ترددتُ كثيرًا قبل أن أكتب تفاصيل هذه الجريمة ليس لأنّها أكثر وحشيّة من القصص السابق ذكرها بل لأنّني سمعتها على لسان أختي التي عاشت تفاصيلها وهي بعمر الرابعة عشر.
ستون يومًا حصيلة رحلتي للبحث عن شهادات توثق لما يُسمّى بـ"جرائم الشرف". لم يكن الوصول إلى هذه الشهادات أمرًا هيّنًا، فقد رفض أغلب الذين اتصلت بهن البوح عن تفاصيل قصص مفجعة. كانت محافظة الدقهلية وجهتي الأولى لتوثيق جرائم نصرت الجاني وحاكمت الضحية / الناجية، ثم تواصلت مع محافظات الإسكندرية، وكفر الشيخ، وقنا، وسوهاج، والقاهرة. انتابتني نوبات الهلع أكثر من مرّة طيلة فترة العمل على الموضوع. ولم أكن الوحيدة التي بكت بهستيريا، فجميع من قابلتهن كن مرتبكات وغير قادرات على السيطرة على مشاعرهن لحظة البوح. إنّه تمرين صعب عليهن وعليّ أيضًا.
الشكّ طريق إلى الجريمة
عقب عدة محاولات للاتصال ببثينة (اسم مستعار) كانت نتيجتها عدم الرد في بدء الأمر، وفي إحدى المحاولات البائسة وقبل سماع صفارة الانتهاء الرتيبة، فاجئتني بصوتها الحزين يرد على الهاتف.
"الجيران قالولي إلحقي بنتك ماتت"، هكذا بدأت بثينة استرجاع تلك التفاصيل التي لم تغب يومًا عن بالها بعد سؤالي عن حكاية –خنق- طليقها لابنتها البالغة من العمر 14 عامًا. هرولت إلى منزل الزوج الذي انفصلت عنه دون طلاق، بعد عدة محاولات ووسطاء لمدة استمرت أكثر من 50 يومًا.
حالة بكاء هستيرية سيطرت على الأم عندما تذكرت الذنب الذي اقترفته في حق ابنتها الحاملة لإعاقة جسديّة عندما تركتها لزوجها آنذاك (طليقها حاليًا) وأخذت الولد المقرب إلى قلبه في محاولة لابتزازه حتّى يكفّ عن تعنيفها هي وأطفالها. بصوت مختنق بيّنت الأم البالغة من العمر 41 عامًا الكواليس التي سبقت قتل ابنتها خنقًا والتي كان الشكّ محرّكها الأساسيّ. كان الأب يُراقب ابنته بصرامة وفي أحد الأيّام وعندما كانت تتحدث في هاتفها اقتحم الغرفة، ونزع الهاتف من يدها وانهال عليها ضربًا ثمّ خنقها ولم يتركها إلا بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة، "أنا بكلمك وأنا قلبي موجوع ونفسي ربنا يسامحني" تقول الأم.
طلبتُ منها أن تُحدّثني أكثر عن طليقها فأخبرتني بأنّه شخص عنيف جدّا قائلة: "ولادي كانوا بيكرهوه وبيقولوا يارب يموت، وأهله كلهم كانوا مقاطعينه". عقب زواج دام 15 عامًا قررت بثينة ترك منزل الزوجية والذهاب إلى بيت عائلتها، ولكي تضغط على الزوج لتغيير معاملته، نزعت منه الولد الأقرب إلى قلبه وتركت له الابنة ذات الإعاقة، "كنت بهدده عشان ينصلح حاله وغلطة عمري إني سبت ضنايا لحد ما خنقها وموتها".
دخلت الأمّ في صدمة نفسية بعد تعرضها لذلك الحادث الأليم أفقدتها القدرة على النطق؛ مما دفعها للتواصل مع مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، للحصول على جلسات تأهيل نفسي استمرت لمدة عام. لم تستطع الأم ذكر مزيد من التفاصيل ووجهتني إلى مدير المركز المحامي والحقوقي رضا الدنبوقي الذي تولى الدفاع عن الفتاة. حدّثني عن المسار القانوني للقضية، مُبيّنا أنها واقعة قتل على خلفية "الشرف" بسبب شكّ الأب في ابنته بأنّها على علاقة بشاب. نقل لي المحامي بعض تفاصيل التحقيقات مع الجاني الذي اعترف بخنقه لابنته بالطرحة (الحجاب) التي تعلو رأسها.
