أُطلقَت الرصاصةُ التي أشعلَت الحرب السودانية الحالية بالقرب من منزلنا. كان ذلك في صباح 15 نيسان/أبريل 2023، الذي تزامن مع منتصف شهر رمضان. أردتُ اغتنام الفرصة للنوم حتى ساعة متأخرة قبل البدء بوظيفتي الجديدة بعد يومَين، لكنّ الطلقات النارية حالَت دون ذلك. دفعَتني أصوات القذائف والرصاص للقفز من سريري. تصفّحتُ وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن خبرٍ يقين، وأدركتُ أن معركةً بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني تدور بالقرب من المدينة الرياضية في الخرطوم، التي تبعد حوالي خمسة كيلومتراتٍ عن منزلي.
الحرب متوقّعة، أما تداعياتها…
توقّعتُ نشوب الحرب منذ عام 2019، بعدما أُبرِمت صفقة لتقاسم السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع على أنقاض الثورة الشعبية. وزاد يقيني باندلاعها قبل أيام من بدء المعارك، عندما استولَت قوّات الدعم السريع على مطار مروي في شمال السودان.
طيلة تلك السنوات، جرى تمكين قوات الدعم السريع على حساب الجيش الوطني، لما شكّلَته من نقطة تلاقٍ بين القوى السياسية وقائد الجيش؛ بالنسبة للطرف الأول، كانت قوات الدعم السريع أساسيةً للحفاظ على سلطتها، وبالنسبة للطرف الثاني، كانت ضمانةً لقائد الجيش تقيه انقلاب جيشه عليه. والتحالف بين قوى العسكر والسياسة ليس جديدًا على السودان، بل يعود إلى سنواتٍ خلَت. فمنذ عام 1958، تحالفَت النخب السياسية مع الجيش ووصلَت إلى السلطة على متن دباباته. أما اليوم، فتحاول تلك النخب الوصول عبر «التاتشر»، وهو المصطلح العامي المستخدم لوصف الشاحنات العسكرية التي تستخدمها قوات الدعم السريع.
مع ذلك، أُصبتُ بالذعر يومها، فهرعتُ أراجع قائمةً مرجعيةً لأساسيّات الحرب سبق أن أعددتُها: ليس لدينا ما يكفي من طعام. أحتاج إلى دفع فاتورة هاتفي. هل لدينا ديزل للمولد في حالة انقطاع التيّار الكهربائي لأيامٍ عدّة؟ ركضتُ إلى المطبخ لملء كل وعاءٍ ومقلاةٍ بالماء، ربما تنقطع فجأة. كان عقلي يتوقع الأحداث ويسابقها.
مرّت ليالٍ كثيرةٌ من دون أن تعرف عيناي النوم. لم أعرف أين أذهب بابنتي التي لم تكن بلغَت الخامسة بعد في ذلك الوقت. ظننتُ أن غرفتي كانت الأكثر أمانًا في البيت لأن نافذتها محجوبةٌ بمبنًى آخر مواجهٍ لمبنانا. أجبرتُ جميع أفراد عائلتي على النوم في غرفتي. كانت أختي تنام على فراشٍ على الأرض، وأمي على سريرٍ بجواري أنا وابنتي. وبمرور الوقت، لم أعد أنام بسبب الغارات التي كانت تُشنّ بعد منتصف الليل. بات هدير الطائرات المقاتلة يريحني. في الواقع، عندما تكون الطائرة قريبة يكون صوتها منخفضًا بسبب موجة الهواء المضغوط التي تصاحبها. أما إذا ما تضخّم هديرها، فهذا يعني أنها بعيدةٌ وأن قذائفها لن تطالنا.
لم نخرج من المنزل في الأيام الأولى للحرب، إلى أن اضطررتُ وأختي لشراء الطعام. كان القلق رفيقنا طوال الطريق. قلتُ لها: «إذا أصابني شيءٌ ما، تظاهري أنك لا تعرفينني. ابتعدي. لأنّ على واحدةٍ منا العودة سالمة. لا يمكننا أن نترك والدَينا وحدهما». اشترينا السلع الأساسية غير القابلة للتلف، واشتريتُ البسكويت المفضّل لابنتي لأنني أردتُ منحها إحساسًا بالحياة الطبيعية. استخدمنا كلّ ما نملكه من نقودٍ لشراء ما توفّر من طعامٍ لتخزينه. استمتعنا بالخبز الطازج، وكذلك بالسلطة التي تضمّنَت آخر حبّة طماطم كانت في ثلاجتنا.
