رفيقةٌ لا مُخلِّصة: المعونة المتبادَلة فلكٌ للمهمّشين/ات في لبنان

*نعيش زمن الانهيار، زمن الوحوش. بعد أربع سنواتٍ على الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في لبنان، يبدو أن نظامًا اجتماعيًا جديدًا بدأ يتشكّل. وعاد شبح الاقتصاص الطائفي، الذي يذكّرنا بفترة الحرب الأهلية، ليلقي بظلاله. فها هي القوى الطائفية تحشد جمهورها ضد المجموعات الكويرية والنساء واللاجئين/ات السوريين/ات، في مسعى لإعادة فرض سلطتها الأبوية في الأحياء الواقعة تحت سيطرتها، بتحريضٍٍ من مسؤولي الدولة. وتبقى أي آمالٍ بتدخلٍ سياسي موضع جدل، لأن هذه القوى نفسها تحظى برعاية النخبة الطائفية ودعمها، وفي نهاية المطاف، الدولة. أصبح لبنان نموذجًا مصغرًا مرعبًا لوحشية الانهيار الرأسمالي وبشاعته؛ نموذج تمكن رؤيته في جميع أنحاء العالم.

نفتقر اليوم إلى أيّ بدائل سياسية حقيقية يمكنها مواجهة تصاعد القمع والانهيار الاقتصادي التام. وقد فشلَت جميع الأساليب القديمة المُعتَمدة لإحراز تقدم: فلم تقدّم السياسات الانتخابية أيّ شيءٍ يُذكر؛ وهيكليات المنظمات غير الحكومية السائدة عاجزة إلى حدّ كبير، إن لم تكن ضارة؛ ولم يتبلور أيّ زخم ثورَويّ لانتفاضة 17 تشرين. وبعد مرورنا بمراحل طويلة من الاستغلال الرأسمالي، والتصدّعات، وأشكال المحو الاستعمارية، والعنف الطائفي، جُرّدنا في لبنان من السجلات التاريخية والممارسات الجماعية التي كان يمكن أن توجّهنا في هذه الأوقات المتقلّبة والمحفوفة بالمخاطر.

ويزداد كل ما ذكرناه سوءًا بالنسبة للطبقات العاملة من مجتمعات الكوير في لبنان. فلا يقتصر الأمر على أنّهم/ن يواجهون ويواجهن وطأة هذا العنف الأبوي الطائفي، بل كانوا وكنّ من بين أكثر الأشخاص تضررًا من الانهيار الاقتصادي. هناك بعض التوثيق لتزايد مستويات العنف الجسدي والنفسي، لكنّ أرقامًا قليلة تسلّط الضوء على مستويات العنف الاقتصادي الذي يواجهه الكويريّون والكويريّات في لبنان، ليس فقط بسبب غياب التوثيق، إنما أيضًا بسبب الإخفاء المتعمّد لمثل هذه الأنواع من العنف. ويثير هذا التساؤل عن كيف يمكننا - كمنظّمين/ات، ويساريّين/ات، ومجموعات كويرية، وما إلى ذلك - الاستجابة لهذه الأزمات المتفاقمة؟ وما الذي نستطيع أن نفعله لمقاومة العنف القادم من اتجاهاتٍ متعددة، بشكل مُجدٍ؟ وفي ظل إقرارنا بالحاجة إلى ممارساتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ جديدة، ما الأدوات التي نملكها بين أيدينا للبدء في التنفيذ؟

من خلال تجاربنا الذاتية كأعضاء في Queer Mutual Aid Lebanon إلى جانب البحوث التكميلية، نستفيض في هذه المقالة في استكشاف هذه الأسئلة.

نحن بالطبع لا نملك إجاباتٍ قاطعة، وهذا جزءٌ من المشكلة التي توصف بـ "أزمة الخيال". لكننا نعتبر أنّنا قادرون على دراسة دور ممارسات الرعاية المجتمعية التي يمكن: أ) تعبئتها على نحوٍ تملك فيه تأثيرًا مباشرًا من أجل بقاء المجتمع، و ب) أن تكون بمثابة أدواتٍ للغوص في أنماط جديدة من المقاومة.

