"ﻫﻮﻱ ﻳﺎ ﺑﻨﺎﺕ ﺍﺑﻘﻮﺍ ﺍﻟﺜﺒﺎﺕ، ﺛﻮﺭﺗﻨﺎ ﺩﻱ ﺛﻮﺭﺓ ﺑﻨﺎﺕ"، هكذا هتفَت النساءُ السودانيات قبل ستّ سنواتٍ في الشوارع التي استعَدنها من الأنظمة القمعية، فتحوَّلت أناشيدهنّ إلى شعاراتٍ ثوريةٍ ترسم ملامح مُستقبلٍ بذلنَ في سبيله الكثير، لتُخطف منهنّ المساحات مُجدّدًا ويعود العسكر بسلاحهم إلى الساحات. 

السودان ليس البلد الوحيد الذي لم تفارقه الصراعات الأهلية والحروب بالوكالة خلال العقد الماضي، فإليه تُضاف النزاعاتُ المستمرّة في اليمن وسوريا ولبنان وليبيا، بينما تستمرّ جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وسط حمّام الدّم هذا، تبرز فجّةً المواقفُ الهزيلة لمعظم المنظّمات الدولية المنادية بالنسوية وحقوق النساء إزاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحقّ غزة وأهلها، التي كدنا لوهلةٍ نصدّق أنّها تقاطعيةٌ ومؤمنةٌ بحقوق الإنسان من دون تمييز. هذه "اللا-مواقف" تفضح الوجهَ الاستعماريّ لتلك المنظّمات وعنصريّتها المقنّعة خلف شعارات النسويّة والأختيّة، وصمتها عن مقتلة غزّة بنسائها وأمّهاتها وأطفالها ورجالها بينما تموّل هي نشاطاتٍ وبرامج نسويّةً في منطقتنا "لإنقاذنا" من مجتمعنا الذكوريّ العنيف.

هذه المنعطفات السياسية الدولية والمحلّية، والهجمات الأمنيّة التي لم تتعب من ممارستها أنظمتُنا المختلفة، أدّت إلى تشتّت الحراك النسوي، وانحساره أو دخوله في حالةٍ أشبه بـ "كوما". اليوم، لا نبالغ إن قلنا إنّ غالبيّة الحراكات النسوية في منطقتنا تكاد تقتصر على المنصّات الرقمية.

فأيّ حراك، مهما كان رمزيًا، يُقضى عليه في المهد خوفًا من امتداده، كما حدث في أبريل/نيسان الماضي أمام المقرّ الإقليمي لمكتب هيئة الأمم المتحدة للمرأة في القاهرة، حيث اعتقلَت قوات الأمن المصرية ناشطاتٍ تظاهرن تضامنًا مع نساء غزة والسودان، قبل أن يُطلق سراحهنّ بكفالةٍ على ذمّة التحقيق.

فأين هي حراكاتُنا النسوية اليوم؟

بناءً على تعريف الحركات الاجتماعية بأنها "مجموعةٌ من البشر لديهم/ن تجربةٌ مشتركةٌ تتعلّق بالظلم، ينظّمون أنفسهم/ن من أجل بناء قدرةٍ وقيادةٍ جماعية، ووضع جدول أعمالٍ مشتركٍ للتغيير، ويسعَين إلى تنفيذه من خلال العمل الجماعي، مع بعض الاستمرارية على مدار الزمن"، يتأكّد لنا غياب الحراكات النسوية المحلّية والقاعدية عن ساحاتنا حاليًا. فبالرغم من الجهود الجبّارة التي تبذلها النسويّات - أفرادًا ومجموعاتٍ على امتداد بلدان منطقتنا - تستمرّ العراقيل التي تعيق تحوّل الحراك النسوي الإقليميّ إلى قوّةٍ تنظيميّةٍ قاعديةٍ فعّالةٍ وقادرة، حتى أنّ بعض المجموعات التي تحمل الشّعارات والقضايا النسويّة تُعيد إنتاج ديناميّات التهميش والإقصاء والهيمنة داخلها، مستخدمةً أدوات التمييز الطبقي والعنصري التي نراها في صفوف النسوية البيضاء أو جماعات "نسويّة الدولة" .