الرحيل الأول
للحرب أثقالها، ومنها ما أُلقي على عائلتي. باتت المشاحنات روتيننا اليومي كما القصف الجوي. أراد والد ابنتي اصطحابها إلى مدينةٍ أخرى، وكنتُ أنا غير مرتاحةٍ لذهابها إلى مكانٍ آخر من دوني. ومع تسارع وتيرة القصف، افتقدَت ابنتي الحياة الطبيعية، ومدرستها، وأصدقائها، والمطعم الذي نرتاده عادة، والبيتزا المفضّلة لديها، والترامبولين التي تحبّ القفز عليها.
كانت الحرب تقترب أكثر فأكثر، لاسيّما بعد استهداف مكتب المستشار السياسي لقوات الدعم السريع الذي يقع على الجانب الآخر من الشارع حيث نقيم. بدأنا نسمع أن قوات الدعم السريع تحتل المنازل وتطرد أهلها وتنهبها أو تنتقل إليها. لم يحتلوا المنازل فحسب، بل احتلوا المدينة بأكملها. مُحيَ سكّان الخرطوم من مدينتهم. باتت حياتنا رخيصة، لا تساوي أكثر من هاتفٍ أو بضعة نقودٍ يمكنهم نهبها.
بين عشيّةٍ وضحاها، تحوّل شارعنا، القريب من الطريق السريع، إلى محطة باصاتٍ نظرًا لكثافة الحافلات الخارجة من الخرطوم إلى ولاياتٍ سودانيةٍ أخرى، وحتى إلى مصر، في حركة نزوحٍ جماعي. مع ذلك، شعرنا بالحاجة إلى البقاء في مدينتنا. كتب والدي على صفحته على فيسبوك: «البقاء في منزلنا هو في حدّ ذاته مقاومة». لكن بعد شهرٍ من الحرب، كنا نحزم حقائبنا ونهمّ بالرحيل.
شعرنا بالاختناق من مغادرة المنزل، وبالهزيمة أيضًا. اضطربَت معدَتي منذ بداية الحرب، وكذلك هرموناتي الأنثوية، فأتت دورتي الشهرية مرّتين في ثلاثة أسابيع. تحطّمتُ بالكامل وأنا أحزم حقائبي. نظرتُ إلى كتبي التي جمعتُها على مدى خمسة عشر عامًا، ثم إلى لوحةٍ جميلةٍ للفنان عصام عبد الحفيظ كنتُ اشتريتُها لأعلّقها في شقّتي الجديدة. قبل أسابيع قليلةٍ من الحرب، زرتُ معرضه برفقة زملائي وتحدّثنا عن الفن والمقاومة. ظننتُ أن رحلة نزوحنا مؤقتة وقرّرتُ أخذ بعض الكتب وبعضًا من ملابسي ومنتجات العناية بالبشرة.
غادرنا الخرطوم أخيرًا متّجهين إلى مدني، عاصمة ولاية الجزيرة. استغرقَت الرحلة ثلاث ساعات. كنتُ زرتُ مدني مرّاتٍ عدّة في السابق للعمل ورؤية الأصدقاء، لكن في هذه المرّة شعرتُ بالغربة فيها؛ فأنا أصبحتُ الآن غريبةً في بلدي. تعلّمتُ المشي في الشوارع مرةً أخرى، والجلوس في مقهى، والعيش من دون أصوات الطلقات النارية وهدير الطائرات المقاتلة.
على الرغم من بُعدها عن مناطق الاشتباك والمعارك، إلا أن تداعيات الحرب وصلَت إلى مدني أيضًا، ففرغَت رفوف السوبر ماركت، وانخفضَت المخزونات بعد حرق معظم مصانع الخرطوم ونهبها وتدميرها. بعد أن عملنا بجدٍّ لبناء البنية التحتية المتواضعة التي كانت لدينا، اختفَت. كنتُ أمازح صديقًا لي بالقول إنه لا توجد كوكا كولا في البلد الذي ينتج أكبر كمّياتٍ من الصمغ العربي، وهو مكوّنٌ أساسيّ في هذا المشروب.
إن تجربة النزوح في خلال حربٍ دمويةٍ هي تجربةٌ صعبةٌ بحقّ. في تلك الفترة، عجزتُ حتى عن سحب المال من حسابي المصرفي وقتما شئت، فلم أكن أحمل في جيبي أكثر من دولارين، وهو مبلغٌ لا يكفي لابتياع أكثر من فنجان قهوةٍ واحد.
عن حياةٍ كانت
(كانت) حياتي كلّها في الخرطوم. في منزلنا كتبٌ ولوحاتٌ والعديد من التوابل التي كنتُ أشتريها في رحلات السفر. والدتي هي أم النباتات. تدّعي دائمًا أن نباتاتها تبتسم عندما تدخل الحديقة، وتتحرّك عندما تتحدّث إليها. عندما غادرنا، تركنا الثلّاجة تعمل. اعتقدنا أننا سنذهب لبضعة أيامٍ فقط. أمي أخبرَت نباتاتها أننا سنغيب ليومَين ثم نعود، وودّعتها.
