نقاش حول رحلة الحراك النسوي في لبنان: "تبخّر" أم أصبح غير مرئي؟

كنتُ أركن سيارتي إلى جانب شارع فرعي في منطقة الأشرفية في بيروت، عندما أضاء اتصالٌ واردٌ شاشةَ هاتفي المحمول. على الطرف الآخر من الاتصال كان جاد - اسمٌ مستعارٌ لصديق. تعود معرفتي به إلى انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 20191 ؛ انخرَطنا سويًّا في العمل لتأسيس ائتلافٍ سياسي تلتقي ضمنه مجموعاتٌ يساريّةٌ تعتبر نفسها تقدّمية. لم تتماسك تلك المحاولة، وتفكّكَت كليًّا بعد أسابيع على تفجير مرفأ بيروت في الرابع من شهر آب/أغسطس 2020. في الاجتماع الأخير الذي تستعيده ذاكرتي، كنا نراجع الورقة السياسية التي تمكّنا من إنجازها، وكانت على درجةٍ من التقدميّة السياسية لجهة الحساسية تجاه قضايا النساء واللجوء ومجتمع الميم-عين، غير أنها لم ترقَ في صوابيّتها اللغويّة للدرجة التي أرادَتها بعض الرفيقات. شعَرنا يومها بالاستنزاف، بعد نقاشٍ بدا أنه لن ينتهي عن اللغة الصائبة جندريًّا. وقع التشنّج وفُضّ الاجتماع، ثمّ انحسرَت المبادرة لاستكمال العمل، ليتمّ بعدها الإعلان عن فشل المحاولة. 

عندما اتصل جاد لاحقًا، كان بهدف دعوتي إلى جلسةٍ تعريفيّةٍ تقود للانضمام إلى "حركة سياسية". سألتُه عمَّن بدأ "التأسيس"؛ فسمّى لي عددًا من الرجال. شعرتُ بالغضب لمدى محدوديّة الحضور النسائي، على الرغم من كوننا موجوداتٍ وناشطاتٍ ضمن الدوائر عينها. ولكن قرّرتُ تلبية الدعوة.

خلال الاجتماع، نظرتُ من حولي وسألتُ: "هل تلاحظون أنّ هناك مشكلةً ما في القاعة؟". أتاني الجواب من شابٍ يافع: "عدد النساء" (حضرَت لاحقًا شابةٌ أخرى غيري فبتنا اثنتَين فقط). قبلها بأسابيع، كنتُ تبادلتُ الحديث مع هذا الشاب، على هامش لقاءٍ مع إحدى الطالبات التي تحاول تحفيز المقاربة النسوية في مجموعةٍ تنخرط هي والشاب فيها؛ يومها سألَني: "وينن النسويّات؟ تبخّروا؟" . 

على إثر هذا الاجتماع التعريفي، قرّرتُ الانضمام إلى "الحركة السياسية" الصاعدة. على الرغم من ذلك، بقي موقفي متردّدًا تجاه السؤال حول ضرورة نشاط النسويّات ضمن هذا الفضاء السياسي. كنتُ أميل للاعتقاد أنّ الحركات السياسية في لبنان لا تزال تستفيد من حضور ونشاط النساء والنسويّات من دون أن تتصرّف بمسؤوليةٍ تجاه قضاياهنّ.

في مقالي السابق "لماذا نمارس السياسة إن لم تجعلنا سعداء؟" حاكمتُ عواملَ الطرد التي تُصعّب، أو حتى تجعل من المستحيل على النساء البقاءَ في المساحات السياسية. من هذه الزاوية، يبدو تراجع حضور النساء عمومًا، والنسويّات تحديدًا، عن المسرح السياسي بمثابة ردّ فعل، أي نتيجةً لفعلٍ أو نهجٍ طاردٍ لهنّ.
في هذا النصّ، سأحاول الاشتباك مع الجزء المتّصل بمسؤولية النسويّات عن الفراغ  في المشهد السياسي، من خلال مراجعة السنوات الـ 15 الماضية في لبنان، مع النسويّتَين مايا عمّار وسحر مندور. 
مايا عمّار صحافيةٌ وناشطةٌ ومُدافعةٌ نسويّة، تولّت أدوارًا مُحرّكةً في حملة تشريع حماية النساء من العنف الأسري في لبنان. أمّا سحر مندور، فهي صحافيةٌ وكاتبةٌ ونسويّةٌ تقاطعيّةٌ وناشطةٌ سياسية2

