لم تكن صائفة 2019 عادية بالنسبة إلى أختي ذات الـ16 ربيعًا، فبعد طول انتظار استطاعت شراء درّاجة هوائية. كانت الفرحة تغمرها، ولا تكاد تستفيق من أحلام اليقظة التي ترى فيها نفسها تتجول بدرّاجتها الجديدة في شوارع مدينتنا الصغيرة، وربما في شوارع مُدن مجاورة في المستقبل. غير أن فرحتها لم تكتمل، وصار حلم الدرّاجة الذي انتظرته سنوات طويلة كابوسًا مزعجًا، فقد عارضت أُمي بشدّة هذه الفكرة وطالبتنا ببيعها. صدمني موقف أمي كثيرًا، خاصةً عندما قالت: "اشتروا لها قطعة ذهب عِوض الدرّاجة". كانت هذه الحجة تخفي وراءها حججًا أخرى غير معلنة، حججًا تحمل بين طيّاتها ذكورية مُتوارثة لم تستطع أمي وأمهات كثيرات تجاوزها، حيث يُساهمن بشكل أو بآخر في إعادة إنتاج ميكانيزماتها.
غشاء البكارة، الحاضر دائمًا
ما حدث مع أختي جعلني أبحث عن شهادات فتيات ونساء واجهن نفس التجربة والتشبيك بينها. كانت الانطلاقة بإعادة طرح السؤال على أمي والوقوف على أسباب رفضها لفكرة أن تقود أختي الدراجة، خاصة أنني وأخي نملك درّاجة نتنقل بها دائمًا وهي من اشترتها لنا. تعللت أمي بأن قيادة الفتيات للدرّاجة الهوائية دائمًا ما تُواجه بنظرة دونية من قبل المجتمع وأنه علينا الالتزام بالقواعد المُجتمعية التي تنظّم عيشنا في الفضاء المشترك خاصة وأننا لا نملك القدرة على تغيير تلك القواعد ومن غير المُجدي المحاولة أصلاً. وعليه كان من الأفضل أن نشتري لأختي قطعة من الذهب تتزيّن بها وتبيعها عند الحاجة عوض قطعة من الحديد قد تجلب لها وللعائلة التعاليق وربما العار.
اكتفت أمي بهذا القدر من الحجج، لكن أم منال (29 سنة) وضعت الإصبع على مكمن الداء بقولها: "كانت أمي تقول دائمًا ليس جيدًا أن تقودي الدراجة وأنت صبية. وتكتفي بهذا القدر، لكني فهمت بعد ذلك أن هناك تصورًا شائعًا في المجتمع يُفيد بأن قيادة الدراجة تؤدي إلى فضّ غشاء البكارة، وأنها تسبب آلامًا في الجهاز التناسلي ويمكن أن تسبب العقم". هكذا فسرت لنا منال موقف أمها، قبل أن تضيف: "أسطورة فض الدرّاجة لغشاء البكارة مضحكة. صحيح أنها تسبب بعض الآلام في الجهاز التناسلي، لكنها آلام عادية، وليس كل ما يسبب لنا آلامًا نهجره. فنحن نواجه كلّ شهر آلام الدورة، وهي أقوى بكثير من آلام الدراجة، ومع ذلك نستحملها، فما بالك ببعض الألم البسيط في سبيل ممارسة رياضة تحبها".
ما تزال أسطورة فقدان الفتيات لغشاء البكارة بسبب ركوب الدرّاجة حاضرة بقوة في المخيال الشعبي إلى درجة أن أهالي إحدى المدن الساحلية التونسية الصغيرة يمتنعون عن مصاهرة أهالي مدينة أخرى مجاورة لها لأن نساءها معروفات بقيادة الدرّاجات النارية والهوائية. لذلك تحاول الأمهات منع بناتهن من ممارسة هذه الرياضة، أو الهواية إن صح التعبير.
المنع يتجاوز ركوب الدراجة
"أمي مارست عليّ وأخواتي البنات الذكورية في كل شيء خاصة في طريقة اللباس حيث كانت تفرض علينا لباسًا يغطي كامل أجسامنا، خاصة الأرداف والنهدين والمؤخرة". بهذه الكلمات استهلّت فاتن (24 سنة) أستاذة لغة إنجليزية، حديثها معي قبل أن تضيف: "كانت دائمًا تتهمني بتسويق جسدي للناس بطريقة لباسي التي تعتبرها خليعة وعندما أرفض تعليماتها وأوامرها تمنعني من الخروج للدراسة والعمل وأحيانًا تضربني".