رفض المحامي إطلاق مسمى "جرائم شرف" على هذا النوع من القضايا، واستبدلها خلال حديثه بجرائم التعدي على النفس قائلا: "القانون يساعد الجاني على ارتكاب جريمته خاصة المادة 171 و552 من قانون الإجراءات الجنائية"، مواصلا حديثه: "حكم القاضي على المتهم في قضيّتنا بثلاث سنوات فقط، حيث نزّل في العقوبة إلى الحدّ الأدنى، وكان المبرر للقاتل أن عنصر المفاجأة والاستفزاز أود به للقيام بجريمته، بمعنى أنّه لا يعد قتلا عمدا".
قابيل الجديد يغتصب ويهدّد بالقتل
بلاغ من خط نجدة الطفل كان الخيط الأول لتولي راوية السعدني، مديرة مشروع مكافحة الاتجار بالأطفال بالإسكندرية، لحالة منى، التي هربت من محافظة سوهاج –إحدى محافظات صعيد مصر-، وهي تبلغ من العمر 15 عامًا حاملة طفلها بين ذراعيها. تحولت الفتاة من مديرية أمن القاهرة بعد التقاطها من الشارع، لدار رعاية فتيات الأمهات الصغيرات، لم تحسن الدار التعامل مع حالتها شديدة السوء. رغم وساطة السعدني بيني وبين الفتاة لإقناعها بسرد تفاصيل قصتها، أجابت بالرفض القاطع تجنبًا لاستحضار نوبات الهلع التي سيطرت عليها لسنوات بسبب الحادثة التي تعرضت لها. فأصبحت المشرفة على حالتها حتى الآن، الدكتورة راوية السعدني هي حلقة الوصل بيني وبين الفتاة.
بنبرة غضب استرجعت الدكتورة تفاصيل الجريمة التي ارتكبت في حق القاصر "فوجئت أن معاها طفل وكانت حالتها النفسية سيئة جدا وجاتلي عشان الدار معرفتش تتعامل معاها"، مُتحدّثة عن حالة التمزّق التي عاشتها الفتاة بين أم و أب منفصلين. وعندما أتمت 13 عامًا ذهبت للعيش مع والدها وإخوتها الكبار، وزوجة الأب صغيرة السن. وبعد فترة وجيزة اكتشفت الفتاة أن زوجة والدها على علاقة مع أخيها غير الشقيق فهددتهما بفضح أمرهما، لكنّ زوجة والدها سرعان ما دبرت مع شقيقها خطة مُحكمة لإسكاتها. هنا تقول راوية بصوت حزين: "مرات أبوها حبستها في الأوضة ووقفت على الباب لغاية ما أخوها اغتصبها، مش بس كدا فعشان تخوف البنت كررت الاغتصاب أكتر من مرة".
"وفاة الأب" و"تغير في شكل بطن الفتاة"، تلك كانت دوافع الفتاة التي تبلغ من العمر 14 عامًا آنذاك لتلجأ إلى والدتها وتسرد تفاصيل ما تعرضت له، في الوقت الذي ظنت فيه الفتاة أن والدتها طوق نجاتها، كانت الأم حاكمًا غير عادل وتخلت عنها قائلة: "أمها مصدقتهاش وقالت لها انتي أكيد غلطتي مع حد وبتلزقيها لأخوكي ولازم تتقتلي". اتفقت الأم مع شقيقها المجرم على قتلها.