نماذج التضامن المحلية

يُعزى أحد أسباب صعوبة وصف ماهية ممارسة المعونة المتبادلة (mutual aid) أحيانًا إلى كونها متغلغلةً في كل المجتمعات البشرية. ركّز الفيلسوف الأناركي الروسي بيتر كروبوتكن الذي أشاع المصطلح، على تلك الاندفاعات لتقديم الدعم المتبادل والتعاون، وكيف تحوّلَت إلى عوامل أساسية في تطورنا. وفي زمن الأزمات والانهيار، تتّخذ هذه الاندفاعات أبعادًا جديدة. ففي منطقتنا، شهدنا ضرورة ممارسات المعونة المتبادلة وقوّتها من خلال المجالس المحلية في سوريا التي أبقَت السكان على قيد الحياة وحرّكَت روح المقاومة والصمود فيهم في خلال فترات الحصار؛ وكذلك لجان المقاومة في السودان التي قدمَت المعونة للمجتمعات المحلية ودمجَت الأفكار الثورَوية في الحياة اليومية، وهذا غيضٌ من فيض.

وفي خضم أزمتنا ذات المستويات المتعددة وإقرارًا بفشل الأساليب القديمة للدعم المجتمعي، تحتاج المجتمعات المحلية في لبنان إلى التعلّم من هذه التجارب، وكذلك من ممارساتنا الممحوّة في مجال المعونة المتبادلة. وبما أن تركيزنا ينصبّ على العمل داخل مجتمعنا، فلطالما حيّرنا المصطلح نفسه. وعلى الرغم من أن المعونة وأشكالها المتنوعة منتشرة إلى حدٍّ كبيرٍ في لبنان - في الحياة القروية، والتضامن الأسري، والممارسات المجتمعية - إلا أن المصطلح ليس كذلك. وقد يبدو تعريب المصطلح ثقيلًا ومستغربًا بالنسبة لكُثُر، على الرغم من أن مبادئ المعونة تتعلق بمفهوم "التعاونيات التضامنية" التي تشكّل، بحسب إيمانويل كامديم، خبير التعاونيات في منظمة العمل الدولية، "مجموعةً من الأشخاص المتّحدين/ات وِفق أسُـسٍ ديمقراطيةٍ لتحقيق ثروةٍ تُوَزّع بطريقة عادِلة". ونستخدم هنا عبارة المعونة المتبادلة، لكننا نحاول بطرقٍ عديدةٍ العثور على النتائج الطبيعية لها والموجودة فعلًا على الصعيد المحلي. نعتقد أن هذا أمرٌ حيوي لأنه، بصرف النظر عن العمل المباشر الذي نضطلع به، فإنّ أحد أهدافنا الرئيسة هو وضع ونشر أفكارٍ ونماذج للدعم المجتمعي تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من التنظيم السياسي والمجتمعي بشكلٍ عام (على الرغم من أنها تُهمل وتُمحى في كثيرٍ من الأحيان). وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي دفعَتنا إلى تبنّي اسم "المعونة المتبادلة" وممارستها ومفهومها.

شُكّلت مجموعة Queer Mutual Aid في يونيو/حزيران 2020، بعد مضيّ عشرة أشهر على انتفاضة 17 تشرين في لبنان، وثلاثة أشهر على جائحة كوفيد-19، عندما اتضحَت ضرورة إنشاء شبكةٍ تضامنيةٍ مجتمعية. وكانت البداية مع ثلاثة نشطاء كويريّين/ات في لبنان، من الناشطين/ات سياسيًا حتى قبل الانتفاضة. وإثر النفور والشعور بالانفصال عن نمط التنظيم السياسي غير المناسب (والضار غالبًا) للمنظمات غير الحكومية، بدأت المناقشات حول أنماطٍ جديدةٍ بديلة. وكان الهدف إنشاء مجموعةٍ تجسّد، من الناحيَتيْن النظرية والعملية، مبادئ مناهضةً لكلٍّ من النظام الأبوي والرأسمالية. وفي هذا النص، نريد أن نتناول الملاحظات الدقيقة والتجارب والدروس المستقاة من تجربتنا الخاصة في العمل في مجال الدعم المجتمعي في لبنان.

