"كأنّي جِبت الخوف معايا في شنطة السفر": اغتراب النساء في المدن الرأسمالية

"حتى شوارع بلدكم طلعِت قاسية".. يتردَّد صدى كلمات أحلام - سيّدة استمدّيتُ من حديثها فكرة مقالي - في عقلي بينما أختلس نظرة عابرة من نافذة السيّارة تجاه طريق الكورنيش ونتوءاته اللامتناهية عقب عودتي من لقائها، ليعاجلني سؤال عن حجم اغتراب النساء المكاني، ومدى تأثيره على كيفية عيشهنّ وعملهنّ وتنقلهنّ في المدينة، كتجربةٍ حياتية يومية تتأرجح بين قسوة الحركة السريعة وجنون الآمال العالقة في الزحام داخل المدن الرأسمالية ومجالاتها العامة الاقتصادية والسياسية والثقافية، في ظلّ غياب مفهوم التمدّن النسوي (Feminist Urbanism) عن التخطيط العمراني المُحدِّد لشكل الفضاءات العامّة المحيطة بهنّ. فهذا المفهوم يهتمّ بتحدّي الحيادية المزعومة لهذا التخطيط العمراني، وكشْف التحيّز المُتجذّر فيه، عبر ملاحظة تجارب النساء في الحياة اليومية، وجعلها قابلةً للقياس من منظور دراسات العمران، فالمدن ليسَت أبنية فارهة وطرقات صامتة، وإنّما شاهدة على حكايات أهلها، كما أقرّ شكسبير حين قال: "وهل المدينة إلا الشعب؟"1

اغتراب النساء المكاني داخل المدن

أحلام2 سيّدة مصرية في أواسط الثلاثينات من العمر، من بين ملايين النساء اللواتي يحكم مصيرَهنّ النظامُ الرأسمالي الأبوي. تعود أصولها إلى أحد قرى الظهير الزراعي في دلتا مصر، ونزحَت إلى المدينة منذ عدة سنواتٍ سعيًا وراء أحلامها، محمّلةً بشعارات الشغف وحتمية الوصول؛ لذا استخدمَت كلمة (بلدكم) في حديثها، كتعبيرٍ لا إرادي منها عن شعورها بالاغتراب داخل مدنٍ خذلَتها مرّةً تلو أخرى. تبدأ أحلام كلامها قائلة: "طول عمري بخاف من المشي في الشوارع. كانت زقايق البلد ضلمة ومتكَّسرة ومتربة، مع أول شتواية بتبقى مزفلطة؛ أصلها مش مرصوفة. لكن ما باليد حيلة". 

أتمّت أحلام تعليمها الأساسي في بيتٍ تصميمه أبعد ما يكون عمّا يسمّيه الفيلسوف ألان دو بوتون (Alain de Botton) بـ"عمارة السعادة" (The Architecture of Happiness)، تقع جدرانه البالية داخل قرية فقيرة لم تنل حظّها من خطط التطوير العمراني، فلا يربطها بالحياة سوى طريق رئيس واحد، لا يقل حاله بؤسًا عن أزقّتها الضيّقة، وتفتقر إلى مواصلات عامّة آمنة، عدا أتوبيس يُستخدم في نقل الطلاب مرّتين يوميًا، فيما يستخدم الأهالي التوكتوك. لم تكن أسرتها تسمح لها بالخروج خوفًا من تعرّضها للمخاطر. عاشت أحلام حبيسةً داخل حدود قريتها، ومع التحاقها بالجامعة في القاهرة، ظنّت أن طريقها مُهِّدَ أخيرًا للانطلاق، حيث تُعَدّ المدن الكبرى ملاذًا لأبناء القرى المهمّشين الحالمين بغدٍ أفضل. إلا أنها فوجِأت بالعكس.