"أين تبخّرَت النسويات؟"

لم يتبخّر أحدٌ بالطبع، غير أن همودًا يبدو فاقعًا تلا الصعود الذي حقّقَته المجموعات النسوية، وهذا ما يُبرّر سؤال الشاب. تصِف مايا عمّار ما يحدث بأنه "حالة من التشتّت أرساها المموّلون بين الجمعيات النسوية". أمّا سحر مندور، فتعتقد أنّ لـ "انفصال مجموعةٍ من النسويات عن المحيط السياسي والاجتماعي أثرٌ أساسيّ على التراجع الذي أصاب التنظيم النسوي". 

تستعيد سحر المرحلة اللاحقة لعام 2018، باعتبارها مرحلة تراجع زخم الحراك النسوي بالتوازي مع استئثار مجموعةٍ صغيرةٍ من النسويات بالقرار، وذلك لجهة تنظيم مسيرة الثامن من آذار/مارس التي كانت أصبحَت مركزيّةً للحراك النسوي اللبناني وقتها. تسرد سحر تفاصيل ما حصل بين عامَي 2019 و2020، أي بعد انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر: "كنا قد لازمنا الشارع طيلة خمسة أشهر، انتهَت بشكلٍ مُحبِطٍ من دون تحقيق أيّ أهدافٍ سياسيّة، فبدأ الناس ينفضّون عن المظاهرات وبدأ الناشطون والناشطات ينشغلون بالمناكفات". في خلال المرحلة التحضيرية لمسيرة الثامن من آذار/مارس 20203 ، "شاركتُ في حوالي خمسة اجتماعاتٍ تحضيرية، وعلى إثرها شعرتُ بأنّني لا أرغب في السّير في المسيرة"، تقول سحر، منتقدةً الانفصال عن الواقع السياسي والمعيشي الذي هيمَن على أجواء التحضير لهذه المسيرة، حيث استأثرَت باللحظة "مجموعةٌ صغيرةٌ تستثني كلّ المنظّمات العاملة على القضايا النسوية وتحتكر القرار". تقول سحر بسخريةٍ إنه "لحسن الحظ جاءت جائحة كورونا وقتها، لنقول إنّ سبب ضمور المشاركة في المسيرة يعود إلى خوف الناس من التجمّعات، ما حفظ ماء الوجه لجهة تآكل الحركة بعد أن كانت في حالة صعودٍ خلال السنوات السابقة".
تُضيء سحر في حديثها هذا على معادلةٍ معاكِسةٍ لِما اعتدنا عليه من إقصاءٍ للنسويّات الأكثر راديكاليةً عن المساحات السياسية، إذ يظهر في هذه الحالة أنّ "الراديكاليّات" هنّ مَن تمكّنَ من ممارسة الطرد والإقصاء بحقّ مَن لا يعتمِدن درجة الصوابيّة عينها.
ما حصل على الصعيد التنظيمي في عام 2020 يجد أساساته في جهود تنظيم مسيرة 2018؛ حينها سارَت مسيرتان حملتا عنوانَين مختلفَين: الأولى رفعَت شعار "الحقوق الاقتصادية قضيّة نسويّة"، والأخرى استهدفَت قضيّة التزويج المُبكر. ترى سحر أنّ المسيرة الأولى أتَتَ منفصلةً عن الواقع الاقتصادي والسياسي المُعاش، بالرغم من شِعارها: "الحقوق الاقتصادية قضيّة نسويّة، لكن هذا العنوان لم يكن إلّا إعلانًا عمّا هو واضح؛ معظم القضايا التي نعمل عليها كنسويّاتٍ هي في جوهرها قضايا اقتصادية. لكنّ السؤال المركزي الذي يجب علينا طرحه كنسويّاتٍ يدور حول ماهيّة عملنا السياسي الفعليّ تحت هذا العنوان؛ هل حشَدنا؟ مع مَن تعاونّا؟ هل أجرَينا دراسةً واحدةً عن اقتصاديّات القرى؟ هل عملنا على تحليلٍ نسوي واحدٍ للأزمة الاقتصادية؟". لهذا، تجد سحر أنّ شعار المسيرة الأولى حينها "لم يكن إلا إسقاطًا لعنوانٍ من أجندةٍ ما على واقعٍ غير قائم". 
تستعيد سحر موقفًا حدث خلال مسيرة الحقوق الاقتصادية في عام 2018، حين عبّرَت سيّدةٌ لإحدى مسؤولات التنظيم عن أمنيتها لو اجتمعَت المسيرتَان (الاقتصادية والتزويج المُبكر) في مسيرةٍ واحدة. حينها، أتاها الجواب: "نحن لا نؤمن بمؤسّسة الزواج". تنتقد سحر مركَزة المنظِّمات لأولويّات المسيرة تبعًا للحدود الضيّقة لمعتقداتهنّ الشخصية، وتجِد أنّ هذه المقاربة تتناقض مع فكرة التضامن نفسها: "حتى لو كنتُ معارِضةً لمؤسّسة الزواج؛ هل هذا يُبرّر لي أن أتخلّى عن مساندة النساء المعنَّفات؟ هل هذا يُبرّر لي عدم مساندة النساء لنيل حقهنّ في الحضانة؟". يأتي انتقاد سحر من زاوية استراتيجيّات العمل وكيفيّة اختيار الوقت المناسب لكلّ معركة: "حينها كان التزويج المبكر قضيّةً لها زخمها الواسع، بموازاة تفاقم أزمة اللجوء وتحوّل العائلات إلى تزويج بناتهنّ للتخفيف من الأعباء الاقتصادية؛ وهذا ما جعل الانفصال عن هذا المطلب لرفع شعاراتٍ اقتصاديةٍ غير واضحةٍ خطوةً في غير مكانها". في السياق الذي تطرحه سحر، يتحمّل عددٌ من النسويّات - اللواتي يُصنّفنَ أنفسهنّ أكثر تقدّميّةً - مسؤولية تراجع الزخم. وبناءً على وصفها الساحة اللبنانية بأنها "ساحةٌ كلاميةٌ يربح فيها صاحب/ة الصوت الأعلى"، نستنتج أنّ هذه الأقلّية استخدمَت "الصوابيّة" لطرد باقي النسويّات من الساحة. 

بدورها، تُصوّب مايا عمّار على الدور الذي أدّته المنظّمات الدولية المموّلة في تحويل ساحة العمل النسويّة إلى ساحةٍ تنافسيّة، ما أرسى حالةً من التشتّت: "التوزيع غير المتكافئ للموارد الذي أرساه المموّلون/ات له أثرٌ أساسي لجهة صعوبة اجتماع النسويّات ضمن إطارٍ تنظيميّ موحّد، وأثَر هذا أكبر من فرضيّة وجود اختلافات رأيٍ جوهريّةٍ بين النسويّات". تعيدني هذه الملاحظة إلى إلى حديثٍ دار يومها مع صديقٍ لي عن كون الغالبية المشارِكة في تلك المسيرة من خارج المساحة السياسية التي نعرفها؛ فقد كانت غالبية النساء المشارِكات من غير العربيّات، مقابل تراجع حضور صاحبات القضايا من النسيج اللبناني، من لبنانياتٍ وفلسطينيّاتٍ وسوريّاتٍ وعاملاتٍ مهاجرات. 