البيداغوجيا الراديكالية للمعونة المتبادلة

إن إنشاء شبكة تضامنٍ توفّر الدعم للأشخاص الكويريّين والكويريّات، من دون الانزلاق إلى دوامة هيكليات التنظيم السياسي الهرمية التي تتخذ طابع المنظمات غير الحكومية، هو أمرٌ يتسم ببالغ الأهمية بالنسبة لنا جميعًا. لكن في الواقع، لا يتوفر دليلٌ إلى كيفية إنشاء تلك الشبكات، ناهيك عن كيفية إنشائها من أجل المجتمع الكويري في لبنان. لذا كان لا بد من خلق معرفةٍ عن الكيفية. ولهذا الغرض، أصبحَت مجموعة Queer Mutual Aid Lebanon مركزًا للتطوير ومختبرًا لتجربة واستكشاف أدوات وأنماط تنظيم ونماذج جديدة للمعونة تتعارض مع نماذج الأعمال الخيرية أو المنظمات غير الحكومية.

ولا تقتصر معارضتنا لهيكليات المنظمات غير الحكومية، التي أطلق عليها كثيرون اسم منشأة المنظمات غير الحكومية الصناعية، على البعد الأيديولوجي فحسب، بل تنبع من تجربتنا الشخصية فيها وتحليلنا المشترك لدورها المتواطئ مع الرأسمالية والإمبريالية، بالإضافة إلى شكاوى سوء المعاملة والإهمال التي سمعناها من أفراد المجتمع الكويري في خلال عملنا. إن النقد التحليلي والتقييم مهمّ، لكن الأهم بالنسبة لنا هو كيفية السماح لعملنا وهيكليتنا بأن يعكسا الدروس المستفادة من هذا النقد/التقييم.

يحاكي الهيكل التنظيمي للمنظمات غير الحكومية القائمة في لبنان التسلسل الهرمي للشركات الخاصة، على الرغم من وجود تباينات؛ إذ ثمّة حيّزٌ ضيقٌ للاستقلالية والديمقراطية أو التعددية في كثيرٍ من الحالات، على عكس القيم التي تزعم أنها تدافع عنها على صعيد المجتمع ككل. أما بالنسبة لنا في مجموعة Queer Mutual Aid Lebanon، فلا نرى في عمليات الاجتماع والتشبيك وجمع الموارد والتخيّل الجماعي "وسيلة لتحقيق غاية" فحسب، بل غاية في حد ذاتها. وسمح لنا هذا التفكير بتطوير هيكلياتٍ أكثر مرونة تعتمد على توافق الآراء واتخاذ القرارات أفقيًا (بمشاركة الجميع). وهذه هي النماذج التي نعتقد أنه ينبغي تعميمها واستخدامها من قبل المجموعات الناشطة الأخرى حتى تتمكن من تجسيد المبادئ التي تدّعي مناصرتها.

