بين الاغتيالات والتهديد والمنفى الاختياري: ضريبة النضال النسوي المُكلفة في العراق

العيش اليومي في العراق أشبه بفيلم إثارة وتشويق متواصل، أو بعلاقة مع شريك نرجسي، حيث لا فُكاك من الأذى. قد تسمع استعاراتٍ مماثلة على لسان العراقيين والعراقيات باستمرار. لكنّ استعراضًا بسيطًا للأحداث في البلاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من غزو واحتلال إلى أزمات سياسية وعنف، يكفي لنعرف أنّ النساء هنّ المتضرّرات بالدرجة الأولى.

وقد تكون إحدى أهم الحقائق المتعلقة بالنساء في العراق هي أن ماضيهنّ أفضل من حاضرهنّ. على سبيل المثال، عوضًا عن المطالبة بتحسين قانون الأحوال الشخصية الذي أُقر في خمسينيات القرن الماضي، تحاول النساء الحفاظ على ذلك القانون - الذي كان متطورًا قياسًا لزمنه في دول المنطقة - باعتباره خيارًا أفضل من التعديلات الرجعية عليه، التي تحاول الأحزاب الحاكمة تمريرها بين الحين والآخر.

بموازاة ذلك، تحاول النساء استعادة حقهنّ بالتمثيل السياسي الفاعل، عوضًا عن الكوتا النسائية التي تستغلها الأحزاب للدفع بأجنداتها وبرامجها؛ كذلك فإنهنّ يحاولن تفعيل ما يكفله القانون لهنّ من حقوق ضدّ التمييز والتعنيف، لكنها لا تُطبّق عمليًا بسبب الفساد والفوضى.

وتجدّدت خلال الأشهر الماضية جرائم القتل التي تطال شخصيات نسائية مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي. مع العلم أنّه منذ عام 2018 تُستهدف نساء من خلفيات اجتماعية وسياسية متباينة، فيما يُظَهَّر على أنه خلافات عائلية أو شخصية لا علاقة لها بالسياسة، لكنّها في العمق أبعد من ذلك. 

على سبيل المثال، خلال فترة أسابيع بين أغسطس/ آب وأيلول/ سبتمبر من عام 2018، وقعت سلسلة اغتيالات طالت نساء معروفات في مجال الموضة والتجميل، هنّ طبيبة التجميل رفيف الياسري، وخبيرة التجميل رشا الحسن، وعارضة الأزياء ومؤثرة معروفة بجرأتها هي تارة فارس. 

ومع كلّ دورة عنف جديدة، تعود إلى الواجهة فكرة اعتياد قتل النساء لأسباب عائلية أو شخصية، وتصنيفهنّ بشكل عام ضمن الثنائية المعهودة: خاضعات "شريفات"، أو غير متزنات "غير شريفات" (مصيرهنّ القتل!).

ولا يقتصر الأمر على تصفية الناشطات السياسيات والحقوقيات المناهضات للنظام، بل يطال أيضًا نساء شهيرات، لهنّ علاقات مُعلنة بشخصيات سياسية أو متنفّذة، وعلى صلة طيبة بالنظام الذكوري السائد.

ومن بين المستهدفات من ذاع صيتهنّ وعُرفن على نطاق واسع، بسبب مشاركتهنّ في الاعتداء على شرطة المرور مثلاً، أو تهديد مواطنين بنفوذهنّ وأموالهنّ، أو ظهورهنّ المتكرّر في وسائل الإعلام حيث بتن مادة للتندّر والسخرية بسبب مستوى تعليمهنّ المتواضع، أو استخدامهنّ لعبارات بذيئة.

لكنّ الأدوار تنقلب فجأة، وتُجرّد تلك الشخصيات من القوة والسلطة والشهرة، ويتحوّلن إلى جثث، وخبر في وسائل الإعلام، وينشغل الشارع بتساؤلات عقيمة عمّا تورطت به هذه الضحية أو تلك، وما فعلته لكي "تستحقّ" القتل بمسدس مكتوم الصوت.