تصميم المدن لاستيعاب السيّارات بمعدّلاتٍ أكبر من السكان وكثرة الطرق السريعة فيها عمّق من تبعية النساء للسيّارة

بصوتٍ يملؤه الحزن قالت أحلام: "فرحتي بأوّل يوم جامعة انتهتْ لما شُفت شوارع مصر،3 مباني كبيرة وميادين واسعة وشوارع زحمة وعربيات سريعة بتجري في كل مكان وإشارات المرور بعيدة، وأرصفة عالية، فرش القهاوي والمحلات واخد كل مساحتها؛ بقيت كل ما آجي أعدّي الشارع معرفش وارجع كام خطوة، وقتها حسّيت كأني جبت الخوف معايا في شنطة السفر". 

تتابع أحلام حكايتها: "اتجوّزْت في سنة تانية جامعة، وانتقلت إسكندرية المرّة دي، سكنت في مستعمرة العامرية،4 ورجعت تاني للزقايق المتكَّسرة، لأنها منطقة  بعيدة عن العمار، وبعد المغرب محدّش يقدر ينزل من بيته. حركتي بقت أصعب بعد الحمل والولادة، وأماكن استضافة الرضّع بعيدة وغالية، ومكنتش بعرف أتحرّك بابني وسط الشارع، فمعرفتش أكمل دراسة أو أشتغل من غير شهادة. بقيت زيّ الغمّاس الشبعان،5 عايزة أرمي نفسي بين الناس وأدوب وسطهم بس مش عارفة، فبقيت عاملة زي محمد منير لما قال "وغربتي صاحبتي بتحوم حواليّا".6

لا تقف أحلام وحيدةً هنا، فالمُدن لا تجامل عشّاقها ولا تلتفت لأحلامهم الوردية؛ عبّر الروائي المصري طارق إمام عن حالة أحلام وأخواتها وأخرياتٍ مثلها في أحداث روايته "ماكيت القاهرة"، التي وصلَت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في عام 2022، بعد أن اتخذَت التخطيط العمراني للمدينة وعلاقته بأحوال سكّانها موضوعًا لها. يصف إمام أحد أبطال قصّته النازح من القرية إلى القاهرة بأنه عاش متنقلًا بين مدينتَين بنفسية العالق فوق سقالة البناء: "دون أن يستطيع التطلّع في عين الشمس أو النظر صوب الأرض، لأن النتيجة الوحيدة في كلتا الحالتين كانت السقوط"،7 في إشارةٍ إلى حالة الاغتراب المكاني المصاحبة للشخص جرّاء ما يلقاه من معاناة نفسية داخل المدن التي كابد فيها الشقاء على نحوٍ منعه من الانخراط فيها. بيْد أنّ تلك الحالة تتجلّى بصورةٍ أوضح لدى النساء وتتمثّل في شعورهنّ بالعزلة، وكأنهنّ محجوبات غير مرئيّات، أصواتهنّ لا تُسمع ورغباتهنّ في العيش بسلاسةٍ لا تُحترم، مثلما قال نجيب محفوظ في رائعته "أولاد حارتنا": "إنّ الوَقْف للجميع، والنساء نصف كيان حارتنا، ومن عجب أنّ حارتنا لا تحترم النساء، ولكنها ستحترمهنّ يوم تحترم معاني العدالة والرحمة".8

مدنٌ رأسماليةٌ غير صديقةٍ للنساء

اتجهتُ بالسؤال إلى المعمارية آية منير، مؤسّسة مبادرة "SuperWomen" المعنية بأوضاع المرأة داخل المجتمع المصري، والتي شرحَت في سياق حديثها إليّ أنَّ تصميم المدن لاستيعاب السيّارات بمعدّلاتٍ أكبر من السكان وكثرة الطرق السريعة فيها عمّق من تبعية النساء للسيّارة، متبنّيةً نتائج دراسة سابقة نشرَتها جامعة بنسلفانيا عن أثر السيّارات على تبعية النساء داخل المدن الرأسمالية،9 إلى جانب آراء جيه إتش كراوفورد، الذي ألّف كتابَين عن المدن من دون سيّارات، أكّد فيهما أنّ أكبر ضررٍ سبّبَته السيّارات للمجتمع، بخلاف تلوّث البيئة وحوادث الطرق، يتمثّل في إفساد الفضاءات العامّة والحدّ من التفاعل الاجتماعي بين السكان. وقالت منير:

"إذا كانت حياة الرجل المُتمتع بامتيازات حرّية الحركة والتنقّل وقتما وكيفما شاء غير سهلةٍ داخل المدينة من دون امتلاك سيّارة، فمثلًا يستلزم الذهاب إلى السوبرماركت المشي لمسافاتٍ طويلةٍ وقطع طرقٍ سريعةٍ خطرة، ناهيك عن تحمّل العبء المادي للمواصلات العامة المتدهورة، فما بالنا بحال النساء الفقيرات ممّن لا يمتلكنّ رفاهية امتلاك سيّارة، والمحرومات من المشي بحرّيةٍ وأمانٍ في طرقٍ ممهّدةٍ ومضاءةٍ بلا تحرّش؟ هذا يفاقم شعورهنّ بالخوف في أثناء التنقّل أو استخدام المواصلات العامة بمفردهنّ في مناطق معزولة أو في أوقات متأخّرة، نتيجة تجاهل التخطيط العمراني للمدينة متطلّبات التنقّل الآمن للنساء وحقيقة ارتفاع معدّلات التحرّش من دون وجود آليّاتٍ للتصدّي، مثل: وجود أكشاك الحماية الأمنية، وكاميرات المراقبة، والإضاءة الكافية داخل محطّات النقل العام التي تفتقر إلى مظلّاتٍ تقي حرارة الصيف وأمطار الشتاء".

الجندر ما زال محورًا مهملًا في ممارسات التخطيط العمراني

ولفتَت منير النظر إلى العلاقة الوطيدة بين التخطيط العمراني للمدن المصرية والتمكين الاقتصادي للمرأة، بما لا يحقّق المساواة بين الجنسَين وعدالة الوصول إلى الموارد الاقتصادية في ظل التقلّبات العمرانية الحادّة التي نعيشها في الوقت الراهن. وتشرح: "يمثّل عدم القدرة على الوصول الآمن والسهل إلى أماكن العمل البعيدة عن أماكن إقامة النساء أحد أهم الأسباب الرئيسة لانخفاض مشاركة النساء في سوق العمل، نظرًا لصعوبة التنقّل والذهاب لتأدية مهام العمل، أو التسوّق أو اصطحاب أطفالهنّ من وإلى المدرسة في مناطق بعيدةٍ عن مقرّات عملهنّ، فلا يستطعن التوفيق بين احتياجات الحياة الأسرية ومتطلّبات عملهنّ أو حتى الحصول على سكنٍ بسعرٍ مناسبٍ بالقرب منها، وبالتالي يعزفن عن التقدّم للوظائف المختلفة، كما يختار أصحاب العمل عدم توظيفهنّ للأسباب نفسها. نتيجةً لما سبق، أصبح لدينا في مصر وضعٌ مركّب؛ مدنٌ غير صديقةٍ للنساء وشوارع ووسائل نقلٍ غير آمنةٍ وفرص عملٍ محدودة، لاسيّما أن المناطق التجارية الواقعة في قلب المدينة تنفصل عن المناطق السكنية الواقعة على أطرافها بطريقةٍ تزيد من الفجوة العمرانية بين الفقراء والأثرياء".

في الواقع، تمثّل العقارات التجارية غير السكنية 61% من القيمة السوقية لقطاع العقارات في مصر، وفق تقرير مؤسّسة MarketLine للأبحاث الاقتصادية، الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 2019، وقد ارتفعَت أسعار السكن في ظلّ تسارع معدّلات التضخّم بدرجةٍ غير مسبوقةٍ بالتوازي مع ندرة الشقق السكنية الشاغرة.