لذا ومن أجل هذا الغرض أيضًا، نصرّ على نزع الطابع المهني عن المعونة والعمل المجتمعي. نحن جميعًا متطوّعون/ات، وندرك العقبات الأخلاقية والسياسية والتكتيكية الكامنة وراء ربط المرتّبات بهذا النوع من العمل السياسي. في الواقع، تخلق أعمال المعونة التي تتسم بطابعٍ مهني تراتبياتٍ هرميةً وأوجه تفاوتٍ داخل المجتمع نفسه الذي تدّعي المنظمات غير الحكومية خدمته. ثمّة نوعٌ من النفاق السافر عندما، على سبيل المثال، تأتينا امرأة عابرة جندريًا من الطبقة العاملة لتطلب المعونة في سبيل تغطية تكلفة الطعام أو الإيجار، بينما تفيض الأموال بين أيدي عاملي وعاملات المنظمات غير الحكومية الذين/اللواتي تتمثّل مهمّتهم/ن الأساسية في الدفاع عن حقوق الكويريّين والكويريّات والعابرين والعابرات جندريًا. نحن لا نريد أن نستفيد من بؤس هؤلاء.

وغالبًا ما يغيّر هذا النهج من طبيعة العلاقة لدى تعاملنا مع المجتمع الذي نعمل معه، إذ يتنفّس الناس الصعداء ما إن نتفوّه بأننا "لسنا منظمة غير حكومية"، وسرعان ما تصبح مداخلاتهم/ن أكثر صراحةً ووضوحًا. كما يُسرّون بالعمل الذي ننجزه لأنهم/نّ يدركون ويدركن أنه ليس مجرد وظيفةٍ بالنسبة لنا، بل مبادرة نابعة من الالتزام الحقيقي تجاه رفاه المجتمع. في المقابل، يمكّننا هذا من بناء علاقاتٍ حقيقيةٍ قائمةٍ على التضامن والرعاية، بدلًا من الصفقات والتمثيل.

تشكّل معايير "الضعف" أو "الأهلية"، التي تحدّد مَن يحصل (ومَن لا يحصل) على المعونة، أحد العوامل الرئيسة التي تكرّس العلاقات الضارة بين المنظمات غير الحكومية/الجمعيات الخيرية ومتلقّي/ات المعونة. في الحالات التي واجهنا فيها تمويلًا محدودًا، واجهنا الإشكاليات التي تنشأ عنها هذه المعايير. ومع ذلك، فإننا نرفضها لعدة أسباب: أولًا، كوننا نقدّر ما يُسمى بعقلية الوفرة بدل عقلية الندرة. إذا لم تتوفر لدينا الميزانية أو الموارد، فإننا ببساطةٍ لا نردّ طلبات الناس بل نحشد شبكاتنا لجمع الموارد، ونتبادل الأفكار مع طالِب/ة المعونة لإيجاد حلولٍ بديلة، وغير ذلك. نرفض إجبار الأشخاص الكويريّين والكويريّات من الطبقة العاملة على التنافس على الموارد من خلال "إثبات" أحقّيتهم/ن بها أكثر من غيرهم/ن. وثانيًا، يعني ذلك اجتياز ديناميّات القوة في المجموعة بوَعي، بين المنظّمين/ات ومتلقّي/ات الدعم. نحن لا نريد إعادة إنتاج ديناميّات "المنقِذ/المخلّص" الأبوية، التي عادةً ما تسود العمل الإنساني بطابعه المهني. بدلًا من ذلك، نُريد إشراك الأشخاص الذين واللواتي نعمل معهم/ن بتساوٍ. ويعني هذا إعادة تركيز قوّتهم/ن وتقرير مصيرهم/ن في إدارة حياتهم/ن وكفاحهم/ن السياسي.

نحن نعارض الافتراض القائل إنّ المنظمات غير الحكومية توفر أشكالًا قيّمة لبناء الحركات ودعم المجتمعات المهمّشة، سواء بالنسبة للمجتمعات الكويرية أو المجتمعات الأخرى من الطبقة العاملة. نحن نؤمن بالتقاء "الوسائل والغايات" وإعادة تعزيز أصوات الأشخاص الأكثر تهميشًا. إنّ التضامن بالنسبة لنا هو قولٌ وفعل، ونحن شديدات الإيمان بقوّة تجاوز العلاقات النافرة المتجسّدة في الرأسمالية نحو علاقاتٍ قائمةٍ على الاحترام المتبادل والرعاية والكرامة. ولكن كيف يبدو شكل هذه العلاقات؟ وكيف ترتبط بالصراعات السياسية التي نعيش في ظلّها؟ للإجابة على هذه الأسئلة، توصّلنا إلى مصطلح "الرفاقية" الذي نعتبره أقرب إلى العلاقة التي نسعى جاهدين/ات إلى تكوينها في ما بيننا وبين مجتمعنا.