فبعد أسابيع قليلة من اغتيال غفران مهدي سوادي التي عُرفت باسم "أم فهد" - وهي شخصية اشتهرت على منصات التواصل الاجتماعي، وعُرفت بعلاقاتها مع سياسيين متنفذين في الحكومة العراقية - أصدر القضاء العراقي في شهر مايو/أيار المنصرم حكمًا بالسجن المؤبد على ناشطة عراقية أخرى هي هديل خالد عبد رشيد، الشهيرة باسم "أم اللول" على "تيك توك"، وذلك بتهمة الإتجار بالمخدرات.

صعود تلك الشخصيات، وهبوطها السريع، ومصيرها المأساوي، يفتح المجال في كلّ مرة، لتحليلات كثيرة، ومنها أنهنّ يُستخدمن من قبل السلطات كمادة خصبة لإلهاء الناس عن ملفات فساد كبرى.

بموازاة ذلك، تستهدف السلطات ناشطات نسويات، غالبًا يكنّ في صدارة معارك تهدف لإقرار قوانين وتشريعات حول العنف الأسري، أو حقوق النازحات، أو زواج واستغلال القاصرات، أو يعملن لإنشاء بيوت آمنة للنساء والفتيات المُعنَّفات. كل ما سبق ملفّات حساسة جدًا، يتورّط فيها الكثير من أصحاب السلطة في العراق.

النسويات في الواجهة 

مرّ النضال النسوي في العراق بتحديات كبرى، خصوصًا بعد ثورة تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019 التي تُعدّ من اللحظات المفصلية في تاريخ البلاد الحديث. لم تولد تلك الثورة من فراغ، بل كانت تكثيفًا لحركات تحرُّر اجتماعية وسياسية في السنوات التي سبقت انطلاقها، ونبتت من جذور شعبيّة ممتدّة، خصوصًا لناحية التركيز على حقوق العراقيات.

وبرز الحراك النسوي في العراق بشكل شعبي ومباشر خلال احتجاجات البصرة في صيف عام 2018. قادت النساء الكثير من تلك الاحتجاجات، واستُهدف عدد منهن فيما بعد ليكنّ ضحية اغتيالات نفذتها المليشيات لإسكات أصواتهن المؤثرة.

من بينهنّ الناشطة المدنية البصرية رهام يعقوب، التي كان لها دور بارز في حشد النساء للمشاركة في ثورة تشرين 2019، وقبلها الحراك الشعبي في البصرة ضد الفساد، وسوء الخدمات، وسيادة المليشيات المسلحة في المدينة.

ولم يكن اغتيال رهام يعقوب عام 2020 الأول من نوعه ضدّ الناشطات. فما أن انطلقت ثورة تشرين، حتى كانت الناشطة سارة طالب أولى ضحايا الاغتيال في البصرة، تلتها سلسلة من الاغتيالات والاعتداءات على ناشطات ومتظاهرات أخريات، في عدّة مدن عراقية. وكان الغرض من تلك الاغتيالات إثارة الرعب والتشويش وإعلان المتنفذين في البلاد موقفًا واضحًا وصريحًا ضد نساء الثورة.

وبقي حضور النساء قويًا ومؤثرًا في المظاهرات والاعتصامات، بالرغم من كل أنواع العنف التي مُورست ضدهنّ من خطف وقتل وتهديد وتشهير. ذلك ما فاجأ الأحزاب الدينية التي سعت – منذ توليها السلطة - إلى تهميش دور النساء، وفصلهنّ عن الشارع ومحاولة تحديد صورتهنّ بترسيخ الثنائية المعهودة: شرف العائلة أو عارها!

تواجد النساء في الساحات بتلك القوة، كان انعكاسًا للتحدّي والتمرّد الشعبي على كل القيم الرجعية التي عملت تلك الأحزاب مجتهدةً على غرسها في المجتمع، على مدى العقدين الماضيين، مستخدمة السلاح والدين والخوف.

