ترى الكاتبة فرجينيا وولف (Virginia Woolf) أنَّ تحرُّر المرأة يبدأ بامتلاكها غرفةً خاصّةً ودخلًا ثابتًا، لكن إذا ما حاولنا تطبيق هذه المعادلة في السياق المصري، سوف نجد أنّها رحلةٌ شاقَّةٌ في بلدٍ يرزح تحت أعباء أزماتٍ اقتصاديةٍ مُتتاليةٍ تعود جذورها إلى عقودٍ خلت. فتحَت ثورة 25 يناير 2011 شُبّاك أملٍ لشباب مصر ونسائها، وإنْ لفترةٍ وجيزةٍ، قبل أن يُغلق على مصراعيه ويدخل الاقتصاد المصري في نفقٍ مظلم. في تلك الفترة الثورية، قرّرَت فتياتٌ مصريّاتٌ تحدّي تقاليدَ الأسرة الأبوية، وترك منازل أهاليهنّ التي تفتقر لأيّ شكلٍ من أشكال الحرّية. أردنْ امتلاك مساحة غرفةٍ تخصّهنّ وحدهن، والعثور على عملٍ في القاهرة، والاستقلال عن أُسَرهنّ، واختبار الحياة بحلوها ومرِّها.
أدّى إجهاض الثورة لاحقًا إلى إغلاق المجال العام تمامًا، فيما دفع تجذّر السياسات النيوليبرالية باتجاه فرض المزيد من السياسات التقشّفيّة التي نتج عنها تعمّقٌ في هوّة اللامساواة، وزيادةٌ في معدَّلات الفقر، وإضعافٌ للقطاعات الإنتاجيّة المولِّدة لفرص العمل، ما قطع الطريق أمام استقلال الفتيات اقتصاديًا. في الواقع، شهدَت مصر أزماتٍ اقتصاديةً مُتعاقبةً لا يرى الخبراء أنّها سوف تنتهي في القريب العاجل. وتتمثّل تلك الأزمات بركودٍ اقتصادي، وشحٍّ في العملات الأجنبية، وتضخّم المديونية الخارجية، وارتفاع قيمة القروض الممنوحة من صندوق النقد الدولي، ما انعكس انهيارًا في سعر الصرف وتضخّمًا في الأسعار. وساهمَت هذه العوامل بشكلٍ مباشرٍ في عرقلة تحرُّر النساء، إذ قلَّلَت من فرص استقلالهن وإمكانيّة عثورهنّ على وظيفةٍ يكفي عائدها لتأمين احتياجاتهنّ الأساسية وتسديد بدَل إيجار المنزل، وكأنها بذلك تحافظ على شكل الأسرة التقليدي وسطوة المجتمع الأبوي.
الغلاء والبطالة في مواجهة الاستقلالية
تتطلّب الاستقلاليّة بحدّها الأدنى الحصول على وظيفةٍ ثابتةٍ تكفي لتسديد بدَل إيجار المنزل، وهذا ما فشلَت في تحقيقه أمنية ابراهيم (35 عامًا)، كاتبةٌ وصانعة أفلامٍ حلمَت بالاستقلال عن أهلها منذ سنّ المراهقة. بحسب ورقةٍ بحثيةٍ قدّمَتها أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة، حنان نظير، تواجه النساء عقباتٍ أكثر من الرجال في الالتحاق بسوق العمل الرسمي، وتتركّز العمالة النسائية المصرية في وظائف تتّسم بظروف عملٍ سيّئةٍ وتفتقر إلى الحماية الاجتماعية.
تواجه النساء عقباتٍ أكثر من الرجال في الالتحاق بسوق العمل الرسمي، وتتركّز العمالة النسائية المصرية في وظائف تتّسم بظروف عملٍ سيّئةٍ
خطّطَت أمنية، التي لم تعرف الخصوصية في بيت أهلها، للهرب في سنّ الواحدة والعشرين والعيش بمفردها، إلّا أنَّ أهلها آثروا تضييع فرص استقلالتها عنهم، إما عبر حرمانها من المال أو ابتزازها عاطفيًا بحجّة حاجتهم إليها. في البداية، لم تتمكّن أمنية من ترك بيت أهلها لعجزها عن تدبير إيجار منزلٍ جديد، إذ كانت تستخدم دخلها الضئيل المتأتي من الكتابة الحرّة لصالح أحد المواقع لتسديد ثمن أقساط صفوف السينما وجلسات علاجها النفسي، التي ارتفعَت أسعارها بشكلٍ كبيرٍ بعد تخفيض قيمة الجنيه. تفاقمَت أوضاع أمنية سوءًا مع بدء تفشّي كورونا واستغناء الموقع عن العمالة الحرة في إثر الجائحة. مع ذلك، لم ينتهِ حلمها بالهروب من البيئة المؤذية ولو أن مساره قد أُعيق.
