لم يحدد القانون الجزائي التونسي بدقة أركان جريمة "الاعتداء على الأخلاق الحميدة والآداب العامة"، ليَترك بذلك ثقوبًا غامضة وفضفاضة تتسرب من خلالها الأجهزة الأمنية إلى بعض وجوه الحياة الحميمية للأفراد.
كان الشاعر العراقي مظفر النواب، في قصيدته الشهيرة "في الحانة القديمة"، يسائل سيّدته المتخيلة عن جدوى الحديث عن شرف الإنسان العربي بعد أن تمتد إليه الأجهزة الأمنية؛ "سيدتي كيف يكون الإنسان شريفًا/ وجهاز الأمن يمدّ يديه بكلّ مكان". وُلد الاستفهام "النوّابي" من رحم زمنٍ عربي مُوحش، طُحِنت فيه الأجساد والكينونات والأفكار تحت الأحذية العسكرية والاستخباراتية. ربما صار هذا الزمن بعيدًا بعض الشيء، وقد يكون مغايرًا للزمن التونسي الآني المُتّسم بانفتاح سياسي وثقافي، ولكن هل كَفّ الجهاز الأمني عن مدّ يديه بكل مكان؟ هل انتهى زمن المراقبة الأمنية للمناطق الفردية الخاصة؟
تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي في تونس، في الآونة الأخيرة، مقطعًا من برنامج تلفزي عُرف بدعائيته للتدخلات الأمنية، يُظهر فتاة وصديقها بصدد التعرض إلى الهرسلة (المضايقة) الأمنية، بسبب وقوفهما منفردين في مكان معزول ليلا. وتحت وابل الأسئلة؛ أين تشتغل؟ هل تسكن بمفردك؟ ماذا تفعلين هنا؟ أُجبِر الصديقان على مغادرة المكان، واقتيدت الفتاة إلى سيارة الشرطة. وأمام الاستياء الذي خلّفته هذه الحادثة لدى عدد كبير من مستخدمي الميديا الاجتماعية ونشطاء المجتمع المدني، أذنت النيابة العمومية بفتح بحث تحقيقيّ في الحادثة.
لم يكن معدّو برنامج "بلا قناع" الذي وثّق الحادثة، يدركون أن صحافة الإثارة البوليسية ستصنع جدلا اجتماعيًا حول مسألة الانتهاك الأمني للحريات الفردية، وأنها ستُعلن بوضوح استمرار حملات "من أجل الأخلاق الحميدة" التي أعادت إلى الأذهان محنة جيل شبابي عايَش، بداية الألفية الثالثة، المصادرة السلطوية للفضاء العام، تحت حجة حراسة الآداب العامة. في صيف 2004 شنّ نظام بن علي حملات أمنية في الحدائق العامة والشواطئ وأماكن عامة أخرى، جرّت وراءها العديد من الشابات والشبان إلى مراكز الاحتجاز والسجون في بعض الأحيان، تحت تهمة "الاعتداء على الأخلاق الحميدة"، وبعدها بحوالي سنة أعلن وزير داخلية النظام السابق، الهادي مهني، انتهاء الحملة بعد أن "حققت نتائج إيجابية"، معترفًا في نفس الوقت بأن تنفيذها "أحدث بعض الاستفزاز وعددًا من التجاوزات من قبل الأعوان"1 . استمرت تلك الحملات الأمنية طيلة فترة حكم بن علي، رغم معارضتها من بعض القوى المدنية على غرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وقد كانت تتناسب إلى حد كبير مع طبيعة النظام الرافضة لكل مظاهر التحرر من خارج خط السّير السلطوي.