وبعيدًا عن مركزية مسيرة الثامن من آذار/مارس، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الحراك النسوي في لبنان خلال المرحلة الممتدة بين عامَي 2010 و2020، اتّخذ شكل حملاتٍ مركّزةٍ حول قضايا محدّدة. في هذا السياق، تشدّد مايا على أنّ "هذه الحملات التي شكّلَت محطاتٍ نسويةً كانت بالأساس مُحرّكةً من قِبَل منظّماتٍ نسوية، وعندما أصبح من الصعب إحداث تغييرٍ في ظلّ الشّلل السياسي المُتصاعد منذ عام 2022، لم يعُد عمل هذه المنظّمات مرئيًّا في المشهد السياسي اللبناني". هذا ما تعنيه مايا بقولها إنّ الحراك النسوي لم "يتبخّر" بالضرورة، لكن من المرجّح أنه مستمرٌّ بشكلٍ "غير مرئي". 

حملات، لا حركة

بين اللامرئية، والتشتّت والانفصال، تطرح مايا سؤالًا عن حقيقة وجود حركةٍ نسويةٍ في لبنان. تُعرّف مايا الحركة السياسية بأنها "مجموعة أشخاصٍ من خلفيّاتٍ متعدّدة يُشكّلون ويشكّلن إطارًا تنسيقيًّا في ما بينهم/ن، يكون على شكل تحالفٍ حول قضايا معينة، وذلك لوضع استراتيجياتِ عملٍ مشتركة". لهذا، تتساءل مايا عن مدى انخراط النسويّات في النضال السياسي العام. وما تعنيه بكلمة الانخراط هنا، هو: "الجمع بين المنظار النسوي ونظرية التغيير السياسي وخوض الحياة السياسية معًا، لمواجهة التحديات الآنية التي يفرضها النظام، وتقديم حلولٍ مشابهةٍ لِما نؤمن به". تُجيب مايا على سؤالها بالنفي، وهذا يعود إلى "النقص الذي جعلَنا نشعر بأنّ الحركة النسويّة في حالة همود".
لكن ما الذي يحول دون تأسيس إطارٍ تنسيقيّ كهذا؟ تُجيب مايا أنّ من بين الصعوبات: "تهمة «عدم الراديكاليّة»"، وتعتبر أنّ "هذه التهمة باتت أكثر وضوحًا، كونها انحصرَت بالصوابيّة السياسية". وتردّ ما على ذلك بأنّ "محاولة التغيير من الداخل - أي الإصلاح القانوني وإصلاح السياسات العامة - لا تعني عدم الراديكالية في الواقع". كما تشير إلى صعوبةٍ أخرى أدّت إلى استسهال الحُكم على العديد من النسويّات، وهي "الفرق الشاسع في القدرة على الوصول إلى المعلومات بين جيلنا (الثمانينات ومطلع التسعينات) والجيل الجديد". تخلص مايا إلى أننا اليوم أكثر بُعدًا عن احتمال تشكيل حركةٍ نسويّةٍ بالمعنى التنسيقي في ظلّ "النشاطية الأونلاين online activism"، حيث باتت الفردانيّة أكثر رسوخًا في النضال".