سيطرت على مُحدّثتي مشاعر سيئة عندما استحضرت الحكاية التي مر عليها أربع سنوات، فعلّقت الحوار لدقائق ثمّ انتقلت للحديث عن حياة منى في الدار التي تشرف عليها، فأخبرتني بأنها خضعت لجلسات التأهيل النفسي في بداية المطاف، ومن ثم لبرامج التمكين الاقتصادي وبرنامج محو الأمية وأُلحقت بعمل لتحقيق الدمج المجتمعي. رغم كلّ هذا لم تستطع منى تجاوز محنتها وصارت مضطربة وعنيفة إلى درجة أنّها حاولت مرّة خنق راوية لأنّ بنتا في الدار عايرتها بابنها، وهو ما اضطرّ المديرة إلى إخضاعها إلى العلاج النفسي لفترة طويلة، "والآن منى متزوجة وتربي ابنها بعيدًا عن أهلها وتربح قوتها بنفسها"، تقول راوية بفخر.
انتصار السمّ على غريزة الأمومة
ترددتُ كثيرًا قبل أن أكتب تفاصيل هذه الجريمة ليس لأنّها أكثر وحشيّة من القصص السابق ذكرها بل لأنّني سمعتها على لسان أختي التي عاشت تفاصيلها وهي بعمر الرابعة عشر. أعرف جيّدا حالة الهستيريا التي تتلبّس أختي في كلّ مرّة تستحضر فيها حكاية قتل صديقتها وزميلتها في الصفّ بالسمّ.
بدأت الحكاية عندما كانت أختي في الصف الثاني إعدادي، ساورها قلق شديد على صديقتها عبير (اسم مستعار) التي تغيّبت لأكثر من أسبوع عن الدرس. سألت عنها نساء الحيّ اللاّتي أخبرنها بأنّها "حامل في الحرام من قريبها". لم تفهم أختي شيئًا وقتها وسمعت بالصدفة أو تنصّتت -لا يهمّ- على اثنتين من جاراتنا تقول إحداهما للأخرى: "أم عبير راحت للدكتور أحمد وجابت منه سمّ عشان تموتها أصلها غلطت مع الواد أحمد قريبها وجارهم وبطنها كبرت من الحمل".
ذعرت أختي بعد أن استوعبت ما حصل لصديقتها التي أخفت عنها علاقتها بقريبها أحمد، فهي تعرف جيّدًا أنّ مثل هذه العلاقات مُجرّمة في مجتمعاتنا الرجعيّة وأنّ الأهل لا يغفرون وقد يصل الأمر أحيانًا إلى القتل. قرّرت الذهاب إلى بيت صديقتها وسألت أمّها عنها لكنّها طردتها، في ذلك اليوم المشؤوم سمعت أختي صرخات صديقتها ولم تستطع فعل شيء. في اليوم الموالي وصلها خبر وفاتها. هكذا بكلّ بساطة وكأنّه فيلم سينمائيّ رديء قُتلت الفتاة بسبب حملها من قريبها. وبعد فشل محاولات أمها للتخلص من الجنين اتفقت مع أحد جيراننا –وكان طبيبًا- على قتلها بالسمّ، هذا الطبيب معروف في حيّنا وهو أكثر رجعيّة ووحشيّة من الأم المجرمة، وبما أنّ له علاقات مع الضبّاط وكلمته مسموعة قال في المباحث بأن الفتاة توفّيت إثر أكلة مُسمّمة، وكُتب تقرير الوفاة على هذا الأساس.
هكذا بكلّ بساطة وكأنّه فيلم سينمائيّ رديء قُتلت الفتاة بسبب حملها من قريبها.
لم تتجاوز أختي الحكاية فقد طوّقها الإحساس بالذنب ودائمًا تقول: "صاحبتي ماتت من 20 سنة بس ما بتغبش عن بالي أبدا، وحاسة بذنبها لأن كان ممكن أعمل أي حاجة".
الاستمتاع الذاتي والعقاب "شطة"
في إحدى البنايات السكنية بمنطقة وسط البلد، وبعد شهر من المحاولات للقاءِ الفتاة العشرينية التي تعمل في مجال حقوق المرأة، وافقت مارينا وجيه أخصائيّة الدعم النفسي على مقابلتي لتسترجع معي تفاصيل حاولت أن تمحوها من ذاكرتها. "مبحبش افتكر الحكاية ديه خالص دا أنا انهرت وقتها وكنت هتجنن"، اختارت مارينا هذه الكلمات لتصف بها القصة التي استوقفتها بالصدفة وهي بصدد استقبال مجموعة من القصص عبر إحدى مجموعات الدعم النفسي المغلقة الخاصة بالنساء على موقع فايسبوك. قصّة فتاة تبلغ من العمر 21 عامًا، دخلت عليها الغرفة والدتها وهي تمارس الاستمتاع الذاتي.