تمثيل النساء في اقتصاد المدينة الرأسمالية 

في السياق نفسه، حاججَت الباحثة المعمارية ريم شريف، ضمن سلسلة مقالاتٍ نشرَتها في مرصد العمران، أحد مشاريع مؤسّسة "عشرة طوبة" المُهتمة بقضايا العمران والتمدّن، تحت عنوان: "أحوال السكن في مصر 2022"، بأنَّ الجندر ما زال محورًا مهملًا في ممارسات التخطيط العمراني، وكتبَت: "المدينة لا تعطي النساء أيّ نوعٍ من الإشباع في غمس أنفسهنّ في زحام الشوارع والمواصلات العامّة. على العكس، الفكرة نفسها تثير مشاعر الخوف من الانتهاك، وتذّكر بصدمات التجارب السابقة من التعرّض للعنف في المساحات العامّة"، بما أثّر على التمثيل النسبي للمرأة في اقتصاد المدينة على نحوٍ حوّل حالة اغتراب النساء المكاني إلى تهميشٍ اقتصادي.

تهدف العمارة إلى تحقيق رفاه الإنسان أيًا كانت هويته/ا أو نوعه/ا أو ظروفه/ا الصحّية والاجتماعية، وإن كانت المرأة أكثر خصوصيةً في معايير التخطيط العمراني للمدن

حلّت مصر في المركز 134 من بين 146 دولة شملَها تقرير "الفجوة بين الجنسَين لعام 2023"، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فيما أشارَت دراسة سابقة نُشرت في عام 2020، بعنوان: "معوّقات العمل التي تواجه النساء في مصر"، إلى أنّ صعوبات التنقّل تعرقل مشاركة النساء في سوق العمل، بينما أكّدَت دراساتُ البنك الدولي أنه إذا تطابَق معدّل مشاركة النساء في سوق العمل مع معدّل مشاركة الرجال، فإن إجمالي الناتج المحلي سيزيد بنسبة 34%. 

عمليًا، لا يجني المجتمع ثمار استثماراته في رأس المال البشري، ولعلّ هذا أحد الأسباب التي تجعل المدن المصرية - على الرغم من بلوغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلّي حوالي 3.698 دولارًا أميركيًا في خلال عام 2021 بحسب البنك الدولي - تتراجع على مؤشرات جودة المعيشة العالمية، إذ احتلّت القاهرة المرتبة 226 في تصنيف شركة Mercer لجودة المعيشة في خلال العام الحالي (أي 2023).10 

بالنسبة إلى المعمارية نيرمين بليغ، مؤسِّسة مكتب Archimaker، أوّل مكتبٍ هندسي افتراضي في الشرق الأوسط، تهدف العمارة إلى تحقيق رفاه الإنسان أيًا كانت هويته/ا أو نوعه/ا أو ظروفه/ا الصحّية والاجتماعية، وإن كانت المرأة أكثر خصوصيةً في معايير التخطيط العمراني للمدن. وتقول بليغ إنّ "تسهيل التواصل الإنساني داخل المجتمع يُعَدّ الغاية السامية لفنّ العمارة، وهذا ما يفتقده تخطيط المدن المصرية بشكله الحالي؛ لكن من الملاحظ في الآونة الأخيرة، أنّ تصميم المدن المصرية الجديدة قد بدأ يتماشى، بقدرٍ بسيطٍ جدًا، كبداية، مع المعايير المعمارية المتفق عليها عالميًا بشأن تسهيل تدفّق الحركة، وتخصيص مساحاتٍ أوسع للسير بأمان، وتوفير أرصفةٍ بارتفاعاتٍ مناسبةٍ تتضمّن منحدراتٍ لصعود وهبوط عربات الأطفال والكراسي المتحرّكة، مع تنفيذ مراكز تسوّق تتضمّن أماكن مُخصّصةً للأمّهات المُرضعات، بما يحقّق رفاه كافة أفراد المجتمع".