تبدو ملاحظة مايا لافتةً للانتباه عندما نقرأها في سياق التقاطعات بين الحملات النسوية والحراك السياسي العام في لبنان. على سبيل المثال، حملة تشريع حماية النساء من العنف الأسري التي انطلقَت في عام 2009، أي قبل انطلاق المسيرة العلمانية في نسختها الأولى عام 20104 ، والتي تلاها انطلاق حراك إسقاط النظام الطائفي عام 2011. ما كان مشتركًا بين المسيرة العلمانية وحملة تشريع حماية النساء، هو الاشتباك مع النظام الطائفي وقوانين الأحوال الشخصية والمحاكم والأحزاب الطائفية التي تمكّنَت في آخر المطاف من إعاقة تحصيل الحملة مطالبها كاملة، بالرغم من صدور قانون "حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري" عام 2014. في المقابل، تمكّن الحراكُ العلماني من فتح الباب لإتمام الزواج المدني على الأراضي اللبنانية أمام الكاتب بالعدل، وقد تمّ تثبيت عددٍ من الزيجات بهذه الطريقة وذلك حتى عام 2015، عندما قرّر وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق التوقّف عن تسجيل أيّ زواجٍ يحصل على الأراضي اللبنانية خارج المحاكم الطائفية. خلال هذه الفترة، كانت التحرّكات السياسية عمومًا تصبّ في صالح تحسين ظروف النساء داخل الأُسَر، من دون أن تتأتّى بالضرورة عن توجّهٍ نسوي. لكنّ التحوّل الذي حصل خلال السنوات اللاحقة، والذي تشير إليه سحر مندور بحلول مسيرة الثامن من آذار/مارس محلّ المسيرة العلمانية، إلى جانب الانتصار المتمثّل بإقرار قانون "الحماية من العنف الأسري" والتغيّر الذي أصابَ المفاهيم على هذا الصعيد، أدّى بصورةٍ أو بأخرى إلى توثيق الرابط المباشر بين هذه القضايا وبين الحراك النسوي في لبنان. 

هنا، لا بُدّ من العودة إلى النجاح الذي حقّقَته نسوياتٌ ناشطاتٌ في مجموعاتٍ مختلفة، بالتعاون مع البلوك النسوي5 ، بتنظيم مسيرةٍ نسويةٍ حاشدةٍ ذات رسالةٍ مؤثّرةٍ لتثبيت الدور الذي أدّته النساء في انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر. بعد الزخم الذي حقّقَته هذه المسيرة، بدأَت بعض النقاشات عن ضرورة تنظيم مسيرةٍ علمانية، حيث كان مهمًّا للبعض أن يُستعاد عنوان العلمانية ويُخلق توازنٌ مع ما أنجزَه عنوانُ النسويّة. بغضّ النظر عن هذا النقاش، ما من شكٍّ في أن الحضور النسوي بدا عضويًّا خلال انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، من دون أن ينفصل وينعزل عن محيطه ولا أن يذوب أو يختفي فيه؛ وهنا تكمن المفارقة في بدء تراجعه وصولًا إلى اللامرئية في المرحلة اللاحقة. وتُشكّل مسيرةُ الثامن من آذار/مارس 2020 المؤشّر الفاقع على ذلك. 

 اللحظة السياسية والقضية 

في عام 2009، انطلقَت "حملة تشريع حماية النساء من العنف الأسري"6 . تتفق كلٌّ من مايا وسحر على محوريّة هذه الحملة ونموذجيّتها في السياق اللبناني. تعتبر سحر أن هذه الحملة "وسّعَت الحراك النسوي وأخرجَته من مكاتب النقابات والأحزاب إلى الشأن العام، والأهمّ من ذلك أنها أثّرَت في مفاهيم معينة، مثل كون العنف الأسري شأنًا عامًا وليس أمرًا خاصًّا بالعائلة". كما ترى أنّ تلك الحملة: "أبرزَت الخللَ البنيويّ؛ ولم تقتصر على إقرار القانون، بل أضاءت على العنف من زاويا بنيويّةٍ جسديّةٍ وجنسيّةٍ ومعنويّة، وكذلك عنف المحاكم الطائفية. وهذا ما وسّع دوائر التفاعل معها".
تلا هذه المرحلة فترةُ "مدّ الحريات". بين عامَي 2010 و 2018، شهد البلدُ الكثير من التحرّكات التي تقاطعَت مع الحراك النسوي، بدايةً من قضية الأملاك العامة البحرية، مرورًا بنظام الكفالة وحقوق العاملات في المنازل، وصولًا إلى قضية أهالي المخفيّين قسرًا، وحراك المجموعات الفلسطينية في المخيّمات… هذه التقاطعات جعلَت تنعكس في مسيرات الثامن من آذار/مارس بحسب مندور، فبدا كأنّ تلك المسيرة حلّت محلّ المسيرة العلمانية: "أصبحَت حركةً اعتراضيّةً ومدنيةً كبيرةً عابرةً للطوائف". في هذا السياق، تستعيد سحر مسيرتَي عامَي 2016 و2017، وتعتبر الأخيرة من أجمل المظاهرات التي شهدَتها في حياتها: "شارك فيها كلّ الناس، من قُدامى اليسار إلى المجموعات الفلسطينية، والمجموعات السورية المشكّلة حديثًا، وأهالي المفقودين، والعاملات المهاجرات، وأفراد مجتمع الميم-عين…". 