فضاءات الحب الهامشية تحت الرقابة الأمنية
لم يحدد القانون الجزائي التونسي بدقة أركان جريمة "الاعتداء على الأخلاق الحميدة والآداب العامة"، ليَترك بذلك ثقوبًا غامضة وفضفاضة تتسرب من خلالها الأجهزة الأمنية إلى بعض وجوه الحياة الحميمية للأفراد، خاصة في الفضاء العام الذي يُراد له دائمًا أن يكون تحت الضبط والرقابة. ومازالت وزارة الداخلية إلى حد الآن تُذيع على موقعها الرسمي أخبارًا حول إيقاف أشخاص تورطوا في "الاعتداء على الأخلاق الحميدة". خلف الأخبار الأمنية الروتينية، يلوّح وجه السلطة باستراتيجياتها العقابية وأجهزتها الأمنية التي تعكف على مراقبة الأماكن العامة ذات الدلالات الحميمية والمقترنة باختلاط جنسي، مثل الحدائق العامة والشواطئ. هذه الأماكن يمكن اعتبارها مجالات هامشية للحب أو الصداقة، لأنها تشكل حاضنة لأعداد من المُحبين المنزوين، الذين لفظهم مجال مَديني هَندَستْهُ الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
معظم روّاد الحدائق العامة والشواطئ يأتون من أحواز وهوامش المدن الكبرى، وبالتالي هم حاملون لهشاشة اجتماعية قِبَلية بحكم انحدارهم من بؤر الفقر والجريمة، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للرقابة الأمنية التي تلتقط القبل والعِناقات الطائشة. يشكّل كل هؤلاء "جيش الاعتداء على الأخلاق الحميدة" الذي تجاهد ضده الحملات الأمنية، لتستقر بذلك معيارية أخلاقوية يَرسم حدودها عون الأمن، بكل ما شحذته به السلطة من ثقافة أمنية وسياسية تسلّطية، وما تتيحه له رواسبه الثقافية الدفينة التي لا تسمح بمساحات الاختلاف والحرية.
جدلية المجتمع والسلطة: من يفرض الأخلاق الحميدة؟
يُعرّف الكاتب التونسي والباحث في علم الاجتماع، الطاهر لبيب، الحب بأنه "المطلب القديم للسعادة التي ما انفكّت تحاصرها سلطٌ متنوّعة، إما لإثبات أنها المتحكّم في منحها للناس وإما لتأجيلها إلى عالم آخر"، مضيفا بأن "أزمة الحب ليست أزمةَ علاقة بين الرجل والمرأة، فهي، قبل ذلك، أزمة حريّةٍ تضيق بها ثقافة سائدة تتماهى معها سلطة سياسية، على أنها ثقافة الشعب وتقاليده"2 . من هذا المنظور يتشابك البناء الثقافي السائد مع السلطة السياسية الباحثة عن شرعية اجتماعية، لينتجا توليفة الهيمنة على الفرد، باسم حماية التقاليد والآداب العامة. وهكذا تصبح "الأخلاق الحميدة" لحظة مكثفة للالتقاء بين معيارية اجتماعية محافظة، وسلطة تُظهر التماهي مع الحس المشترك من أجل الضغط على مطلب الحرية، سواء تجسّد في الحب أو في السياسة.
شكلت الثورة لحظة انتقال جديدة بعثرت المجال السياسي وأعادت تركيبه بشكل أو بآخر
رغم أن حركة المجتمع التونسي تتجه نحو تبني سلوكيات اجتماعية وجنسية معاصرة ومناقضة لعادات الأجداد المنقرضين، فإن المعايير ظلت محافظة ورافضة لها. هذا المستحدث الزاحف يتجلى في مظاهر عدة مثل؛ تلاشي مظاهر الزواج المبكر، إقامة علاقات جنسية خارج مؤسسة الزواج، استعمال موانع الحمل، تقلص حجم العائلات وازدياد نسب الطلاق. هذه المظاهر يصفها الباحث المغربي عبد الصمد الديالمي بـ"التجلي السوسيولوجي للانتقال القيمي للمجتمع من النسق القديم إلى النسق المستحدث والمعاصر"3 ، ولكنها لا تحظى بالاعتراف الاجتماعي نظرًا للممانعة الأخلاقية التي تتمترس خلفها الثقافة التقليدية، وتساهم السلطة في تغذية هذه الممانعة لأنها لم تكن قادرة على المواكبة الهيكلية لحالة الانتقال الجديدة، لم تطور مناهجها التربوية والثقافية والسياسية وظلت متمسكة بإجاباتها الأمنية القديمة، لأنها تنظر للمجتمع بوصفه موضوعًا للضبط والإخضاع، وليس حركة في حالة تخلّق وإعادة تركيب مستمرين.