رفيق/ة لا مخلِّص/ة

تقول واضِعة النظريات في مجال السياسة، جودي دين، في مقالتها بعنوان "الرفاقية: مقالة عن الانتماء السياسي": "تشير 'الرفاقية' إلى نمطٍ من الانتماء يتعارض مع العزلة والتسلسل الهرمي والقمع الذي تتعرض له أشكال العلاقات البرجوازية، خاصةً تلك المتعلقة بالعمل والأسرة في ظل الرأسمالية. هو نمطٌ يتّسم بالمساواة والتضامن والاحترام". على عكس العلاقات الأسرية - القائمة على الولادة والزواج وما إلى ذلك - فإنّ العلاقات الرفاقية قائمةٌ على هدفٍ مشتركٍ هو أن نكون على الجانب نفسه من خط النضال. يجد العديد من رفاقنا أنفسهم/ن منعزلين/ات أو مرفوضين/ات أو منبوذين/ات تمامًا من عائلاتهم/ن الأصلية التي تمثّل بالنسبة لمعظمهم/ن الانتماء الأخير المتبقّي الذي يوفر الدعم الاقتصادي. لذا، تكون التداعيات المادية على حياة الفرد عندما ينقطع عن هذه الشبكة مدمّرة. وفي حين يعني العيش مع العائلة بالنسبة لكثيرٍ من الكويريّين والكويريّات مواجهة العنف اليومي، فإنّ العيش من دون عائلةٍ يعني في كثيرٍ من الأحيان التشرّد والفقر والهشاشة.

لا يحاول عملنا أن يحلّ محلّ الأسرة أو أن يكمّلها، لكننا مُجبرون/ات على لحظ غياب الانتماء الاجتماعي والنفسي والعاطفي في العديد من جماعات التنظيم السياسي في لبنان. ومن أجل بناء شبكةٍ تستند فعلًا على التضامن، أي تطوير أشكالٍ جديدةٍ متماسكةٍ من التنظيم تحافظ على نفسها وتحاول بناء القوة، يجب أن يكون هناك شعورٌ بالرعاية الجماعية بين أعضاء هذه الشبكة. إنّ نوع الرعاية والحب والالتزام الذي يقيّدنا المجتمع بتقديمه حصرًا لوالدَينا وإخوتنا وأطفالنا وأزواجنا هو على وجه التحديد نوع الترابط الذي نجهد لإنشائه مع عائلاتنا المختارة، ومع بعضنا البعض، ومع المجتمعات التي نعمل من أجلها.

وفي حين نعتبر في مجموعة Queer Mutual Aid Lebanon المعونة المتبادلة أداةً للضرورة، ناقش آخرون وأخرياتٌ القوة الدافعة للسياسات التي تجسّد المجتمع المنشود مستقبلًا في خلق هذه الديناميات. الرفاقية هو مفهومٌ يُبنى من خلال أعمال الرعاية والتوكيد اليومية، إلى جانب الشعور بالواجب المتبادل والانضباط للانخراط في العمل الجماعي - أي خلق العلاقات الاجتماعية التي نريد، والعلاقات التي نراها ضروريةً لبناء حركاتٍ سياسيةٍ قويةٍ ومرنة. هذا ما نسعى إلى إرسائه بين مجموعتنا وأعضاء المجتمع الكويري على النطاق الأوسع.