في تتبّع ما قالته سحر، يظهر أن الحراك النسوي بين عامَي 2009 و2020، شهد صعودًا في المرحلة التي كان النضال فيها مرتكزًا على قضايا محدّدةٍ مثل العنف الأُسري وقوانين الأحوال الشخصية، لينسحب الأمرُ على الحرّيات العامة. كانت هذه الجهود تتكثّف سنويًّا في مسيرة الثامن من آذار/مارس، حيث تظهر نتائجُ تراكم جهود المرحلة السابقة، فيكتسبُ فحوى الحراك النسوي مرئيّته أو ظهوريّته في هذه المناسبة. لكنّ هذه المرئيّة أُصيبَت بالتراجع، وذلك مع تمكّن أقليّةٍ نسويّةٍ تعتمد خطابًا منفصلًا عن واقع العمل والنضال الحاصل؛ خطاب يتّسم بالراديكاليّة التنظيريّة التي تحوّلَت إلى عنصرٍ طاردٍ لفئةٍ واسعةٍ من النساء والنسويّاتٍ والمنظّمات النسويّة. 

إلى جانب الشقّ المتّصل بالتجمّع حول قضيّةٍ محدّدة، تُضيف مايا عنصرَ اللحظة السياسية: "مرّت لحظاتُ صعودٍ للحراك النسوي بالتوازي مع إمكانية إحداث إصلاحاتٍ قانونية. أي عندما كان الضغط لتحصيل إصلاحاتٍ قانونيةٍ أمرًا ممكنًا، كان الزخم الحركي النسوي حاضرًا". لكن اليوم، مع "انتفاء القدرة على الإصلاح القانوني في ظلّ شلل عمل مؤسّسات الدولة في لبنان، نتج انسدادٌ في أفق بناء زخمٍ حول أيّ قضية". 

بالنسبة لكلٍّ من مايا وسحر، يتطلّب إعادة الزخم للتحرّكات النسوية التجمّعَ من جديدٍ حول قضايا محدّدة، لاسيّما أن المكاسب التي حقّقَتها الحملات المُدافِعة عن حقوق النساء بقيَت قائمةً على الرغم من همود الحراك النسوي بصورةٍ عامة. تُشدّد مايا على أهميّة بناء إطارٍ تنسيقي جامع، وهذا برأيها "يحتاج إلى التوقّف عن انتظار وصول جميع الناشطات والمجموعات إلى مستوًى من التطابق الفكري. يجب أن نضع أهدافًا محدّدةً وواقعيةً لا تصِل حدّ إسقاط النظام الطائفي". لا تستسلم مايا لجهة تغيير شكل النظام هيكليًّا، لكنّها مقتنعة بحاجة "النسويات الناشطات ضمن المجموعات السياسية المختلفة اليوم إلى إيجاد إطارٍ تنسيقيّ، أقلّه لتفريغ عبء التجربة السياسية وصعوباتها".