أما بالنسبة إلى هالة (23 سنة)، فمشاكلها مع أمها كانت مختلفة، لكنها لم تخرج من دائرة المنع والذكورية، حيث صرّحت لنا قائلة: "أمي كانت تعتبر نفسها مناضلة نسوية، وبالنسبة لها فإنّ قضية اللباس هي قضية شخصية ولا علاقة لها بالشرف والعار"، مضيفة: "لكن نسوية أمي هي نسوية بورقيبيّة (نسبة إلى الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية والذي كانت قضية تحرير المرأة قضية أساسية في سياساته) تنتهي في حدود بعض الحريات الشكلية ولا تمس الجوهر، بمعنى أنه لا يمكننا تغيير عقلية المجتمع برمّته وزعزعة ثوابته. أعتبر أن مشكلتي الحقيقيّة مع أمي هي رفضها أن أستقل عنها وأن أتحكم في مواعيد خروجي ودخولي إلى البيت وخاصة أن يكون لي شقتي الخاصة بعيدًا عن منزل العائلة".
رغم نسوية أم هالة المعلنة وانتمائها إلى التيار الحداثي البورقيبي إلا أنّها لم تقطع مع الممارسات الذكورية المتوارثة والتي تُكبّل المرأة وتمنعها من تحقيق استقلاليتها. ويشبه ذلك في جانب كبير منه النسوية التي تبنّتها الدولة بعد الاستقلال، أو ما يُعرف بـ"النسوية الرسمية" والتي تتعامل مع المرأة كديكور لتلميع صورة النظام القائم دون تحقيق المساواة التامة والفعلية بين الجنسين.
تجاوزت الذكورية التي تُمارسها بعض الأمهات على بناتهن مجرّد منعهن من ركوب الدرّاجة أو التحكم في طريقتهن في اللباس وفي مواعيدهن إلى التدخل في اختيار شريك الحياة أو اختيار اختصاص دراسي بعينه ورفض آخر باعتباره يناسب الذكور أكثر من الإناث، والمنع من السفر لبلد آخر بغية العمل أو الدراسة. هذه الممارسات القمعية التي تختزل المرأة في غشاء البكارة وتُوكل لها مهمة الحفاظ على شرف العائلة ستولّد بالضرورة جروحًا يصعب أن تندمل وشعورًا دائمًا بالاغتراب.
الأم؛ الفاعل النشيط للذكورية
يُحدّد المجتمع أدوار الأفراد حسب معايير مختلفة ومتباينة لعلّ أهمها معيار النوع الاجتماعي، فأُوكلت للمرأة مهمة تربية الأطفال وأُوكلت للرجل مهمة إعالة العائلة. ورغم التغيرات المجتمعية التي حصلت مع خروج المرأة للعمل، فإنها ما تزال مطالبة بالحفاظ على دورها التقليدي وهو تربية الأطفال، وخاصّة تنشئة البنات بما يتفق مع المجتمع. فالمجتمع يرى أن تربية البنت "صعبة" وتتطلب مهارات خاصة باعتبارها تحمل شرف العائلة وعليها صيانته حتى تصل إلى بيت زوجها. تلعب الأم هنا دور الحارس الأمين لشرف البنت/العائلة فتفرض عليها نمط عيش معين. ولعلّ منع ركوب الدرّاجة وغيره من الأفعال والنشاطات، التي تُعتبر حكرًا على الذكور، يأتي في هذا الإطار. يُعطي المجتمع السلطة الكاملة للأم لتحديد ما يجب أن تقوم به البنت وما يجب أن تتفاداه أو تُمنع صراحة من ممارسته. تستبطن العديد من الأمّهات المنظومة القيمية للذكورية وتُعيد إنتاجها وتُعتبر من أبرز فاعليها.
أعتقد أن التفويض المجتمعي الذي يُسند إلى الأم لتربية الأبناء عمومًا والبنات خصوصًا، يمكّنها من سلطة تستطيع بها رد شيء مما مُورس عليها والانتقام غير المعلن واللاواعي من مجتمع فوّض إلى أمها سابقًا حرمانها من أن تعيش كما تريد وأورثها تلك النظرة الذكورية القاصرة.
صحيح أنّ هناك العديد من النساء الذكوريات اللاتي يُطبّعن مع القمع الأبوي ويناصرنه، لكن في المقابل هناك نساء وفتيات يقاومن منظومات القهر ويرفضن الانصياع لها. فبرغبة شديدة في الانعتاق والتغيير احتفظت أختي بدرّاجتها، ولم تستبدلها بقطعة الذهب كما طلبت أمي وكذلك فعلت منال. واستطاعت هالة الاستقلال عن العائلة. وتحلّت فاتن بما تريد. لقد استطعن فرض أمر واقع جديد ونجحن في تحدّي ذكورية راسخة في العادات والتقاليد، في تحدّي بُنى تتحكم بمجتمعاتنا وتستبطنها بعض نسائنا وتمارسها أمهاتنا.
التعليقات
هوايتي ركوب الدراجات و لكن الله يسامح امي و ابوي الي ما يسمحون لي ان يكون لي دراجه يعني صحيح ان كان عندي دراجه بس كنت اخفيها بسيارتي ولكن بسبب خوفي منهم تخلصت من الدراجه تبا لهم و شكرا
إضافة تعليق جديد