أثارت الجريمة المرتكبة ضد فاطمة أبو عكليك في الأردن والتي اقتلع زوجها عينيها أمام أولادها في نوفمبر الماضي الكثير من الغضب والقهر والمطالبات بإنصاف الضحية وإنزال أقصى العقوبات بالجاني، كما أعادت فتح ملف العنف ضد المرأة والذي كانت قصة فاطمة إنذارًا خطيرًا لا يمكن تجاهله حول الحدود التي قد يصل إليها العنف مع توفر ظروفه والبيئة الحاضنة له، لا سيما مع استمرار سياسة الإنكار والتعامل مع جرائم العنف ضد النساء كحالات فردية.
في الثامن من نوفمبر الماضي اهتز الشارع الأردني لخبر جريمة من أبشع الجرائم التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية، بل إن بشاعة الفعل وتفرّده جعل البعض يظنونها - أو يرجون أن تكون- قصة مختلقة كعديد من القصص التي تنتشر عبر المواقع الإلكترونية "الإخبارية"، إلا أنّ ما حدث لفاطمة أبو عكليك كان حقيقة فرضت نفسها بكل ما فيها من تفاصيل مروعة، إذ أقدم زوجها على اقتلاع عينيها على مرأى من أطفالها الثلاثة، بعد تهديدها بالقتل وبقتل أطفالها أمامها.
أثارت الجريمة - والتي أصبحت تُعرف بجريمة جرش- الكثير من الغضب والقهر والمطالبات بإنصاف الضحية وإنزال أقصى العقوبات بالجاني، كما أعادت فتح ملف العنف ضد المرأة والذي كانت قصة فاطمة إنذارًا خطيرًا لا يمكن تجاهله حول الحدود التي قد يصل إليها العنف مع توفر ظروفه والبيئة الحاضنة له، لا سيما مع استمرار سياسة الإنكار والتعامل مع جرائم العنف ضد النساء كحالات فردية.
بعد انتشار قصة فاطمة بتفاصيلها الموجعة، دعت جمعية النساء العربيات الأردنية بالتنسيق مع اللجنة الوطنية لشؤون المرأة إلى وقفة احتجاجية أمام رئاسة الوزراء لمواجهة المنظومة المؤسسية والفكرية التي تعيد إنتاج العنف ضد المرأة، ومطالبة صناع القرار بوضع سياسات وتعديل القوانين بما يكفل حماية المرأة من العنف والحد من أسبابه وتغليظ العقوبات على مرتكبيه، وكان الترويج للوقفة تحت شعار “طالعات الأردن”، كإشارة إلى حراك “طالعات فلسطين” الذي وُلد في نوفمبر 2018 إثر جريمة قتل في الداخل الفلسطيني كانت ضحيتها الشابة يارا أيوب، وامتد ليصبح حركة مناهضة للعنف ضد المرأة في فلسطين كلها، واليوم يتسع مدّه مع جريمة جرش منتقلًا إلى الأردن بأصوات نساء يعرفن أن العنف ضد المرأة في مكان ما هو عنف ضد المرأة في كل مكان. تزامن ذلك مع حملة إلكترونية أطلقت وسم #طفح_الكيل على مواقع التواصل الاجتماعي، مستعيرة نفس الكلمات التي قالتها فاطمة لزوجها في آخر محاولة لها للانفصال عنه، قبل أن يرتكب جريمته.
لكن ما أن بدأت صور الوقفة الاحتجاجية تصل إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حتى تحوّل الحوار من نقد العنف ضد المرأة إلى نقد نقد العنف ضد المرأة، أو بالأحرى نقد ناقدات العنف. وقد تكون كلمة "نقد" لفظًا تلطيفيًا هنا، إذ أن كثيرًا من ردود الأفعال والتعليقات التي بدأت تنهال معرضة بالوقفة والمشاركات فيها تعدّت النقد إلى الهجوم والتشكيك في المقاصد.
وإن كانت قضية فاطمة هي القشة التي قصمت ظهر البعير وحركت الرأي العام إلا أن هناك تاريخًا من العنف ضد المرأة المرتبط بأسباب تتعلق بالشرف وغيره
الانتقاد الأبرز والذي أثار حفيظة الكثيرين كان اعتراضهم على رفع شعارات تتحدث عن الشرف خلال الاعتصام، بحجة أن ذلك يحيد عن الهدف الذي خرجت من أجله المظاهرة وهو مناهضة العنف ضد النساء، ولم يشفع للمعتصمات والمعتصمين تبيان أن إحدى الصور التي انتشرت، والتي ترفع شعارًا ضد ربط الشرف بغشاء البكارة، لم تكن من الوقفة الاحتجاجية في عمان أصلًا بل من مظاهرة سابقة في فلسطين لحركة "طالعات" ضد الجريمة التي راحت ضحيتها إسراء غريب. وإن كانت تلك اللافتة بعينها مأخوذة من مظاهرة سابقة، إلا أنّ الناشطات والناشطين تمسكوا بحقهم في رفع شعارات مشابهة ظهرت فعلًا خلال الاعتصام، موضحين أن أسباب العنف متعددة، وإن كانت قضية فاطمة هي القشة التي قصمت ظهر البعير وحركت الرأي العام إلا أن هناك تاريخًا من العنف ضد المرأة المرتبط بأسباب تتعلق بالشرف وغيره، وعشرات من ضحايا جرائم الشرف والمئات من المعنفات باسمه، اللاتي علينا ألا ننساهنّ أو نخجل من الهتاف من أجلهنّ. ولعل ما قالته إحدى الناشطات يلخص الأمر، إذ كتبت ردًا على ذلك بما معناه: لننتظر حتى يتم اقتلاع عينّي سيدة أخرى بداعي الشرف، ثم نخرج حاملين شعارات ضد العنف باسم الشرف.
