل من أعدادنا في البيت.
اختلفَت اهتمامات أختي عن اهتماماتي منذ سنٍّ صغيرة. بالكاد أعرف لها اهتمامًا أو اثنَين عن الحميمية، كأن تشعر بالدفء تحت الغطاء في الشتاء. لم نتحدث معًا عن جسدَينا سوى مرةٍ واحدةٍ قبل زواجها بشهرَين، يومها سألَتني إن كان عليها إخبار زوجها بأنها لا تحبّ التلامس، أم أنه سيظنّ أنها تكرهه؟
تعرّفَت أختي إلى زوجها في نادي الكاراتيه الذي كانت ترافق أختي الصغيرة إليه، حيث كان يعمل مدربًا. لم أخَل أن تواجه زواجهما أيّ عوائق جنسية، فقد اختارَت شخصًا يعرف نقاط ضعف وقوة الجسد، وخباياه ومحرّكاته. كنتُ أتخيّل لهما علاقةً مليئةً بالحميمية والمتعة.
بعد سنةٍ من زواجهما، ذهبتُ لزيارتها وتجاذبنا أطراف الحديث الخَجِل، وفجأةً قرّر ناضورجي عقلي أن يسترجع حكايات أمي وخالاتي القديمة، وأن يسألها عن حال الزواج من مدرّب كاراتيه؟
نظرَت إليّ طويلًا ورأيتُ في عينَيها حكاياتٍ كثيرةً على وشك الاندفاع. أخذَت نفسًا عميقًا وقالت: "أولًا ما فيش حاجة اسمها ذروة النشوة، الأورجازم ده كدبة اخترعِتها الروايات اللي بتقريها، وعنصر الإثارة خلقِته السّت في خيالها كإثبات على المتعة، لكن مالوش وجود يا أختي".
الرجال لا يعرفون شيئًا عن رغباتنا ولا يعترفون باحتياجاتنا، لا بل يفرضون على النساء رقابةً ذاتيةً تمنعهنّ من التعبير عن رغباتهنّ خوفًا من الاتهامات السريعة بالفجور
لم أنطق بكلمةٍ لأنني لا أفهم ماهية الجنس لكوني عذراء، لكنّ أختي لم تدرك أنّي كنتُ أجاريها في قناعاتها خوفًا من أن أجرح مشاعرها. كسرتُ الصمت المكانيّ بضحكة، أو بالأحرى بقهقهاتٍ استنكاريةٍ وقلت: "هذا ليس صحيحًا".
نظرَت إليّ وقالت: "صدقيني مافيش ستّ بتوصل للأورغازم لأنه مش موجود من الأساس".
سيطرَت عليّ حالةٌ من الحسرة والخسارة لدقائق عدّة بسبب حال أختي المدلّلة، التي أراد لها الله ألا تلتحم مع الحياة بجانبها الخفيّ، فجعل حظّها بيتًا بعيدًا، وزوجًا جاهلًا بالجسد، وسريرًا جيدًا للكوابيس.
على الجانب الآخر، أبتلع أنا ثقافة الجسد كأدوية الصداع، وأتعرّف إلى رغباتٍ جديدةٍ ومستوًى آخر من التواصل مع الجسد كما في كتاب جورج باتاي (Georges Bataille) "حكاية العين"،5 حيث أقرأ كيف يمكن لبيضة الدجاجة أن تكون إحدى محفّزات المتعة،6 بينما أختي، ابنة التاسعة عشرة، المفعمة بالصحّة والشباب، تعاني حاجزًا قويًا مع جسدها.
شردتُ في عقلي داخل هوّةٍ سوداء كبيرة: متى سيأخذون هذا العضو الأنثوي على محمل الجدّ من دون أن يتعلّق هذا الجدّ بمسائل الشرف؟
مرّت ثلاث سنواتٍ لم أتحدث فيها مع أختي عن أيّ أمرٍ يخصّ الجسد. كانت سيرة أجسادنا تأتي حصرًا وقت المرض، أو اكتساب الوزن، أو تجربة ملابس جديدة. لكن ذات ليلة، فاجأَتنا أمّنا بأنها تحمل في بطنها طفلًا بعضوٍ ذكريّ، ستكون له القيمة الأكبر بيننا.
- 1فيلم من إخراج رضوان الكاشف (1999) وبطولة الفنانة شريهان.
- 2فيلم من إخراج داوود عبد السيد (1991)، تظهر فيه الفنانة عايدة رياض في دور فاطمة الشبقة التي تُشبع مع جارها يوسف رغباتها المُهملة من زوجها المسافر.
- 3فيلم من إخراج صلاح أبوسيف (1956)، يتناول قضية الرغبة الجنسية لدى المرأة بجرأةٍ شديدة: "شفاعات" امرأةٌ متقدمةٌ في السّن تملك المال والتجارة، تُشبع رغباتها المتقدة مع شابٍ ساذجٍ من الريف.
- 4فيلم من إخراج محمد أمين (2010)، تلعب فيه الممثلة سلوى محمد دور امرأةٍ تعاني من الحرمان العاطفي والجنسي، فتقول في أحد المشاهد: "النهار بيعدّي، إلا بالليل، مببقاش عارفة أعمل إيه في نفسي".
- 5جورج بتّاي، "حكاية العين"، ترجمة راجح مردان، الطبعة الأولى، كولونيا-ألمانيا، منشورات الجمل، 2001.
- 6في إحالةٍ على الدلالة الإيروسية للبيضة بحسب عالِم النفس الشهير سيغموند فرويد، فهي ترمز إلى الولادة الناتجة عن الفعل، كعين القط الجاحظة التي تمثّل إسقاطًا لشكل الخصية.
إضافة تعليق جديد