بدورها، تُلاحظ سحر أنّ على الرغم من الهمود التنظيمي والحركي للنسويّات "لم تصبح البرامج التلفزيونية أكثر ذكوريةً ممّا كانت عليه، مثلًا. وهذا يُعيدنا إلى جذريّة الإنجازات المُحقّقة، والتي أصابَت المفاهيم المُجتمعيّة". في النقاش العام، لا تشعر سحر بأنّ العودة ممكنةٌ إلى تقبّل العنف الأسري على سبيل المثال، أو التنمّر أو قضايا حرمان النساء من الحضانة. أما في ما يخصّ موضوع المثليّة الجنسية الذي لا يزال عالقًا، سواء على المستوى التنظيمي أو على مستوى المكاسب القانونية، فتُسجّل سحر ملاحظةً عن تبدّلٍ ثابتٍ نوعًا ما في الخطاب العام عن القضية. مثلًا، تُشير سحر إلى أننا اليوم "نسمع ملامةً أكبر تُساق ضدّ خطاب أمين عام حزب الله حسن نصرالله عندما يتكلّم ضد المثليّين/ات، بمعنى أن ثمّة استغرابٌ لكونه يولي الموضوع أهميةً وتركيزًا من الأساس في بلدٍ منهارٍ اقتصاديًا وسياسيًا"7 .

مراجعة ذاتية

أتشارك مع مايا وسحر الشعورَ بالإرهاق والإحباط الذي أشارَتا إليه في مواضع مختلفة. في سياق المقابلة، عبّرَت مايا عن هذه الحالة بالقول: "في جيلنا، شهِدنا الكثير من محاولات التنظيم السياسي، واليوم نعيش إحباطًا وارهاقًا، كنساءٍ تحديدًا، تجاه العمل السياسي… الرجال مستمرّون ولا يشعرون بالمستوى عينه من الإرهاق".
من زاويتي، كوني اخترتُ النشاطيّة السياسيّة ضمن مجموعاتٍ لم تؤسّسها نسويّات، وجدتُ نفسي أنسحب مرارًا وتكرارًا تحت وطأة الشعور بالاحتراق النفسي والإرهاق. أمّا رفاقي من الرجال، وكونهم لا يواجهون الصعوبات عينها التي تواجهها النساء لتحصيل دورٍ ما، فإنّهم موجودون ومستمرّون. 
اليوم، تتعامل نسويّاتُ الجيل الجديد الناشطاتُ ضمن مجموعاتٍ وأحزابٍ سياسية، مع رفاقٍ من جيلهنّ كما مع رجالٍ من أجيالٍ أكبر. يُفاقم هذا من صعوبة التجربة، ويضع النسويّات أمام الأساليب السابقة عينها التي كانت طاردةً لمَن سبقنَهنّ. في مراجعةٍ ذاتيةٍ لتجربتي، يبدو لي الانسحابُ من المساحات السياسية مشابهًا للأسلوب الانفصالي الذي تحدّثَت عنه سحر، حيث تراوح موقفي من هذه المجموعات التي كنتُ جزءًا منها، بين اعتبارها محاولةً تقدّمية، إلى اعتبارها تنتحل أوصافًا لا تشبه ممارساتها أو أفكار غالبية أعضائها. 
في الحالتَين، تبرز هوّةٌ بين تعريفي الخاصّ لِما هو تقدّمي على مستوى آليّات العمل، والمساحات الآمنة، والمشاركة الفعّالة، والمحاسبة، وكسر الأنماط السياسية التقليدية… وبين ما تعتبره هذه المجموعات تقدّميًّا، ويكون غالبًا تقدّميًا بالمقارنة مع السائد، أي متقدّمًا عنه، من دون شرط اختلافه جذريًا عنه. ولا بدّ لي من الاعتراف بأنّني في كلّ المرّات التي عاودتُ فيها الانسحاب من مجموعةٍ سياسيةٍ ما، كانت أسبابي متّصلةً بهذه الهوّة المفاهيمية التي تجعلني في موقعٍ منفصلٍ عن واقع المكان السياسي الذي أحاول العمل ضمنه، في ظلّ تشتّتٍ يستبعد القدرة على تخيّل تكتلٍ مع نسويّاتٍ أخرياتٍ يقدّم طرحًا مشتركًا ضمن هذه المجموعات. والحال أنّ النسويات اللواتي لم يتنازلنَ عن معركتهنّ، وأيضًا لم ينضممنَ إلى مجموعة الاستئثار الراديكاليّ أعلاه، يُدفع بهنّ إلى خارج المعادلة السياسية من قبل الطرفَين. ولا يُمكن كسر حلقة الاستبعاد هذه ما لم يتمّ بناء إطارٍ تنسيقيّ أكثر قدرةً على نقل التجربة وتقديم الدعم بين النسويّات في مختلف مواقع نشاطهنّ ونضالهنّ.