لماذا تعادي المدنُ الرأسمالية النساءَ؟

تُعَدَّ المدن في كافة أنحاء العالم الأكثر جاذبية للشباب نظرًا لدورها المتوقّع في إثراء قدراتهم على مواجهة المستقبل؛ حيث يعيش 55% من سكّان العالم فيها. ومن المتوقّع أن ترتفع النسبة إلى 68% بحلول عام 2050، وفقًا لتقديرات الأمم المتّحدة، وتماشيًا مع توقّعات الاقتصادي إدوارد غلايسر (Edward Glaeser) بــ"انتصار المدينة" في كتابه المعنون بنفس الاسم (Triumph of the City)، جرّاء كثرة الاختراعات البشرية، ونموّ رأس المال الفكري في أثناء الثورة الصناعية التي قادَتها المدن الكبرى التي تعمل ضمن إطار نظامٍ اقتصادي عالمي يعتمد على الاستغلال المُقترن بتسليع المدن وفضاءاتها ومشاعاتها العامّة، واعتداء رأس المال على عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي11 الواقعة على عاتق الأسرة - وفي قلبها النساء - لحساب مراكمة ثروات الأغنياء، من خلال التغيير الإجباري لأنماط الفضاءات العامّة وتحويلها من مشاعاتٍ للحركة والاستخدام اليومي للطبقة العاملة الفقيرة إلى أماكن مُدرّةٍ للربح لصالح المطوِّر العقاري الرأسمالي.

أصبح هذا العصر النيوليبراليّ استعارةً لاحتياجاتٍ إنسانيّةٍ أعمق، مثل العدالة البيئية والسكن اللائق، إلى جانب انعدام المساواة في الحقّ في المدينة بحسب تعبير الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، هنري لوفيڤر

وقد عبّر عن ذلك المُنظّر الاجتماعي والجغرافي ديفيد هارفي (David Harvey) في كتابه "مدن متمرّدة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضَر"، فوصفه بآليّة "التراكم بالتجريد"، بطريقةٍ جعلَت المدينة النيوليبرالية نواةً للحركات الثورية، وليس المصنع كما سبق للفيلسوف والمنظّر الاقتصادي كارل ماركس (Karl Marx) أن أكّد في كتابه الشهير "رأس المال". ومن خلال تبنّي هذه العدسة، يمكننا توسيع رؤيتنا للصراع الطبقي داخل المدن الرأسمالية القائمة على الاغتراب المكاني وسياسات الفصل العمراني وتسليع الفضاءات العامة.

في الواقع، أصبح هذا العصر النيوليبراليّ استعارةً لاحتياجاتٍ إنسانيّةٍ أعمق، مثل: العدالة البيئية والسكن اللائق، إلى جانب انعدام المساواة في الحقّ في المدينة بحسب تعبير الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، هنري لوفيڤر (Henri Lefebre)، في كتابه الذي حمل العنوان نفسه (Le Droit à la ville)، ونُشر قبل شهرَين من اندلاع الثورة الطلابية في فرنسا في أيار/مايو من عام 1968. ويوضح لوفيڤر في كتابه الإشكالية الحضَرية للرأسمالية الصناعية المستغلّة، وأثر تسليع المدينة والتفاوت المكاني بين الأحياء الغنية والفقيرة لناحية توفر الخدمات العامة وتأثيره في التفاعلات الاجتماعية، وما ينشأ عن ذلك من صراعٍ طبقي وتنامٍ للشعور بالاغتراب المكاني والعداء والكراهية بين سكان المجتمع الواحد.12

يضع التمدّن النسوي تجارب النساء في قلب التخطيط العمراني للمدن التي لم تُبنَ تاريخيًا لتكون محايدةً جندريًا جرّاء فشل المخطّطين والمعماريّين في التعرّف إلى العلاقات المُعقّدة وغير المتكافئة بين الجنسَين