تونس-الثورة ومواجهة العراء القِيمي
شكلت الثورة لحظة انتقال جديدة بعثرت المجال السياسي وأعادت تركيبه بشكل أو بآخر، ورافقتها حالة تشظٍّ للفضاء العام وانفجار للمكبوتات الأخلاقية والدينية والرمزية. ولكن الوضع الجديد المتّسم بانفتاح سياسي وحقوقي، لم يوازه انتقالٌ قيمي ورمزي يعترف بقيمة الحرية في مستوى أبعد من المجال السياسي، لتمتد إلى المجالات الأقل عمومية وتُصبح حالة ثقافية واجتماعية. مع مرحلة التحول سعت السلطة-الدولة إلى استعادة الفضاء العام من خلال منظومة الحواجز الأمنية التي كانت تجد مسوغاتها في "مكافحة الإرهاب" و"مقاومة فوضى الاحتجاج"، وعلى مستوى آخر سعى الإعلام المُهيمن -المرتبط بشكل أو بآخر بأجندات السلطة- إلى تنشيط لعبة القيم والأخلاق من خلال مواده الصحفية، التي تناولت بشكل محافظ وتخويفي المسألة الجنسانية، على غرار قضية الحريات الجنسية والتحرش الجنسي والعنف الزوجي والخيانة الزوجية. عبر هذا الخط الإعلامي وُضِع المجتمع تحت حالة من الإنهاك القيمي، جعلت الكثير من فئاته في حالة خوف متجددة على معتقداتها وأخلاقها وأنماطها الثقافية الأبوية، وبالتالي لم يتطور الأفق الاجتماعي إلى درجة تجعله ينصرف إلى بناء مرجعية قيمية جديدة متلائمة مع وضع الحرية الجديد.
هذه الاستراتيجية سمحت للسلطة بالمواجهة الناعمة لحالة الانتقال الجديدة، ولم تتمكن القوى المدنية والسياسية المتبنية لقيم مختلفة عن السائد من فرض تصوراتها، حتى أن النضال على الواجهة القانونية كان متعثرًا بعض الشيء وقُوبِل بقوة محافظة مضادة. ودستور جانفي/يناير 2014 جاء ليعكس ميزان قوة سوسيو-سياسي، طرفاه الرئيسيان، قوى مدنية وسياسة تحتفظ بأفق حداثي وتريد دخول الزمن الليبرالي عبر تجذير مقولة الفرد التي سحقتها أيديولوجيات الإجماع الوطني، وعلى الطرف الآخر يقف تيار إسلامي محافظ، يتحصن وراء مقولة الجماعة التي سعى إلى فرض أركانها في الدستور الجديد، من خلال مفردات عامة وقابلة للتأويل مثل "حماية المقدسات ومنع النيل منها"، "حماية الأسرة" و"الآداب العامة". المعركة القانونية من أجل الحريات الفردية مستمرة في تونس، عبر تبنيها من قبل بعض الديناميات الحقوقية والسياسية، ولكنها إلى حد الآن مكبلة بسقف السلطة وموازناتها الحزبية، إضافة إلى أنها تظهر إلى حد الآن منفصلة عن قطاعات واسعة من المجتمع -خصوصًا الشباب والنساء- وهو ما يجعلها مدعوة أكثر إلى تغيير بيداغوجيتها التغييرية وسياساتها الاتصالية.
- 1"وزير الداخلية والتنمية المحلية: توقف حملة الأخلاق الحميدة لا يعني تغاضينا عن المخالفين"، جريدة الشروق، 18 جوان 2005.
- 2الطاهر لبيب، العرب والحب في زمن اللاحب، مجلة بدايات (فصلية ثقافية فكرية)، العددان 8-9، ربيع/ صيف 2014.
- 3محمد الإدريسي: التحولات الجنسانية في المغرب المعاصر، مؤسسة مرمنون بلاحدود، جويلية 2017.
إضافة تعليق جديد