فالرفاق، بعكس العائلة، يحتاج بعضهم/ن إلى بعضٍ لكنهم/ن ليسوا/لسنَ مُلزمين/ات ببعضهم/ن البعض. إنّ العمل الجماعي هو خيارٌ يصنعه كلّ واحد/ة منا ويلتزم به. نحن نعتبر هذه الأنماط من العلاقات ضروريةً لاستدامة أيّ نوعٍ من التنظيم السياسي الجماعي؛ فهي تولّد وعيًا جماعيًا يتبدّى في الوقت الذي نقضيه معًا ويحمّلنا المسؤولية، لأن هذه العلاقة بالذات تسمح لنا برؤية أفعالنا من خلال نظرة أولئك الموجودين/ات في المجموعة، فنجهد لنكون أفضل وننجز عملًا أكمَل.

خلاصة

أن نتصوّر بدائل ممكنة في وقتٍ يشهد هذا الكمّ من العنف وردّات الفعل الوحشية ليسَ بالمهمّة السهلة. بدأنا كتابة هذه المقالة وسط تصاعد وتيرتَي العنف الطائفي وذلك المدفوع برهاب الكوير في لبنان. وبينما نكتب كلماتنا هذه، تمعن الدولة الإسرائيلية في شنّ إبادةٍ جماعيةٍ ضد الشعب الفلسطيني. لذا، يبدو إطلاق النظريات عن البدائل التنظيمية مسألةً منفصلةً عن الواقع وعبثيةً مقارنةً بما تتمتع به قوى القمع والإمبريالية والدولة من عنفٍ وتمكين. تُترك مجموعة Queer Mutual Aid Lebanon ككثيرٍ غيرها، على خطوط دفاع، تجاهد لتتأقلم مع الوقائع الجديدة بينما تستعدّ لما هو أسوأ. ويجعل هذا من عملية التخيّل النشِط أمرًا في غاية الصعوبة، ويكاد يكون طوباويًا. هنا، تبرز المعونة المتبادلة، من خلال الجَمع بين الوسائل والغايات، والتعلّم من خلال العمل، وتوفير الدعم السريع لأولئك الأكثر تهميشًا، لتمثّل فرصةً فريدةً لمواصلة العمل السياسي على الرغم من مشاعر اليأس وانعدام الجدوى وسط العنف التاريخي والكارثي الذي يواجه المنطقة ومجتمعاتنا.

لن يهبّ إلى نجدتنا أحد. لكن لا ينبغي لهذا الحقيقة أن تُغرقنا بمشاعر باليأس، بل يجب أن تكون قوةً دافعةً لنا لنسعى جماعيًا نحو العمل السياسي والتنظيم مع الرفاق والرفيقات من حولنا، الحاليّين منهم/ن والمحتملين. إنّنا بوصفنا أعضاء في مجموعة Queer Mutual Aid Lebanon، وعربًا، وجزءًا من الجنوب العالمي، نحيا حالةً سرمديةً من الأزمات والانهيار. وإذا كان من أملٍ لبقائنا الجماعي، فعلَينا أن نفكّر معًا وننظّم أنفسنا بشكلٍ حاسم. يجب أن نُحيي حسّ النشاط الناشئ فينا جميعًا، وأن نرفض هزيمة الصمت والتقاعس. لا يمكننا في أوقات الأزمات والانهيار إلّا أن نعتمد بعضنا على بعضٍ لإعادة تصوّر وصياغة ما سلبَتنا إيّاه الأبوية الرأسمالية الإمبريالية المتعصّبة للعِرق الأبيض. وحدها الرعاية الجذرية تنطوي على إمكانية انتشالنا من هذا الحاضر وما هو أبعد منه.


*ملاحظة: هذه المقالة بقلم عضوَيْن من مجموعة Queer Mutual Aid Lebanon؛ تزامنَت كتابتها مع الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة وعدوانها على جنوب لبنان، ما حدّ بشدةٍ من قدرة الكاتبيْن على التفكير والكتابة والتخيّل معًا.