وبالإضافة إلى مفهوم الحقّ في المدينة، ركّز الهدف الحادي عشر من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة على جعل المدن شاملة وآمنة وأكثر انسيابية وتوافقًا مع احتياجات أهلها، ما يتطلّب إيلاء المزيد من الاهتمام لتحسين البيئات المبنيّة. لذا، يضع التمدّن النسوي تجارب النساء في قلب التخطيط العمراني للمدن التي لم تُبنَ تاريخيًا لتكون محايدةً جندريًا جرّاء فشل المخطّطين والمعماريّين في التعرّف إلى العلاقات المُعقّدة وغير المتكافئة بين الجنسَين، وتبنّيهم تصميماتٍ قائمة على التكلّف والمباني الضخمة والطرق السريعة التي تدمّر المناطق السكنية لحساب المناطق التجارية والصناعية، وهو الأمر الذي تصدّت له الكاتبة الأميركية، جاين جاكوبس (Jane Jacobs)، في خمسينات القرن المنصرم، حينما عارضَت بشدّةٍ خطط التطوير العمراني التي تسمّم المدن، وطالبَت بعدم تخريب الفضاءات العامّة الموجودة بالفعل والتي توفّر التفاعل الاجتماعي لصالح أغراضٍ رأسمالية، ما وضعَها في مواجهةٍ مع شركات التطوير العقاري عقب نجاحها في وقف مشروع إنشاء طريقٍ سريعٍ في مانهاتن كان ليشطرَ ميدان واشنطن سكوير. وفي عام 1961، نشرَت جاكويس كتابها الرائد "The Death and Life of Great American Cities" لتؤكد فيه أنّ التكلّف في تخطيط المدن الرأسمالية والتعدّي على الأرصفة والحدائق يؤثّر على العلاقات الأسرية ويقضي على روح الطبيعة.

وبالعودة إلى حكاية أحلام التي سمعتُها بينما كانت كلمات الكاتبة الراحلة، حنان كمال، الواردة في كتابها "كراسة خضراء ورسائل" تتردّد على مسمعي: "سأطلب من الله أن يخلقني في مدينة جميلة، فقد جفّت روحي من هذا القبح المحيط".13 في نهاية حديثها، مازحَتني أحلام قائلة: "جايز حظي يطلع أحسن في الميتافيرس" في تلميحٍ منها للحياة داخل المدن الافتراضية المتخيّلة، ثم سألَتني: "طب وإنتِ شوارعكم عملِت معاكِ إيه؟"، فابتسمتُ وسرَحْت…

 

 

  • 1. ويليام شكسبير، مأساة كوريولانوس، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981، الفصل الثالث، المشهد الأول، صفحة 122.
  • 2. اسم مستعار للحفاظ على خصوصيتها.
  • 3. تستأثر مدينة القاهرة دونًا عن غيرها من المدن المصرية باسم "مصر" لدى أبناء القرى المهمّشة.
  • 4. تقع في منطقة العامرية غرب مُحافظة الإسكندرية، وسُميت بهذا الاسم لقربها من منطقة عزل المصابين بالجذام.
  • 5. مثَل شعبي مصري يدل على حالة عدم الانغماس في فعل أمرٍ ما.
  • 6. مقطع من أغنية يونس، كلمات عبدالرحمن الأبنودي، ألبوم طعم البيوت، 2008.
  • 7. طارق إمام، ماكيت القاهرة، منشورات المتوسط، 2021، نسخة إلكترونية على أبجد.
  • 8. نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، منشورات ديوان المصرية، 2022، نسخة إلكترونية على أبجد.
  • 9. Carol Sangor, “Girls and the getaway: Cars, culture, and the predicament of the gendered space”, 1995, University of Pennsylvania Law Review 144, p. 705-756
  • 10. تُصنّف شركة Mercer، المتخصّصة في استشارات الموارد البشرية، عواصمَ العالم ضمن تقريرها السنوي لمستوى جودة المعيشة، بغرض مساعدة الشركات على تحديد قيمة تعويضات الموظفين المبتعثين للعمل في الخارج.
  • 11. نانسي فريزر، وتشيزينا أروتزا، وتثي باتاتشاريا، نسوية من أجل ال99%، ترجمة محمد رمضان، مراجعة إلهام عيداروس، دار صفصافة للنشر، 2019، نسخة إلكترونية على أبجد.
  • 12. مجموعة مؤلفين، نشتري كل شيء: تحولات السكن والعمران في مصر، تحرير: يحيى شوكت، وشهاب إسماعيل، دار المرايا، 2022، نسخة إلكترونية على أبجد.
  • 13. حنان كمال، كراسة خضراء ورسائل، دار العين للنشر، 2022، نسخة إلكترونية على أبجد