قبل اندلاع الحرب، كنتُ قصدتُ إحدى السفارات الأجنبية بغية الحصول على تأشيرة دخول، وتركتُ جواز سفري هناك لإتمام المعاملة. اندلعَت الحرب ولم أكن قد حصلتُ بعد على التأشيرة، فبقيَ جواز سفري عالقًا في السفارة التي أُجلي جميع دبلوماسيّيها. في وقتٍ لاحق، اقتحمَت قوات الدعم السريع السفارةَ ونهبتها.
لم تعُد الخرطوم لنا. حيّنا الذي عاشَت فيه عائلتي أكثر من 150 عامًا لم يعُد لنا. حتى المبنى حيث عشتُ حياتي لم يعُد لنا كذلك؛ سيطرَت عليه قوات الدعم السريع. اليوم، يعيش هؤلاء في غرفنا ويركنون سيّاراتهم في مرآبنا. نزحَ معظم سكان الحيّ في الأسابيع القليلة الأولى من الحرب. أما الذين بقوا هناك، ففقدوا حياتهم. قبل بضعة أيامٍ فقط، رأيتُ صورة وجه قريبتنا المتورّم على موقع إكس. أعرف أن قوات الدعم السريع هي التي قتلَتها. لكنّ المنشور اكتفى بذكر حادثة اختطافها و تعرّضها للتعذيب ثم القتل. ما زلتُ لا أصدّق أن هذا يمكن أن يحدث لشخصٍ أعرفه.
العودة إلى بيتنا الذي جرى انتهاكه هو حلمنا الوحيد المستمر. لكن كيف يمكننا العودة إلى منزلٍ انتُهكَ مراتٍ عديدة؟
حرق الجامعات واغتصاب النساء
غيّرَت قوّات الدعم السريع الحياةَ في الخرطوم. شوّهَت معالمَ المدينة بالكامل، وانتهكَت أجساد أهلها ونسائها.
بعد أيامٍ من مغادرتنا، قرأتُ أن المسلّحين نهبوا البنك في جامعة أم درمان الأهلية، ونهبوا الجامعة نفسها، ثمّ أحرقوا مركز الأبحاث الذي يحوي كتبًا وموارد ومخطوطات. قبل عشر سنوات، احتفلَت عائلتي في المركز، وتبرّعنا بآلاف الكتب من مكتبة جدّي الأكبر، وكان سياسيًا ومؤلفًا وموظفًا حكوميًا.
توالت الأخبار من الخرطوم. وصلَتني رسالةٌ عبر البريد الإلكتروني عن اغتصاب امرأةٍ أجنبيةٍ في أحد الأحياء القريبة من مطار الخرطوم الدولي. الحالات المماثلة كثيرة، لكن المعلومات تبقى شحيحة. اعتبرَت قوات الدعم السريع النساء غنائمَ حربٍ لمقاتليها. فبعد شهرَين على بدء الحرب، أخبرَتني صديقتي أن شقيقها الذي يعمل في جهاز الأمن، شارك في عمليات تحرير شاباتٍ احتجزتهنّ قوات الدعم السريع في المنازل لخدمة الرجال وطهي وجباتهم.
يوميًا، أقرأ قصصًا عن نساءٍ أُسِرن، أو جرى بيعهنّ في أسواق الاستعباد، أو تعرّضن للاغتصاب الجماعي في منازلهنّ. بقي العديد من تلك القصص في ذهني، من ضمنها قصّة شابةٍ أقدمَت على القفز من شرفة منزلها في مبنًى مكوّنٍ من طابقين للنجاة من الاغتصاب.
أصبح نهاري مشابهًا للَيلي. أقضي يومي في رعاية ابنتي ومراعاتها، وكسب عيشنا من خلال عملٍ إلكتروني أنجزه لصالح إحدى المؤسّسات، فيما أقضي ليلي في قراءة الأخبار المأساوية على مواقع التواصل الاجتماعي، والكتابة عن أحداث السودان. عندما أفكر بما فقدتُه أنا شخصيًا، أتذكّر الفتيات اللواتي ما زلن مسجوناتٍ ومستعبداتٍ ويتعرّضن للإرهاب. ما يقلقني ليس قدرتنا على العودة إلى منازلنا التي ما زلنا نملك مفاتيحها ونشتاق لذكرياتنا فيها، إنّما قدرتنا على العيش مرّةً أخرى معًا بعد كلّ ما نشهده من مظالم.
إضافة تعليق جديد