العصا الذكورية بالمرصاد

من يراقب وضع النساء في العراق، سيلاحظ أن أية خطوة يخطينها نحو تحسين أوضاعهن، تُقابل بموجة عنف متعمّد، يأخذ أشكالاً مختلفة، لكنه يهدف، في جميع الأحوال، إلى عرقلة أي حراك نسوي يهدّد وجود السلطة الذكورية السائدة ويتحدّاها.

يمكننا الحديث هنا عن محاولات "حزب الفضيلة الإسلامي" بدءًا من عام 2014 تمرير مشروع تعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959. وما زال مشروع التعديل مطروحًا، وتحاول الأحزاب الدينية بين الفترة والأخرى تمريره.

تنصّ المادة 57 على حق الأم بحضانة الطفل حتى سن العاشرة مع إمكانية التمديد إلى سن الخامسة عشرة. في حين أن التعديل المطروح، والمتعارف عليه "بالقانون الجعفري" لكونه يعتمد على المذهب الجعفري الشيعي في أحكامه، ينص على تقليل فترة حضانة الأم إلى سن السبع سنوات ثم نقلها إلى الأب. بذلك تصبح المرأة الراغبة بالطلاق بين خيارين لا ثالث لهما، إما البقاء في علاقة مكرهة ومجبرة - وفي كثير من الأحيان تكون مع زوجٍ معنّف - أو فقدانها حضانة أطفالها.

وتمرير "القانون الجعفري" لا يعني فقط تعديل هذه المادة، بل سيؤدي إلى أن تحتكم كلّ أسرة عراقية في قضاياها لأحكام طائفتها الشرعية، ما يعدّ تهديدًا لسلطة القضاء المدني الجامع لكافة المواطنين/ات.

وبالرغم من خسارة تعديل القانون المطروح معركته أكثر من مرة، أمام إصرار المنظمات النسوية والحقوقية، إلا أنه ما زال يُطرح بين حين وآخر، بل وأصبح يُستخدم كأنه أشبه بورقة تهديد.

فكلما طرحت منظمات حقوق النساء مطلبًا أو اقتراحًا لتعديل مواد معينة لصالح حماية النساء والأطفال، مثل اقتراح تعديل الفقرة 398 من قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969 والتي تنص على تخفيف عقوبة المغتصب في حال زواجه من ضحيته. فما ان بدأت المطالبات النسوية بتعديل هذه الفقرة أو غيرها، كالمادة 41 من نفس القانون والتي لا تعاقب "تأديب" الزوجة والأطفال بالضرب، حتى عادت الأحزاب الدينية لتلوّح بالقانون الجعفري مرة أخرى وتطالب بإقراره، وتتصدّى لأية محاولات جادة لإقرار قانون مناهضة العنف الأسري.

تتذرع تلك الأحزاب برفضها لقانون مناهضة العنف الأسري، بأنه يُهدّد الأسرة العراقية ويؤدي إلى تفككها، لأنه، بنظرهم، سيؤدي إلى سلب سلطة "التأديب" من الأب في الأسرة.

"كابوس" البيوت الآمنة

أكثر النقاط استفزازًا بالنسبة للأحزاب الدينية، في مسودة قانون مناهضة العنف الأسري المطروحة، هي جزئية البيوت الآمنة للنساء المُعنّفات.

ففكرة أن يكون هناك مكان تلجأ النساء إليه إن تعرضن للتعنيف، يفتح بابًا لا يرغب النافذون في السلطة بوجوده. فهو يمنح النساء مخرجًا وخيارًا، بعيدًا عن سلطة الزوج والأسرة والعشيرة، بل ويعطي كلّ واحدة منهنّ سلطة ذاتية على نفسها.

وذلك يعني خسارة الأطراف المتنفذة لسلطتها، خصوصًا السلطة الدينية أو السياسية، التي تستخدم القوامة الذكورية على النساء لتوهم المجتمع بسيطرتها على مفاصل الحياة كافة. 

كما أن إقرار فكرة البيوت الآمنة، يُعَدّ تهديدًا لسلطة العشائر، وسطوتها التي تدر الأرباح على بعض شيوخ العشائر بسبب ما يجنونه من أموال الديّة، والفصل العشائري في الخلافات الزوجية والعائلية.