التغريب عن المدينة كوسيلةٍ لمناهضة التغيير
تتسم القاهرة بمركزيةٍ فاقعةٍ لكون معظم فرص العمل والأنشطة الثقافية والسياسية تتركّز فيها. طبعًا، تنطبق هذه السمات على المدن عمومًا، وهي تتيح للمنخرطين في بيئتها الانفصال عن الأسرة النواتية وبالتالي عن المنظومة الأبوية، وتبنّي أفكارٍ جديدةٍ وتطويرها، فضلًا عن الانتظام دفاعًا عن قضايا معيّنةٍ والتشارك في عملية التغيير. لكن في السياق المصري، تشكّل مركزيّة القاهرة إشكاليةً في ذاتها، لاسيّما لنساء الريف، وهو ما يُعدُّ أحد المعوِّقات الرئيسة التي تواجه النساء المصريات وتحول دون مشاركتهنّ في الأنشطة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وبالتالي المساهمة في عملية التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. تُعدِّد دراسةٌ صدرَت في عام 2020 أبرز معوِّقات العمل التي تواجه النساء في مصر، فتشير إلى صعوبة تنقّلهنّ بوصفه العامل الأوّل، لاسيّما أنّ نسبة النساء اللواتي يهاجرن و/أو ينتقلن من أجل العمل أقلّ بكثيرٍ من الرجال.
لطالما شكّلَت القاهرة حلمًا لكثيرٍ من الفتيات، فهي تعدِهنَّ بالاستقلاليّة والتمكين الاقتصادي، إلّا أن الاتفتاح على أفكارٍ وحراكاتٍ جديدةٍ هو تحديدًا ما يخيف المجتمع الأبوي ومعه النظام الرأسمالي والسياسي. فالتحرُّر من قبضةٍ حديديةٍ تفرضها الأسرة النواتية، واكتساب أفكارٍ جديدة، والاندماج في الأوساط الثقافية والسياسية، والخروج إلى المجال العام يعيد خلط أوراقٍ كثيرة، ويدفع باتجاه الانتظام حول قضايا وحقوقٍ مشتركةٍ والمطالبة بالتغيير.
تشكّل مركزيّة القاهرة إشكاليةً في ذاتها، لاسيّما لنساء الريف، وهو ما يُعدُّ أحد المعوِّقات الرئيسة التي تواجه النساء المصريات وتحول دون مشاركتهنّ في الأنشطة الاقتصادية والثقافية والسياسية
هاجر حمدينو (25 عامًا)، مديرة علاقاتٍ عامّة، هي إحدى الفتيات اللواتي تركن الدلتا إلى القاهرة بحثًا عن حياةٍ مختلفةٍ وجديدة. تقول هاجر إنّها لم تُخطِّط للاستقلال عن أهلها ولم تكن تعرف معنى تلك الكلمة أساسًا، لكنّها كانت وحيدة، إذ لم يكن لديها أيّ أصدقاءٍ وكان بيتها مليئًا بالمشاكل، ففكّرَت في الالتحاق بجامعةٍ بعيدةٍ عن الإقليم الذي نشأَت فيه في دلتا مصر. وبالفعل، انتقلَت للعيش في القاهرة بهدف الدراسة، ومن ثمّ قرَّرت الاستقرار فيها بشكلٍ دائم. أحسَّت هاجر أنّ ثمّة حياة في القاهرة، وهي بطبيعة الحال أكثر رحابة، فقد أصبح لديها أصدقاءٌ وصديقاتٌ يهتمّون بالمجال العام والشؤون الثقافية، ودخلَت معهنّ في نقاشاتٍ كانت جديدةً بالنسبة لها. عندما أتت الإجازة الصيفيّة، لم تعدْ هاجر إلى مدينتها، وبدأت رحلتها في البحث عن عملٍ لتتمكّن من العيش بمفردها. تنقّلَت في وظائف عدّة، وفي إحدى المرّات سمعها أحد زملائها تتجادل مع أبيها في الهاتف في شأن رغبتها بالاستقلال عن أسرتها، فأُطلِق عليها لقب "الفتاة الهاربة". تزامن ذلك مع معاناتها من الارتفاع الجنوني للأسعار، قبل اشتداد الأزمة في الشهور الأخيرة، بحيث بات همّها الأوّل تسديد إيجار المنزل وفواتير الكهرباء. قلّلَت هاجر إنفاقها على ما بات يُصنّف جورًا ضمن "الكماليّات"، مثل شراء "كوتشي" (حذاء رياضي) تحتاجه، أو زيارة الطبيب. لم تعد هاجر إلى مدينتها الصغيرة بعد، لكنّها تحارب غلاء الأسعار بالتضحية بوجبات الطعام.