توقفت للحظات عن الحديث لتتنفس بعمق، وطلبت مني الانتقال إلى سطح العمارة، لتنفّس الهواء الطلق، وعادت لتكشف تفاصيل المحكمة التي نصبتها الأم وابنها للفتاة التي عنّفوها بشدّة. "الأم ما اكتفتش بتدخّل أخوها بس دي قالت لخالتها كمان وانضمت معاهم لضرب البنت" تقول محدّثتي.
أوشكت مارينا على البكاء وهي تتذكر تفاصيل الحكاية لكنّها تمالكت نفسها قائلة: "مينفعش نعيط وإحنا مع الناجيات نهائيًا بس أنا عشان بحكيلك دلوقتي أنا مش قادرة أمسك نفسي، ولو سمعتي باقي القصة هتعرفي أنه غصب عني". حدّثتني عن سلسلة العقاب التي مارستها الأم ضد ابنتها، حيث حبستها ومنعت عنها كافة وسائل الاتصال، والأكثر من ذلك استخدمت الأم السلاح الذي استخدم ضد النساء اللواتي يتعاون مع العدو خلال الحروب فقامت بحلق شعر ابنتها خاصة أنه كان أحب شيء لقلبها، لتكمل جريمتها بالاتفاق مع الخالة للقيام بالفعل الأكثر بشاعة، وهو وضع مادة حارة –الشطة- داخل جهازها التناسلي.
بدوري لم أستطع السيطرة على مشاعري فطلبت من مارينا، التي دعمت العديد من النساء المعنفات التوقف للحظات والانتقال إلى موضوع آخر، ثم عادت لتسرد لي محاولات وصول زميلات الفتاة إليها، ولكنها باءت بالفشل في البداية، ثم وافقت الأم بدخول الصديقة الأقرب لابنتها، وكانت هذه لحظة النور للفتاة، ومن هنا وصلت القصة عبر هاتف صديقتها عبر إحدى المجموعات النسائية المغلقة.
حاولت مارينا التواصل مع الفتاة عبر نشر القصة، بينما اختفت، ولم تعرف عن مصيرها شيئًا، مختتمة حوارها معي: "القصة ديه عذبتني نفسيا وأنا شغلي دعم النساء اللي بيتعرضن للاغتصاب والتحرش والعنف. رحت لمركز متخص وأخدت جلسات دعم نفسي عشان أعرف أكمل".
لم ينتهِ قتل النساء أو معاقبتهن بعنف تحت ذريعة "الشرف" عند هذه الحكايات التي وضعتني في عالم وحشيّ وأدخلتني في دوامة نفسية أسقطتني في هوة سحيقة لم أستطع الخروج منها حتى الآن. عالم يقهر النساء ويعتبرهنّ الطرف الأضعف، المفعول به وليس الفاعل، ويبقى السؤال الأهم متى يقف القانون بصف النساء ويوقف تلك الجرائم ويعاقب فاعليها؟
- 1تنص المادة 17 من قانون الإجراءات الجنائية على حق المحكمة في النزول بالعقوبة درجة أو درجتين عن العقوبة القصوى، وفقا لما تراه من ظروف ووقائع الجريمة محل الاتهام.
- 2تنص المادة 55 لمأموري الضبط القضائي أن يضبطوا الأوراق والأسلحة وكل ما يحتمل أن يكون قد استعمل فى ارتكاب الجريمة أو نتج عن ارتكابها أو ما وقعت عليها الجريمة، وكل ما يفيد فى كشف الحقيقة، وتعرض هذه الأشياء على المتهم، ويطلب منه إبداء ملاحظاته عليها ويعمل بذلك محضر يوقع عليها من المتهم، أو يذكر فيه امتناعه عن التوقيع.
إضافة تعليق جديد