هكذا تُستخدم جزئية البيوت الآمنة كذريعة أساسية لمعارضة قانون مناهضة العنف الأسري، وتخويف المجتمع منه، أو حتى لتلفيق التهم والضغط على الناشطات والمنظمات النسوية والحقوقية المعارضة. فالبيوت الآمنة موجودة لضرورتها، لكنها تُدار بطريقة سرية و"غير قانونية".

تستخدم البيوت الآمنة دومًا كذريعة لتصفية الناشطات واتهامهن بتهم خطرة مثل "الإتجار بالبشر" و"الخطف"، في حال ثبت تورطهنّ في إنقاذ إحدى ضحايا التعنيف، حتى وإن كانت الضحية هي من لجأت لهنّ بإرادتها.

وقد غادرت بعض الناشطات العراق أو توقفن تمامًا عن العمل النسوي بعدما رُفعت قضايا ضدهن، تتهمهن بالإتجار بالبشر، من قبل جهات مدفوعة من الأحزاب، سواء كانت العشيرة أو أُسر الضحايا، أو محامين تحت عباءة تلك الأحزاب. 

وقد صدرت بحق بعضهن بالفعل مذكرات اعتقال وحتى أحكام بالسجن. وتروي لجيم الناشطة (م.غ) أنها اضطرت للهرب خارج العراق بعد تلقيها سلسلة من التهديدات، وصلت إلى محاولة اغتيالها بإطلاق النار عليها من سيارة مسرعة، بعد انتهائها من زيارة لإحدى ضحايا التعنيف الأسري. 

تلت محاولة الاغتيال تلك، سلسلة من الاتهامات والبلاغات من جهات مختلفة، من ضمنها عشيرة زوج الضحية، تتهمها بمحاولات خطف الضحية المُعنّفة. تطوَّر الأمر حدّ صدور أمر رسمي بإلقاء القبض عليها بتهمة الاتجار بالبشر. بقيت (م.غ) تتنقل من مخبأ إلى آخر داخل العراق، إلى أن نجحت بمغاردة البلاد بطريقة غير رسمية قبل مدّة.

بالرغم من ذلك كله، ورغم الخطر على حياتّهن، تواصل الكثير من الناشطات والحقوقيات والمناضلات النسويات العمل الحثيث في سبيل التغيير.

ومع كل الفوضى والفساد والخطر المستمر الذي يحيط بالعمل الحقوقي والنسوي في العراق، إلا أنه لا يزال مستمراً بإصرار كبير، بشكل فردي أو عن طريق المنظمات والجمعيات المحلية. 

وتستمرّ الجهود سواء عن طريق التمكين الاجتماعي والاقتصادي للنساء، أو التمثيل الحقوقي، أو عن طريق تقديم العون لضحايا العنف وإن كان ذلك بطرق لا يعترف بها القانون الحالي، كتوفير بيوت آمنة للضحايا. 

ورغم أن الفوضى هي المحرك الأساسي للأمور في العراق، إلا أن المعارك القانونية والحقوقية - بالرغم من ضعف المؤسسات القضائية والجهات التنفيذية في تطبيق القانون- تُعد من أهم القضايا التي يدور حولها النضال النسوي وربما المجتمعي بشكل عام. 

إعادة تفعيل تطبيق القوانين بدلاً من الفوضى ستعيد سيادة المدنية التي كانت أساس المجتمع العراقي منذ إعلان استقلال العراق عام 1932. 

هذه القوانين هي الضمانة الوحيدة لخروج العراق من سيطرة الفوضى والفساد وإعادة بناء البلد كإحدى الدول الرائدة في المنطقة في التنظيم المجتمعي وضمان حقوق الأفراد، خاصة النساء.

هذه المادة جزءٌ من ملفّ جيم بعنوان "حراكاتُنا النسويّة: كيف نُبقي الأملَ حيًا؟" وتم بدعم من مؤسسة CREA.

ديمة ياسين

ديمة ياسين كاتبة وباحثة عراقيّة.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.