أحلامٌ تُفنى ومجتمعات تهلُك خدمةً لرأس المال
لا يعرف صندوق النقد الدولي، على الأرجح، شيئًا عن تسبّبه بعودة ماريا عصام (25 عامًا) إلى منزل أهلها بعد أن كانت استقلّت عنهم بالفعل في عام 2014. تعمل ماريا مصوِّرةً حرَّةً بدخلٍ مُتقلِِّبٍ غيرَ ثابت. وقد أُجبِرَت بحكم الأزمات الاقتصادية المُتتالية التي لم تسترِح منها منذ عقود، إلى التخلّي عن استقلاليّتها لكي تتمكّن من الحصول على قوتٍ يومي في منزل أهلها لم تعد قادرةً على تأمينه في القاهرة.
تأسّس صندوق النقد الدولي في العام 1945 لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد العالمي المُتأزّم بعد الحرب العالمية الثانية. لكنّ ما يحدث فعليًا عبر سياسات هذا الصندوق هو المساهمة في إفقار المزيد من البلدان وإدخالها في مصيدة ديونٍ لا تنتهي. في الواقع، يقرِض الصندوق الدول النامية لكن بمشروطيّةٍ تقوم على تخفيض الدعم أو إلغائه عن السلع الأساسية والحيوية، وتخفيض قيمة العملة الوطنية لتخفيض الاستهلاك وبالتالي الطلب على العملات الأجنبية لتحقيق توازنٍ مالي، بدلًا من معالجة الأسباب البنيوية الكامنة وراء الاختلالات المالية.
في النتيجة، تنعكس هذه الشروط على حياة الناس، وبخاصةٍ الفئات الأكثر تهميشًا وفقرًا، ومن ضمنها النساء. في عام 2016، بعد تخفيض قيمة الجنيه المصري بنسبة 48%، ارتفعَت الأسعار بشكلٍ حادٍّ من دون أن تنمو الأجور بنسَبٍ موازية، ما أدّى إلى تآكلها نتيجة التضخّم وتراجع القدرة الشرائية لشرائح واسعة. كذلك رُفع معدّل الضريبة على القيمة المضافة التي تطال استهلاك الناس بمعزل عن قيمة دخلهم، وتساهم في تعميق هوّة اللامساواة والتمييز بحقّ النساء. فبحسب دراسةٍ صدرَت في عام 2019 عن منظّمة أوكسفام، تُعدُّ الضريبة على القيمة المضافة تنازلية، أي أنّ المعدّل نفسه يُفرض على الأغنياء والفقراء، ما يجعل محدودي الدخل ينفقون نسبةً أكبر من مداخيلهم على الضرائب. وبما أن مداخيل النساء عمومًا أقل من مداخيل الرجال، فإنّ مفاعيل هذه الضريبة أثّرت عليهنّ بشكلٍ كبير، وساهمَت في تجذير التمييز الاقتصادي المُمارس بحقّهن، وأخَّرت عمليّة تحرُّرهن.
ما يحدث فعليًا عبر سياسات هذا الصندوق هو المساهمة في إفقار المزيد من البلدان وإدخالها في مصيدة ديونٍ لا تنتهي
كانت أمور ماريا مستقرّةً إلى أن بدأت الأسعار في الارتفاع بعد حصول مصر على قرضٍ من صندوق النقد الدولي، وما تبع ذلك من زيادةٍ في أسعار الغذاء والمواصلات. ومع مرتبٍ هزيلٍ غيرَ ثابتٍ بالأساس، اضطرّت ماريا إلى القيام بخيارات لكي تحصل على قوتِ يومها، لكنها دمَّرت أحلامها. يقول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنَّ المرتبات في مصر سيّئةٌ للغاية، وإنّ 10 آلاف جنيه (حوالي 330 دولارًا أميركيًا وفقًا لسعر الصرف الحالي) لا تكفي لشراء الطعام والشراب. في الواقع، يُقدَّر متوسّط الدخل الشهري في مصر بنحو 8,460 جنيهًا (حوالي 278 دولارًا أميركيًا وفقًا لسعر الصرف الحالي)، فيما 50 في المئة من العاملين والعاملات يتقاضون أقلّ من ذلك بكثير.
عادت ماريا إلى بيت أهلها توفيرًا للنفقات، وساءت حالتها النفسيّة. لكن ما زال حلم الاستقلاليّة الذاتيّة يُداعب مخيّلتها، وهي تحاول الادّخار، لكن هذه المرّة لتخرج من مصر، لكي لا يتعرّض راتبها الضئيل للتآكل بحكم العواصف الاقتصادية وغول التضخّم، ولكي لا تضطر للانصياع والتخلّي عن أحلامها.
لا مبالغة في قول أن استقلاليّة الفتيات عن أسرهن تُعدُّ منطلق تحرُّرهن ونضالهن من أجل قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية، ومن أجل ظروف حياة أفضل تُهدِّد الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أمّا الأزمات الاقتصادية التي تقاد بمنهجيّة الافكار النيوليبرالية حفاظاً على الرأسمالية، والتي تعصف بمصر، وبغيرها من البلدان، تتحمّل النساء وزرها الأكبر، وتعيق مسار تحرّرهن.
إضافة تعليق جديد