التركيز على محتوى لافتتين أو ثلاث وإحداث جلبة حول ذلك كان مؤشرًا على المشكلة العامة الأساسية، وهي مشكلة العداء للنسوية في المجتمع الأردني والنظر إليها كحركة هدامة تهدف إلى تفكيك العائلة وتقويض القيم المجتمعية، هذا العداء النابع من الصور النمطية عن النسوية التي يروّج لها البعض، كاختزالها في معارك سطحية نخبوية لا تعنى بمشاكل المرأة الحقيقية، أو اعتبارها حركة ليبرالية المنشأ ذات أهداف إمبريالية، أو تصويرها كتمرد على القيم الدينية والأعراف الاجتماعية يهدد بالانحلال الأخلاقي. ردود الفعل السريعة والتي أشاحت بنظرها عن الهدف الحقيقي والمهم للاحتجاج بدت أقرب إلى التصيّد من قِبل أشخاص كانت لديهم مواقف ضد الوقفة الاحتجاجية من قبل أن تبدأ، أو مواقف من الناشطات المشاركات فيها، مما حوّل المعركة من مناهضة العنف ضد المرأة إلى معركة ضد مناهضات هذا العنف.
بل ووصل الأمر إلى حد إنكار العنف نفسه أو التهوين من أمره كظاهرة مجتمعية، الأمر الذي تجلى في ردود أفعال بعض الشخصيات المعروفة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن ذلك قيام النائبة في البرلمان الأردني ديمة طهبوب بالإشارة ضمنيًا إلى أن ما يجري هو تهويل لوضع العنف ضد المرأة في الأردن، حيث شككت في أنه يرتقي إلى كونه "ظاهرة"، الأمر الذي يمكن تفنيده بسهولة من خلال تصريح مدير إدارة حماية الأسرة الذي ذكر فيه أنهم تعاملوا مع 10,527 حالات عنف ضد المرأة و/أو الأطفال خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2019، أي بمعدل خمسين حالة يوميًا.
النائبة نفسها نشرت صورة من اعتصام "طالعات" لفتاة تحمل لافتة تقول: "بخافوا من عيوننا" معترضة على الصورة كنوع من "امتهان المرأة بتقديمها كوجه جميل"، وهو اعتراض يناقض نفسه إذ لا يرى من المرأة في الصورة سوى وجهها الجميل، بعيدًا عن الموقف الذي تعبر عنه. وحين تم لفت نظرها إلى أن جمال المرأة لا يجب أن يكون مانعًا من مشاركتها في الاحتجاجات والنشاط العام، وضحت أن اعتراضها كان على محتوى اللافتة لكونه - في رأيها- بلا هدف وذو دلالات سطحية، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على النظرة القاصرة للشعار نفسه، إذ أنّ سعادة النائبة - أو من دافعوا عن موقفها- حصروا عيون المرأة في وظيفتها الجمالية، كأنها العيون التي تتكحل فقط، لا العيون التي ترى الظلم وتشهد عليه، ولا العيون التي راحت ضحية لمنظومة ترسخ استضعاف المرأة والتمييز ضدها منذ عقود، وهو ما كان ينبغي أن يُفهم ضمنيًا في ظل الحدث الأبرز الذي دفع لمظاهرة كان كل من فيها يهتف "لعيونك يا فاطمة".