 

  • 1 بتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، انطلقَت في لبنان انتفاضةٌ شعبيةٌ على إثر أزمةٍ ماليةٍ كانت بدأت تتجلّى مع تراجع السيولة المالية في المصارف. يربط الإعلام انطلاق الانتفاضة بقرار وزير الاتصالات حينها، محمد شقير، إضافة ضريبة اتصالاتٍ على استخدام تطبيق "واتساب".
  • 2تجدر الإشارة إلى أن الجانب الشخصي أدّى دورًا مركزيًّا في اختيار كلٍّ من مايا عمّار وسحر مندور لإجراء هذه المقابلة. فقد سبق للكاتبة أن أجرَت أحاديث شخصيةً مع كلّ منهما تناولَت المظاهرات النسوية في بيروت والأجيال النسوية الأصغر سنًّا، ما دفعها لاحقًا لاختيار محاورَتهما للإجابة على الأسئلة التي يطرحها المقال.
  • 3 المسيرة السنويّة بمناسبة اليوم العالمي للنساء.
  • 4انظر/ي البيان الصحافي لمسيرة العلمانيّين نحو المواطنة - نيسان/أبريل 2010
    https://lkdg.org/node/3509
  • 5البلوك النسوي هي مجموعةٌ نسويةٌ قاعديةٌ من بين مجموعاتٍ عديدةٍ مشابهة، نسوية وغير نسوية، نشأَت بعد حراك عام 2015 في لبنان، واستمرّت لتؤدّي دورًا خلال انتفاضة 17 تشرين 2019. يتشكّل البلوك من أفرادٍ نسوياتٍ ومجموعاتٍ مختلفةٍ تحمل قضايا عمّالية، وأُسرية، وقضايا تتصل بالحرّيات العامة والشخصية من منظورٍ نسوي.
  • 6ضمّ التحالف حينها أكثر من خمسين منظمة غير حكوميةٍ لبنانية. تعمل بعض هذه المنظمات أساسًا في مجال مناهضة العنف ضدّ النساء تحديدًا، بينما يعمل بعضها الآخر في مجال حقوق النساء عمومًا، لكن أكثرها منظمّاتٌ مدنيةٌ تعمل تحت مظلّة حقوق الإنسان.
  • 7إثر خطاب التحريض والكراهية ضد أفراد مجتمع الميم-عين الذي تكثّف عام 2023 وجاء في سياق مزايداتٍ بين أحزاب اليمين اللبناني، ونتج عنه هجماتٌ على أفرادٍ من مجتمع الميم-عين في الشوارع والأماكن العامة (مثال). على الرغم من ذلك، فإنّ ما حصل لا يُلغي وجودهم/ن وأصواتهم/ن ونضالاتهم/ن المستمرّة التي لا تنفكّ تصرّ على البقاء وإعلان الوجود والمواجهة، مدعومةً بتحالفاتٍ سياسيةٍ تراكمَت على مدى السنوات الماضية مع منظّمات المجتمع المدنيّ والمجموعات النسويّة.

تم إنجاز هذه المادة بدعم من مؤسسة CREA

إلهام برجس

إلهام برجس حقوقية تعمل في مجال البحث القانوني والسياسات العامة.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.