يُضاف إلى ما تقدّم تعزيز دور "نسوية الدولة" في بلدانٍ مثل مصر وتونس، حيث استعادَت الثورة المضادة زمام الأمور وأمسكَت بالسلطة، لترسم سقفًا حديديًا يعيق أيّ حراكٍ نسوي جذريّ يسعى إلى تغيير الوضع القائم على المستوى السياسي أو الاقتصادي و الاجتماعي. فما هي آثار مأسَسة سياسات الجندر التي اعتمدَتها معظم الأنظمة السلطوية في المنطقة؟ وكيف تبدّل حالها في السنوات الأخيرة؟

من جهةٍ أخرى، أسهمَت مهنَنة النسوية بتحويل بعض النضال النسوي من التزامٍ سياسيّ وشخصيّ بالقضاء على الاضطهاد بأشكاله كافّة، إلى مجموعة خطط عملٍ وتقارير هدفها إرضاء الجهة المموّلة. وبهذا سيطرَت المنظّمات غير الحكومية على المجال العام، مبعِدةً المجموعات القاعديّة والعضويّة . وأدّى إضفاء الطابع المهنيّ و"المختصّ" على هذه المنظّمات إلى أن تصبح مساءلتها من قبل المموّلين بدلًا من المجتمعات التي تخدمها، كما أن توسّعها جلب معه بالضرورة ممارساتٍ وتوجّهاتٍ بيروقراطية.

في ظل هذا الواقع، كيف يمكن للمناضلات النسويّات في منطقتنا أن يُعدن بناء مواقفهنّ ثوريًا وسياسيًا في مواجهة البُنى الأبوية وسط الصراعات المسلّحة، والاحتلالات المتعدّدة، والانهيارات الاقتصادية، والنسوية الغربية اللاتقاطعية، والحكومات السلطويّة؟ كيف يمكن إعادة الزخم للتحرّكات النسوية كي تتجمّعَ من جديدٍ حول قضايا محدّدة؟ أين موقع حركاتنا اليوم في مناهضة الرأسمالية، والعنصرية، والاحتلال، ورهاب المثلية؟ أين نحن الآن؛ والأهم، إلى أن نريد أن نصِل؟ 

إزاء كلّ هذه الأسئلة، نفتتح في "جيم" ملفًّا جديدًا بعنوان "حراكاتُنا النسويّة: كيف نُبقي الأملَ حيًّا؟"، لنفكّر معًا ونشتبك مع التحدّيات القائمة، سعيًا إلى ابتكار استراتيجياتٍ جديدةٍ للمقاومة، أو ربما إلى إحياء أدواتٍ قديمة، ولنتشارك المعارف والإلهام من تونس، ولبنان، والسودان، وسوريا، وفلسطين، ومصر، واليمن، والعراق، على امتداد جغرافيّاتنا وتجاربنا.

في هذا الملفّ الجديد، نبني على موادّ أُنتِجَت سابقًا مثل دليل "من التاريخ إلى المستقبل، الحركات النسوية في المنطقة"، بغرض إنتاج معرفةٍ جديدةٍ تحلّل واقع حركاتنا اليوم في مواجهة الإغلاق التام للمجال العام في بلادنا، وتتقدّم الصّفوف نحو التحرير والتحرّر وانتزاع الحقوق. كما سنتناول المنصّات والمبادرات النسوية العابرة للحدود التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي منبرًا لها لتقاوم الاستعمار والنسويّة البيضاء المهادِنة للاحتلال، إضافةً إلى الأنظِمة العسكرية والقيَم الأبوية التي تهيمِن على اليوميّات. 

تابعونا وشارِكن آراءكنّ معنا!