مشكلة الكثير من المعترضين لم تكن مع الوقفة أو مع الهتافات، بل مع النسويات أنفسهنّ
ردود الأفعال هذه وغيرها كانت مؤشرًا واضحًا على أنّ مشكلة الكثير من المعترضين لم تكن مع الوقفة أو مع الهتافات، بل مع النسويات أنفسهنّ، بل إنّ البعض هاجموهنّ صراحة بالتلميح إلى كونهنّ سيدات مرفّهات منفصلات عن الواقع، وهو موقف تردد من قبل في مناسبات أخرى، حيث تجد من يعترض على "سيدات المجتمع المخملي" المدافعات عن حقوق المرأة، لتجد النسوية في حيرة من أمرها، هل تبقى متنعمة في فقاعتها وتترك العمل على القضايا العامة وتستسلم لانتقادات الأشخاص أنفسهم بكونها لا تشارك الناس همومهم ولا تخدم مجتمعها، أم تواصل العمل وتتلقى نفس الاتهامات بالانفصال عن الواقع لمجرد كونها وُلدت - دون حول منها ولا قوة- ضمن طبقة اجتماعية أوفر حظًا؟ مع العلم أن هؤلاء النسويات المشار إليهنّ يعملن على تغيير سياسات تمس جميع فئات المجتمع، والبعض لا يرى منهنّ إلا سياراتهنّ الفارهة، إن وُجدت! وهذا وجه آخر لتنميط النسوية إذ ينظر إليها كمنتج ليبرالي برجوازي مختص بطبقة معينة، علمًا أنّ المشاركات كنّ ينتمين إلى مختلف الطبقات الاجتماعية، ومن بينهنّ كثيرات ممن يعملن في الصحافة والقانون وغيرها من مجالات العمل العام، واهتمامهنّ بقضية العنف ضد المرأة لا ينفصل عن اهتمامهنّ بغيره من القضايا الحقوقية.
لعل أكثر جزئية مزعجة أن هذا الكلام صدر عن ناشطين تجد أسماءهم حاضرة في كل تحرك يطالب بإحقاق حق أو رفع ظلم، بل وقد يهرعون إلى الشارع للتظاهر دعمًا لنضال رفاقهم في فنزويلا أو الأوروغواي، لكن حين يتعلق الأمر بمظاهرة ذات طابع نسوي تجدهم يحفظون مسافة أمان بينهم وبين الشارع ويصرحون بضرورة "تغيير المدافعات عن القضية". وتلك مشكلة بحد ذاتها، أعني اعتبار العنف ضد المرأة قضية تخص النساء فقط بدل أن تكون قضية تهدد المجتمع بأكمله.
وكما هو الحال في جرائم العنف ضد المرأة عامة، لم تسلم فاطمة من اللوم وتحميلها المسؤولية عما حدث لها، في سياق محاولات القنوات الرسمية تصوير الجريمة كحادثة فردية من أجل "حماية صورة الأردن من التشويه في الخارج"، إذ أطلّت علينا نائبة رئيس تحرير صحيفة الدستور نيفين عبد الهادي، وعبرت بسخرية جارحة عن استيائها من قيام "فاطمة" بالتحدث عن قصتها في وسائل إعلام محلية وعربية، معبرة بشكل صريح أن فاطمة، الضحية، هي من جلبت ذلك لنفسها لأنها لم تكن "قوية". المفارقة أن هذه السيدة نفسها، التي لم تتوانَ عن لوم الضحية بنبرة استعلائية متجاهلة ظرفها الاجتماعي والاقتصادي، عادت لتطل علينا من شاشة أخرى منتقدة المشاركات في حراك "طالعات" بأنهنّ لا يشبهن المرأة الأردنية، وكأنّ للمرأة الأردنية شكلًا معياريًا معينًا، ثم حاولت إيجاد منفذ آخر للاعتراض على الاعتصام مشيرة إلى وجود عنف ضد الرجال، في ما لا يمكن وصفه سوى بأنه محاولة بائسة للانحراف عن الموضوع، متجاهلة حقيقة وجود مشكلة عنف يومية وكبيرة ضد النساء. كل تلك الاعتراضات غير المترابطة كانت أشبه بمحاولات مستميتة لإيجاد ثغرة للطعن في الاعتصام والتشكيك في جدواه.
قد تكون موجة الانتقاد اللاذع والهجوم على النسويات والنشاط النسوي وتصغير شأن العنف ضد النساء واختزاله في "حالات فردية" خلقت جوًا من الإحباط والإدراك أنّ الرحلة ما زالت طويلة أمام القضاء على العنف والتمييز ضد المرأة، لكنها في الوقت ذاته فتحت باب الحوار على مصراعيه وطرحت قضية العنف ضد النساء بشكل أكبر من أي وقت مضى، ففي ضوء المعارك الجانبية التي نشأت بعد خروج الأصوات المناهضة للعنف، أصبح واضحًا أن محاربة العنف ضد المرأة لا يمكن أن يتم بمعزل عن إصلاح اجتماعي يحارب الصور النمطية عن المرأة والنسوية في المجتمع، ويوضح الملابسات حولها بحيث لا تعود تُرى كتهديد للمجتمع وقيمه، وتخلق بيئة لا تتم فيها محاكمة الضحايا واستلاب حقهنّ في الكلام بهدف الحفاظ على صورة المجتمع، ولا محاكمة المدافعات عن القضية بناءً على وضعهنّ الاجتماعي أو شكلهنّ الخارجي. وإن كانت هذه السجالات تبدو مضيعة للوقت وانحرافًا عن القضية الرئيسية والملحة، إلا أنها تؤكد أهمية العمل النسوي، وتشكل دافعًا إضافيًا للاستمرار لكل مؤمنة بمبادئ النسوية التي يتجاوز أثرها تحقيق العدالة للنساء إلى تكوين مجتمع عادل وآمن للجميع.
إضافة تعليق جديد